قال لي الروائي الجزائري الطاهر وطّار مرة إن الفنادق في الجزائر تبرمجك على دهشة من نوع خاص. فأنت تندهش من كونها لا تتوفر على أكثر من 50 ألف سرير، في بلد تقترب مساحته من مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع، ويقترب عدد سكّانه من 40 مليون نسمة. وتندهش من وجود عواصم لولايات لا تتوفّر على فنادق، ومن فنادق حاملة لخمس نجوم، لكن معظمها لا يتوفر على لوحة زيتية أصلية، أو تحفة تمنحها روحاً ولمسة خاصتين.
ماذا كان العمّ وطار سيقول لو اكتشف فندق "السّاحة" في قلب مدينة "برج بوعْريريج" التي تبعد شرقاً بـ200 كيلومتر عن الجزائر العاصمة؟ حيث يجد زائره نفسَه يطرح هذا السؤال: هل هو فندق أم متحف؟
وستكون دهشته مضاعفة إذا دخله بعد زيارة متحف/ قلعة المقراني، التّي تبعد عنه بمائة متر فقط. وقد كانت مقرا لقائد ثورة 1871 ضدّ الفرنسيين، وباتت مصنفة من طرف وزارة الثقافة، ضمن التراث الوطني، ذلك أن ما تتوفر عليه من تحف وصور لا يُشكل إلا عشر ما يتوفر عليه فندق "الساحة"، المملوك للمخرج المسرحي ربيع قشي (1965).
يعود تاريخ تشييد المبنى إلى أربعينات القرن العشرين، من طرف السيد بن سالم، الذي كان عضوا في البرلمان الفرنسي ممثلا للجزائريين، الذين كانوا يُسمون في الأدبيات الفرنسية بـ"الأهالي". وكان واحدا من نخبة الأطباء الجزائريين، في زمن لم يكن يُسمح فيه للجزائريين بأن يتجاوزا المرحلة الابتدائية من التعليم. والمبنى بهذا لا يستمد أهميته من تشكيلة التحف والمصنفات، التي يضمها فقط، بل أيضا من كونه كان مسكنا عائليا لأسرة جزائرية استطاعت أن تنجب طبيبا، في الثلث الأول من القرن العشرين.
يتكوّن المبنى من طابق أرضيّ يضمّ مقهى متخصصاً في الشاي الأخضر، ويعرف بين السكان بمقهى الشاي. ولعلّه من بقايا المقاهي التي لا تزال تمنح لزبائنها فرصة الجلوس إلى طاولات في الهواء الطلق، في ظلّ استفحال ظاهرة المقاهي المغلقة.
إذا اعتليتَ برج قلعة المقراني المبنية أصلاً فوق ربوة صخرية، فسوف تدرك أن مبنى الفندق يشكل قلب مدينة برج بوعريريج، التي يقال، من ضمن الروايات، إن اسمها ينسب إلى أبي عروج شقيق خير الدين عروج القرصانين العثمانيين، اللذين جاءا إلى الجزائر في مطالع القرن السادس عشر لتحرير مدنها الساحلية من الإسبان والبرتغاليين، فكان ذلك مقدمة لأن تصبح الجزائر تابعة للباب العالي في إسطنبول، إلى غاية وقوعها في أيادي الفرنسيين عام 1830.
يتكوّن المبنى من طابق أرضيّ يضمّ مقهى متخصصاً في الشاي الأخضر، ويعرف بين السكان بمقهى الشاي. ولعلّه من بقايا المقاهي التي لا تزال تمنح لزبائنها فرصة الجلوس إلى طاولات في الهواء الطلق، في ظلّ استفحال ظاهرة المقاهي المغلقة، وتلتقي فيها الشرائح العمرية كلها، في ظل استفحال ظاهرة المقاهي الشبابية الأنيقة، وطابق ثان هو المساحة المخصصة للفندق، فكأن البعد الشعبي المعتق للمقهى هو مقدمة نفسية للأبعاد التاريخية، التي تتميز بها تحف ومصنفات الفندق.
قبل 12 عاماً، كنت أشرب شاياً في المقهى. ولاحظتُ حركة غير طبيعية بين الطابقين. حيث يصعد أشخاص من المقهى إلى الطابق الثاني، ثمّ ينزلون بعد ربع أو نصف ساعة وهم يتحدّثون عن أشياء شاهدوها يصفونها بالجميلة والغريبة.
يومها كانت الهواتف الذكية التي تلتقط الصور، نادرةً، فلم يكونوا يصوّرون ما كانوا يتحدثون عنه. فلما عدتُ مرةً أخرى في زمنٍ انتشرتْ فيه الهواتفُ الذكية، لاحظتُ أنّ كلَّ من يعود من الطابق الثاني إلى المقهى يستعرض ما التقط من صور. وتتشكّل حوله حلقة تكثر فيها عبارات من قبيل "كانت أسرتي تملك مثل هذا"، و"ليت هذا الزمن يعود"، و"لقد غابت البركة منذ غابت هذه الأشياء"، و"إنها بركة الذاكرة".
لقد توفّر لديّ ما يكفي من الفضول لآمرَ نفسي بالصّعود. وكانت الدهشة تنتظرني على بعد درجات من السلّم الرخامي. إذ واجهتني تحفٌ صغيرة على جنبات السلّم، قبل الوصول إلى باب الطابق أصلاً. فكأنها ومضات إشهارية منتقاة لفيلم أو عرض مسرحي تهدف إلى تحريضِ من يشاهدها على مشاهدة العرض.
أعرف المسرحي، ربيع قشي، مالك الفندق. وأعرف جنونه وجنون عروضه المسرحية، منذ بداية تسعينات القرن العشرين. فهو قد غامر، فصوّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على كرسيّه المتحرّك، في عرضه المسرحي "القرص الأصفر" عام 2014، وقدّمه في مهرجان ومسرح حكوميين، فكانت العبارة التي قلتُها بيني وبين نفسي، وأنا أمنح يدي لمقبض الباب الخشبي الذي سيسمح لي بالدخول: "يفعلها ذاك المجنون". ثمة مشاريع لا ينجزها إلا المجانين، رغم أنها تحيلك على صفاء العقل والروح.
قلت صفاء العقل والروح؟ لن أغامر، فأستبدل وصفا للشعور الذي ينتاب زائر الفندق للوهلة الأولى، بوصفٍ غير هذا. هنا عليّ أن أستعين بالحسّ السينمائي لأرصد اللحظة، باستحضار ما قاله لي مخرج الأفلام القصيرة، عصام تعشيت، حين واجهَها قبل شهور. قال: "كنت أجد صعوبة في توفير المبرّر السينمائي لإقحام مشهد يتعلّق بالذاكرة في أفلامي، داخل مشاهد تتعلق بنبض الحياة الحالية، ذلك أننا تعودنا على الحكم الجاهز الذي يقول إن ما يتعلذق بالذاكرة، مرتبط بالموت والزوال وفوات الأوان، غير أن انتقالي من زمن المقهى الضاجّ بدبيب الناس، إلى زمن الفندق الضاج بذاكرة آبائهم وأجدادهم، جعلني أدرك أن الحاضر والماضي، حين نحسن الجمع بينهما، يمثّلان وجهين لعملة واحدة".
وأنا أدخل، اقترفتُ غلطة إنسانية، هي غفلتي عن فرحة القائم على الاستقبال في الفندق بقدومي. وحتى أضع الغلطة في سياقها البشع أقول إنه كان زميل دراسة، لم ألتقِه منذ سنوات. ومردّ تصرفي ذاك، كما شرحت له لاحقاً، أنني كنت أتمنّى ألّا أجدَ إنساناً يشوّش عليّ استعدادي لاختراق الزمن، من خلال التفاعل مع ابتسامات التُّحف والمصنفات التي كانت مزروعة في جنبات الرواق المفضي إلى 11 غرفة، هي كلّ ما يتوفر عليه الفندق.
يومها كنت مشغولاً بهواجس شكلية تتعلق بالكتابة الروائية؛ منها: هل تعد الضخامة من بين المعطيات، التي تستمد منها الرواية أهميتها؟ فكان العمق التاريخي والإنساني والحميمي والفني والحضاري والثقافي الذي وقفت عليه في فندق لا يتضمّن إلا 11 غرفة و25 سريراً، طريقاً إلى إيماني بأن العبرة بالعمق، وليس بالاتّساع.
تحظى التحف الموجودة في الرواق بضوء حميم يأتي من قناديل هي نفسها تحف فنية وتاريخية، قبل دخول المصباح الكهربائي إلى الفضاء الجزائري. مثلما خلفت الخزائن الحديثة الصناديق الخشبية المنقوشة، التي نجد منها صندوقين يعود أحدهما إلى عهد الدولة الحمادية (1014 ـ 1152 للميلاد) قبل أن تنقل عاصمتها من منطقة قريبة من مدينة برج بوعريريج، حيث يتواجد الفندق، إلى مدينة بجاية، التي كانت تسمّى "الناصرية" حينها، فيما يعود الصندوق الثاني إلى العهد العثماني (1515 ـ 1830). ويمكن للشغوفين بالمقارنة بين الملامح الحضارية، أن يلتقطوا، من خلال نقوش الصندوقين، الفرق بين الثقافتين التركية والأمازيغية.
تحظى التحف الموجودة في الرواق بضوء حميم يأتي من قناديل هي نفسها تحف فنية وتاريخية، قبل دخول المصباح الكهربائي إلى الفضاء الجزائري.
هنا، علينا أن نشيرَ إلى أن التحولات الاقتصادية والثقافية ولاجتماعية التي عرفها المجتمعُ الجزائري، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منها الانتقال من المساكن العائلية الموروثة إلى مساكن جديدة، وظاهرة النزوح الريفيّ نحو المدن، ورحيل جيل ثورة التحرير، والرعيل الأول من الاستقلال الوطني (1962)، خلق هوةً صارخة بين الجيل الجديد والجيل القديم، من زاوية العلاقة بالحرف والأغراض المتعلقة بها. حيث يجهلها قِطاعٌ واسع من الجيل الجديد، أو يعرف بعضها، لكنه يربطها بالقدامة، في مسعى نزعته نحو الحداثة. مع تسجيل فشل المنظومات المختلفة، في خلق علاقة صحية بين الأزمنة والأجيال، عكس ما حدث في الفضاء الخليجي.
إلى جانب كتب ومجلات يتجاوز بعضها نصف قرن، تضجّ جدران الغرف بملصقات إشهارية لأفلام ومسرحيات ومهرجانات فنية وأدبية، تشكّل ذاكرة الفنون والآداب الجزائرية.
لذلك فمن المهم، يقول مالك الفندق المسرحي ربيع قشي لـرصيف 22، "أن تقف أمام أغراض جرفتها التحولات المرتجلة. منها الأدوات التي كانت مستعملة في عمليات النسيج والحرث والحصاد والخبز والزينة والختان والصيد البري والحلب والرعي والطبخ والحدادة ومعالجة الحلفاء."
في السياق، يقودنا ربيع قشي إلى الغرف، فتستقبلنا آلات رافقت شغف اكتشاف الجزائري للتلفزيون والمذياع وآلة التصوير والحلاقة، خلال القرن العشرين، مرفوقةً بأشرطة وأسطوانات لمغنّين كانوا نجوماً في العقود الثلاثة الأولى من الاستقلال الوطني، ولم يعد يتذكّرهم إلا من كانوا شباباً في زمنهم الذي يوصف بـ"الجميل".
وإلى جانب كتب ومجلات يتجاوز بعضها نصف قرن، تضجّ جدران الغرف بملصقات إشهارية لأفلام ومسرحيات ومهرجانات فنية وأدبية، تشكّل ذاكرة الفنون والآداب الجزائرية، في مقدّمتها مسرحيات "مسرح التاج"، الذي ساهم محدث "رصيف 22" في بعثه نهاية ثمانينات القرن العشرين، فكان من المسارح التي كانت تقدم عروضاً في الشّوارع والسّاحات العامة، حين كان الإرهاب المسلّح يبدع في إزهاق النفوس وقطع الرؤوس.
يقول ربيع قشي: "حين أدخل إلى الفندق، أنسى العائدات المادية لتلك الليلة، وأنشغل إمّا بإضافة تحفة جديدة أو تفقد تحفة قديمة. أقوم بهذا منذ اشترتْ أسرتي المبنى وحوّلتْه إلى فندق، فحولتُه بدوري إلى متحف عام 2001، فأنا في حالة صراع يوميّ مع نزعة قتل التاريخ، من خلال إهماله أو تشويهه، وقتل العواطف والروح الحميمة، من خلال هيمنة الإسمنت والمعادن على فنادقنا."
نستطيع التقاط تلك الروح الحميمة، التي يخلقها الفندق في قاصديه، من خلال سجل الشهادات الموضوع في مكتب الاستقبال. حيث نجد من بين تلك الشهادات ما كتبه المخرج السينمائي، عمّار العسكري، قبل رحيلِه عام 2015: "انتابني شعورٌ بأنّني أمام مشاهد سينمائية جاهزة، وما عليّ إلا أن أقوم بدوري في الإخراج".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.