هل شاهدت من قبل مباراة تجمع فريقين كلاهما له قطاع عريض من الجماهير المتعصبة ضد الآخر، وتعجبت: لما لا يشتبكون هذه المرة؟ أعني أن تجلس الجماهير البيضاء والحمراء والزرقاء والخضراء جنباً إلى جنب، بلا أي مشكلة، كالأشقاء الذين يتصنعون البراءة في حضور الوالدين.
لطالما عهدنا في البلاد التي تتنفس كرة القدم عموماً، وبلادنا خاصة، التي لا تجد شعوبها متعة أحياناً غير تلك الكرة المطاطية، رؤية الجماهير تسب الفريق الآخر بلاعبيه وجماهيره، هذا فقط في أحسن الأحوال، وفي الأحوال الأخرى السيئة، قد يلتقي فريقان من الجماهير خارج الملعب وجهاً لوجه، فيحدث ما لا يُحمد عقباه، أو داخل الملعب، فيحدث أن يتغير تاريخ هذا اليوم لذكرى حالكة الظلمة، بسبب ما وقع من ضحايا.
أما في بعض الحالات الخاصة للغاية، عندما يلتقي نفس الفريقين، ولكن خارج الديار، في أرض محايدة، فيُمكن أن يتسع بؤبؤ العين اندهاشاً من المشهد الحضاري الذي تراه، إخوة يتغنون لفرقهم ولا يتعرضون لغيرها، يصنعون أجمل اللوحات، وحتى أنهم يصفقون للفريق الخاسر بدلاً من السخرية منه عقب نهاية المباراة.
منذ أيام قليلة مثلاً، نظمت دولة قطر مباراة كأس السوبر الأفريقي بين فريقين عريقين ذوي شعبية طاغية، هما الزمالك المصري والترجي التونسي، وبالطبع فإن الجمهور الذي تواجد في مدرجات ملعب اللقاء، غالبيته العظمى هم أبناء مصر وتونس الذين يعملون في قطر، ربما ذلك تحديداً ما رجح كفة المدرجات البيضاء، مدرجات الزمالك، على نظيرتها الصفراء والحمراء الخاصة بالترجي، لأن عدد المصريين في قطر أكبر من الجالية التونسية.
أسباب عديدة بإمكانها أن تُطرح من قبل الجمهور "لتبرئة نفسه" من تهمة "تصنّع الروح الرياضية"، أبرزها هي أنه يحاول أن يكون سفيراً مشرفاً لبلاده في الغربة، أما السبب الآخر، المخفي ربما، فهو الخوف الشرعي من الإجراءات القانونية، والتي ربما تنتهي بفصلهم عن العمل أو ترحيلهم
قبل المباراة لم نسمع أي تحذيرات بشأن تأمين الجماهير في المدرجات من هوجة جماهير الخصم، ولم يضطر أحدنا لمتابعة خط سير حافلة فريقه للاطمئنان على وصولها سالمة إلى ملعب اللقاء، لا شد، لا جذب ولا عداء، فقط كرة القدم والكأس، والأغرب أن نرى جماهير الفريقين جنباً إلى جنب في المدرجات، بلا فاصل، بلا قوات أمن مُدرّعة ومدرّبة على فض الشغب، الكل قرر فجأة أن يتحلى بالروح الرياضية وألا يبرح مكانه نحو منافسه، حتى وإن كان ملاصقاً لمقعده، بعد ذلك ربح الزمالك الكأس، واحتفل ونظم لاعبوه ممراً شرفياً صعد من خلاله لاعبو الترجي ليتسلموا ميداليات المركز الثاني، في مشهد "غير مألوف" للغاية.. ماذا لو كانت المواجهة في مصر أو في تونس؟
لا مجال لوضع افتراضات، فالمواجهات المصرية-التونسية تكررت كثيراً، وآخرها مواجهة الأهلي والترجي منذ عامين، حينها حدث عكس كل ما حدث في قطر، فالأجواء اشتعلت والتعصب بلغ ذروته، وهناك هجوم على حافلة الأهلي وإصابة لاعب، خسر الأهلي والجميع ينتظر فقط عودة الفريق والبعثة سالمين إلى مصر، وهذا ما حدث للجمهور الجزائري في مصر عام 2010، ناهيك عن المناوشات الدامية بين جمهوري مصر والجزائر في السودان من نفس العام أيضاً.
مثال آخر وهو لقاء القمة المصرية، الزمالك والأهلي، وفي حال كنت أحد المحظوظين الذين عاشوا أجواء القمة الأشهر عربياً داخل مدرجات استاد القاهرة، في الوقت الذي كان يُسمح للجماهير بالحضور، فلا بد أنك قد تلمست طريقك بصعوبة، بغية التملص من تكتلات الجماهير المنافسة، وإلا وقعت في المحظور، وإن كان حظك لايزال قائماً، فربما يكتفي الجمهور المنافس بحملك على خلع قميص فريقك وتركه لهم ليحرقوه مثلاً.
أما نفس الفريقين ونفس الجماهير عندما يلتقيان في الإمارات، كما حدث مرتين في أعوام سابقة، ومرة هذا العام، فسوف تجد أسمى معاني الروح الرياضية التي شاهدناها في لقاء قطر... لماذا؟
سواء كان السوط هو شرطة ما، أو سفارة تستطيع التدخل وإغراقنا بالمشاكل في غربتنا، فعندما تأتي الروح الرياضية خوفاً من هذا السوط، فهي مجرد روح تخشى قطع لقمة عيشها، أو ترحيلها، يمكن أن ندعوها "روح معيشية" في صراع البقاء
الترحيل ولقمة العيش ينتصران للروح الرياضية
هناك العديد من الأسباب التي بإمكانها أن تُطرح من قبل الجمهور "لتبرئة نفسه" من تهمة "تصنّع الروح الرياضية"، أبرزها هي أنه يحاول أن يكون سفيراً جيداً مشرفاً لبلاده في الغربة، أما عن السبب الآخر الذي لن يقوله البعض، فهو الخوف الشرعي من الإجراءات القانونية المُشددة، والتي ربما تنتهي بفصلهم عن العمل أو ترحيلهم حتى، والأمر منطقي للغاية إذا ما علمت أن الجماهير التي ملأت استاد القاهرة، هتفت مئات المرات بشعارات سياسية، وتجنبتها تماماً في ستاد هزاع بن زايد بالإمارات، وثاني بن جاسم في قطر، لأنهم يعلمون أنه لو خرجت الأمور عن السيطرة، فسوف يخسرون فرصة عيش حياة كريمة ارتضوها لأنفسهم، مغتربين عن أهلهم وأصدقائهم، وأن حبهم وتعصبهم لفريقهم لن يتجاوز بأي شكل من أشكال رغبتهم في استمرار رحلتهم تلك.
حتى أن أحد المشجعين المنتمين للنادي الأهلي، وأثناء تسجيل لقاء معه لصالح قناة أبو ظبي الرياضية، لاستطلاع رأيه في السوبر المصري على الأراضي الإماراتية، بدأ في الإساءة لنادي الزمالك بأغنية، يعتبرها البعض عنصرية وآخرون يجدونها مزحة عادية، وهي: "كدة كدة يا زمالك السوبر في الجزيرة (مقر الأهلي)، عامل فيها بطل وهو بتاع بليلة".
وهناك من تأفف من الهتاف الذي يستخدم مهنة أصحاب عربات البليلة "أكلة مصرية" كسُبّة، وهناك من وضع الأمر في حيز عدم دراية "طباخ البليلة" بلعبة كرة القدم، لكن على كل الأحوال، انقلبت صفحات السوشال ميديا هجوماً على المُشجّع الأهلاوي المُسيء للزمالك، لنجده خلال 24 ساعة يظهر في مقطع فيديو معتذراً لجمهور الزمالك عن خطئه... لقمة العيش؟ مجرد توبة؟.. الحكم لكم.
على كل حال، ألم يحن الوقت أن نعلو بتقديرنا لأنفسنا دون الحاجة لسوط يلاحقنا؟ فسواء كان السوط هو شرطة ما، أو سفارة تستطيع التدخل وإغراقنا بالمشاكل في غربتنا، فعندما تأتي الروح الرياضية خوفاً من هذا السوط، فهي مجرد روح تخشى قطع لقمة عيشها، أو ترحيلها، يمكن أن ندعوها "روح معيشية" في صراع البقاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين