لم تكن اللحظة التي سمعتُ فيها اسم فيروس كورونا لحظة عابرة استوقفتني فقط لأعرف ماهية المرض العالمي الجديد، بل سارع ذهني للربط بين الاسم ونوع شوكولاتة (دارك)، اعتدتُ على شرائها في الآونة الأخيرة.
كرّرتُ في سرّي: "كورونا.. كورونا!". لا يستحقّ هذا الاسم المحلّق في نهاياته مع الألف والنون المفتوحين على المدى أن يرتبط بمرضٍ قاتل، لكن هذا ما حدث. وبنية التأكد بحثتُ عن تاريخ شركة كورونا التي تأسست عام 1919، وأصبحت أول شركة حلويات وشوكولاتة في السّوق المصري، لديها ماضيها العريق الذي يعِد المستهلكين بلحظاتٍ سعيدة وممتعة مع أنواع مختلفة من الشوكولاته.
كان تحوّل الاسم في خريطتي الذهنية، كفيلاً باستدعاء حكايات "الديستوبيا" (أدب الواقع المرير) الذي لا يبدو بعيداً عمّا يدور من حولنا الآن. تذكرت رواية كازو ايشيجوروا، "العملاق المدفون"، التي تحكي عن داء النسيان الذي يجتاح بلدة إنكليزية بسبب أنفاس تنين أنثى تبثّها في الهواء، ويبدأ البشر في فقدان ذاكرتهم، مما يعني تلاشي هويتهم الذاتية وعلاقتهم مع الآخرين.
لاحت في ذهني أيضاً رواية "العمى" لسراماغو التي تتحدّث عن وباء غامض يصيب إحدى المدن، ويؤدي إلى إصابة أهل المدينة بالعمى المفاجئ، مما يخلق موجة من الذعر والفوضى العارمة، وسيطرة العصابات على ما تبقّى من طعام ودواء.
الخطوات المتقدمة والمجازية للبشرية تمضي بشكل لاهث في طريق غامض؛ فالتعريف الأدبي لواقع الديستوبيا هو مجتمع عابث تسوده الفوضى، ومن أبرز ملامحه الخرابُ والقتل والقمع والفقر والمرض. هذه الكلمة ( الديستوبيا) القادمة من اللغة اليونانية وتعني المكان الخبيث، تُناقض المكان الفاضل أي "يوتوبيا". إنه التناقض المروع بين الشوكولاتة والفيروس الذي فَرض قسراً على البشر المرضَ والعزلة وخطر الدّمار الاقتصادي للدّول التي ستنفق المليارات للحدّ من خطره وانتشاره، ورعب تحوّله إلى وباء مع سرعة تمدّد رقعته الجغرافية حول العالم.
كرّرتُ في سرّي: "كورونا.. كورونا!". لا يستحقّ هذا الاسم المحلّق في نهاياته مع الألف والنون المفتوحين على المدى أن يرتبط بمرضٍ قاتل، لكن هذا ما حدث
استطاع المرض أن يفرض قانون عزلته على البشرية، عزلة فردية وجماعية، فمن سيجرؤ على السّفر إن لم يكن مجبراً على ذلك؟ من سيغامر بالتواجد في المطارات المكتظّة بآلاف البشر؟ أو يربط نفسه في مقعد الطائرة ملتصقاً بشخص مجهول؟ من سيضع نفسه رهينَ احتمالية الإصابة بالعدوى، أو الحجر الصحي لأسبوعين على الأقلّ؟
مع نهاية شهر فبراير الجاري، ومنذ بداية المرض في ديسمبر 2019، شهدتْ كلّ قطاعات السّفر في العالم انهياراً في أسهم شركات الطيران والسياحة نتيجة لانتشار الفيروس. وفي الصين مثلاً، البلد المصدّر للمرض، ولمواجهة انتشار الفيروس، فرضت الحكومة على الأقاليم الداخلية تدابير قسرية على السّفر والانتقال من مكان إلى آخر. هذا داخلياً، أما على المستوى الخارجي فقد شهد الاقتصاد الصينيّ تراجعاً ملحوظاً على كلّ السّلع والموادّ المستوردة من الصين، مما يعني بالضرورة توقف حركة التصنيع.
هذا يمكن استنتاجه من تقرير المؤسسة البحثية "أكسفورد إيكونومكس" التي لوحت باحتمالية تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بواقع 400 مليار دولار هذا العام في حال استمرار الفيروس بالانتشار.
في الأيام الماضية أُعلن عن تسجيل الإصابات الأولى في كلّ من مقدونيا الشمالية، إستونيا، كرواتيا، النمسا، رومانيا، سويسرا، إسبانيا، فرنسا، النرويج، والبرازيل، وقد سبق هذا تسجيل إصابات في إيطاليا وصلت إلى 400 حالة، وهذا رقم كبير لبلد يُطلّ على ساحل المتوسط، ولطالما عانى من تدفق المهاجرين بحراً إلى أراضيه ممّا يزيد من خطورة تفشي المرض خاصة وأن صيف أوروبا لا يزال بعيداً.
على مستوى العالم العربي، فإن فيروس كورونا يتقدّم بخطوات سريعة، بعد أن أُعلن عن وجود حالات في كلّ من البحرين، والعراق، وإيران وسلطنة عُمان، ولبنان، والكويت، والإمارات، والسعودية. وقد اتّخذت العديد من حكومات هذه الدول إجراءات للحدّ من تفشي المرض من ضمنها الحجر الصحي للأشخاص المشتبه بأن يكونوا حاملين للمرض، أو وقف جميع الرّحلات للدّول التي ظهرتْ فيها حالات الإصابة بفيروس كورونا، حتى إشعار آخر.
كلّ الإجراءات الوقائية التي تركز على الحدّ من الانتقالات البشرية، سوف تؤدّي بالتالي إلى ركود عامّ ليس في الحراك الاقتصادي وحسب، بل على مستوى المؤتمرات العلمية والمعرفية والدراسية والفنية، وكلّ تجمع فيه حشد من البشر، إذ سيكون هناك تخوف من وجود شخص ما حامل للفيروس الذي لا يميز بين الفقراء والأغنياء، ومن الممكن انتقاله بسهولة من مصدر مجهول عبر ذرات الهواء.
لاحت في ذهني رواية "العمى" لسراماغو التي تتحدّث عن وباء غامض يصيب إحدى المدن، ممّا يخلق موجة من الذعر والفوضى العارمة، وسيطرة العصابات على ما تبقّى من طعام ودواء
فمن ضمن الأخبار المثيرة مثلاً احتجاز ألف شخص في فندق "إتش 10 أديجي بالاس" الواقع في إحدى جزر الكناري، بعد أن تمّ الكشف عن إصابة طبيب إيطالي بفيروس كورونا موجود ضمن النزلاء. في هذا الفندق استيقظ السيّاح ووجدوا ورقة تحت الباب تبلغهم فيها السلطاتُ الإسبانية بعدم مغادرة غرفهم لأنهم تحت الحجر الصحي.
المتفائلون بشأن المرض يعتبرون أن إصابة 82 ألف شخص في كلّ أنحاء العالم ، وتعافي أكثر من 33 ألفاً من الفيروس، يُنبئ بأن المرض قد ينتهي قبل أن يتحول إلى وباء، خاصة في الدول التي يتقدّم الصيف نحوها لأن هذا المرض لا ينتشر سريعاً مع وصول درجة الحرارة إلى عشرين درجة مئوية. أما الوعد المؤجل من شركات الأدوية فهو محاولة إيجاد مصل لفيروس كورونا في العام 2021.
لعلّ المفارقة الغريبة التي تبدو بشكل جلي، هي وجود أمر واقع تشترك فيه معظم الدّول التي وصل إليها المرض، هو الإحساس بالخوف والهلع من تفشي المرض، والعمل بل والتعاون أيضاً لإيجاد حلول قبل أن يفقد البشر سيطرتهم على العالم. لكن السعي لإيجاد لقاح للفيروس يتمّ في الدّول الكبرى بشكل منفرد بين كلّ هيئة علمية وطبية تخضع لجهة ما، ناهيكم عن الحاجة لإجراء اختبارات للمصل المكتشف على الحيوانات أولاً ثمّ البشر، أي أن الإمكانيات المادية المتفاوتة سوف تقف عائقاً أمام العديد من العلماء، لذا أظن أن هناك حاجة ملحة لوجود استثمار عالمي ممنهج للحدّ من انتشار أي فيروس توجد فيه شبهة التحول إلى وباء، الصين مثلاً أعلنت عن تطوير لقاح، ولكن تظلّ تلك مجرد نتائج أولية وهناك حاجة إلى وقت لإجراء المزيد من الاختبارات للتأكد من النتائج.
من المؤكد أن الأمور أكثر تعقيداً مما نظن؛ فالمنافسة بين المختبرات والشركات الطبية لإجراء التجارب لإنتاج لقاح ضد أي الفيروس، تكون على أشدها مع ظهور فيروسات تهدّد البشرية. إنها المنافسة التي تستدعي إلى الذهن أفلام الخيال العلمي حين يتمّ تخليق فيروس ما، وتسريبه إلى الخارج، ويكون على العالم نفسه الذي قام بتخليقه، بذل جهد خارق لإيجاد مصل مضادّ له.
هذا ما يحدث في أفلام الخيال العلمي، لكن الحقائق تفوق الخيال أحياناً، حيث الأمراض الخطرة والأوبئة المهددة للعالم، تتوازى في قدرتها على بثّ الهلع بين الشعوب، مع ما تفعله الحروب والأحداث الإرهابية التي تودي بضحايا أبرياء. أما الحرب ضد فيروسٍ ما فإنها معركة شرسة ضد كائنات مجهرية لا تُرى بالعين المجرّدة، لكنها قادرة على إبادة العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون