من بين أعراض المراهقة: العناد، الانشغال بالكلام، واكتشاف الجنس الآخر بطريقة هوسيّة، ربما تكون فترة وتنتهي، وربما تدوم أعراضها أو بعضها وتستمر حتى الشيخوخة... هذه مقدمة للربط بين غالبية منتج المطرب المصري صاحب الشهرة العالمية، عمرو دياب، وبين المراهقة كمرحلة عُمر... نفحص ماضيه الطربي لنرى حاضره المُلبَّد الذي يتقافز على موضوع واحد وحيد، علاقة آدم بحواء، صحيح أنهما الكون كله، لكن أيكون تسطيح موضوع الحب بين نصفَي البشرية إلى هذه الدرجة التي نراها؟
لندخل الحكاية ونحن بصدد تحليل ألبوم "سهران" لعمرو، والذي صدر منتصف ليل 12 شباط/ فبراير 2020.
نفحص ماضيه الطربي لنرى حاضره المُلبَّد الذي يتقافز على موضوع واحد وحيد، علاقة آدم بحواء، صحيح أنهما الكون كله، لكن أيكون تسطيح موضوع الحب بين نصفَي البشرية إلى هذه الدرجة التي نراها؟
غنى "عمرو" في ألبوم "يا طريق"، 1983، كلمات: "وقت وعشناه انتي وانا جرح حفرناه لبقيت عمرنا"، وفي "هلا هلا"، 1986: "عودي يا ليالي تاني عودي يا ليالي... جرحي من حبيبي الغالي سهرني ليالي"، وفي "خالصين"، 1987، غنى: "لو شوقك قد شوقي يبقى احنا كدا خالصين"، وفي "ماتخافيش"، 1990: "ماتخافيش أنا مش ناسيكي... ماتخافيش لو مين ناداني..."، وفي "آيس كريم": "حاتمرد عالوضع الحالي... مش هاسهر في هواكي ليالي"، ثم لم أجد جديداً تقريباً في ألبومات (أيامنا 1992، يا عمرنا 1993، ذكريات 1994، ويلوموني 1994، راجعين 1995، نور العين 1996، عودوني 1998، قمرين 1999، تمللي معاك 2000، أكتر واحد 2001)، اللهم إلا تغيير فورمة شعر "عمرو" وشكله وملابسه، وفي "علم قلبي"، 2003: "وأهو بكرة نقول كانت ذكرى وعشنالنا يومين"، وفي "ليلي نهاري"، 2004: "ليلي تعالى حبيبي... لا ملامة حبيبي خدني ليك..."، ثم "كله إلا حبيبي... ودي تبقى دنيا إلا ويا حبيبي"، بألبوم "ويّاه"، 2009، و"ياريت سنّك يزيد سنتين عشان سنك كدا صغير... يزيد لكن في تكوينك مفيش ولا حاجة تتغير"، "باناديك تعالى"، 2011، ثم "الليلة حبيبي الليلة ليلة عمرنا... الليلة دي أجمل ليلة في حياتي أنا" في "الليلة"، 2013، ثم "ولا يملا عينيا إلا حبيبي... حبيبي آه حبيبي كمان حبيبي وأقولها تاني أحلى الأسامي حبيبي..." من "معدّي الناس"، 2017، مختتماً بـ"إنت مغرور... إنت معدوم الشعور... إنت زي الزينة ديكور... واللي عاشرك معذور" في "كل حياتي"، 2019.
كل خطوة هنا تُفضي إلى لا شيء، تماماً كمن يحفر تحت قدميه ولا ينظر إلى الأمام متراً واحداً من الوعي بالكتابة والغناء، والوعي بأثر الأغنية في نفوس الناس.
في معنى الألبوم
يقول عمرو دياب في مداخلته مع الإعلامي المصري عمرو أديب، ببرنامج "الحكاية"، وذلك بعد يوم واحد من إطلاق الألبوم، إنه ضد الأغاني "السنغل" وإنه أتى من مدينته، بورسعيد، على السواحل المصرية الشمالية، إلى العاصمة القاهرة، "عشان يعمل ألبومات".
لم أفهم معنى هذه الجملة وما بها من فخر وتمييز لنفسه عن باقي المطربين، الذين يصنعون الأغاني "السنغل" لأنهم حسب طرحه غير قادرين مثله على إنتاج "ألبوم غنائي".
وببحث بسيط عن معنى الألبوم وجدتُ أنه "مجموعة أغنيات أو مقطوعات موسيقية مرتبطة ببعضها وتُوزع بغرض تجاري على الجمهور في شكل أشرطة كاسيت أو أسطوانات مدمجة"، ولعل هذا التعريف يشبه ما يقال عن "ديوان الشعر" وما به من ترابط لعناصر التجربة، والتي تميزه عن "المجموعة الشعرية" التي تم جمع قصائدها في كتاب لا يمكننا تسميته "ديوان" لعدم ترابطها فنياً روحاً وشكلاً.
النماذج التي أسلفنا سردها في بداية المقال، تدل على أن "عمرو" أصلاً لا يعنيه سوى تكرار نفسه، ولنمد الخط على استقامته سنرصد بعض كلمات أغاني "سهران":
"يوم تلات تلات بنات ندهوني… ع البساط بصات يا ناس عجبوني... قاعدة وانبساط غدا وعزموني... فتفتوا الفتافيت وفتنوني"... ثم: "حكولي عنها كتير... قالوا جمالها خيال...... دي حاجة ولا عالبال... لأ دي جامدة بس... إيه دا كله إيه دا هاهدا ليه؟"، ثم: "هامشي أقول في الشارع هييييه... هاعمل مهرجان وخلاص هانسى اللي كان"، ثم: "يا روقانك... شقية وحلوة في جنانك....... عليكي شياكة خطفتني"...
هل هذا ما يطرحه عمرو دياب من معنى؟ فكرة ونظرة مشبعة بكلمات فضفاضة مستهلكة ورؤية ضعيفة للغة الشعرية التي يبني منها كلام أغانيه، في إعادة إنتاج كلمات وألحان من الماضي ترتدي ثوب الراهن لتبدو جديدة، تماماً كأي مراهق لا يستطيع رفع رأسه من ماء مشاعره، التي تفيض فوق دماغه كلما أفرغ كمية دارت كساقية من جديد، وذلك لضعف قدرته على التعبير وملاحقة عواطفه بشيء من السمو والانتقال من معنى إلى معنى، فيضطر للوقوع في فخ المتاجرة بتلك العاطفة، غير ملتفت إلى الجودة. أي، المهم أن نبيع.
صحيح أنها ليست مسؤولية عمرو دياب وحده أن يُجدد كلمات الأغنية، لكن يبقى النجم الذي يقود عصر الأغنية العربية حالياً مُطالباً، ولو بجُهد المتطوِّع، أن يحاول تغيير نمط كتابة الأغاني ويختار ما يُشتبه في حداثة مفرداته بشكل لا يخلّ بشعريّتها
طيّب، بماذا نبيع الألبوم، الذي نتخيل نحن فقط أنه ألبوم؟ ولمن نبيعه؟
نبيعه بالتشويق والإثارة لا المتعة، فالمُتلهف لم يطلب منا الاستمتاع، والمراهق لا يعنيه المعنى، بل يهتم بشكل المبنى البرّاق من الخارج، لا بأساسياته وجمالياته التي تتطلب جهداً لاستيعابها وتذوقها، لذا استخدم معنا "عمرو" أسلوبه التجاري الجديد في تسويق ألبومه، بنظام استقى فكرته من طريقة زراعية تُدعى "الري بالتنقيط"، حيث ينزل بأغنية "سنغل" في حفلة ساحلية أو جامعية، ثم تليها أخرى يتحدث موضوعها الفلسفي عن فضل "يوم التلات" في "شقط البنات"، ثم يحرك كتيبة محرري الفن في الجرائد والمواقع لبث أخبار متلاحقة عن ألبومه المزمع خروجه قريباً، ففي منتصف آب/ أغسطس 2019 طرح "الهضبة"، وهو اسم شهرته، أغنية "باحبه" ثم "أنا غير"، التي راج أنها ستكون حاملة لاسم الألبوم ككل، قبل أن يظهر الألبوم باسم "سهران" كجواب نهائي.
لا نحتاج إلى تحليل خطاب، نحتاج إلى البحث عن سبب يجعل من رجل وصل الستين عاماً من عمره تقريباً، وتجذبه لقطة شكلانية تفيد بأن "شلة بنات" يلتفون حوله ليتمسك بوجوده كشاب يمتلئ بالحيوية ولا يزال مرغوباً.
ربما هي "مراهقة مقصودة"، بحسب الطبيب النفساني عبدالعظيم رمضان، الذي قال لرصيف22، إن كثيراً من المراهقين يخرجون من عمر المراهقة بسماتها ولا يتخلون عنها لأنها تُرضيهم، لافتاً إلى أن "عمرو دياب ربما يكون متمسكاً بهذا الشكل الذي يقدمه للشباب عن قصد ليوصل رسالة بأنه ضد العَجَز"، وبالتالي فهو "لا يريد أن يناقش أي موضوع إلا من خلال الشكل، فيهتم بالمحافظة على شبابه الدائم، لذا فتركيزه ينصب على المراهقين الذين يمكن التأثير عليهم بعضلات الجيم وقصّة الشعر ولون البشرة وستايل اللبس"، مؤكداً أن "عمرو" ربما يكون قد أدار عمله هذا "بوعي كامل لا عن سمات مراهقة تكمن فيه وتوجهه، وإن كان احتمال المراهقة الدائمة ليس مستبعداً"، حسب قوله.
في أغنيته "زي ما انتي" ربما تلمح ظلال سيرة "عمرو" وعلاقاته النسائية السابقة، وهذا لا يعنينا في كثير أو قليل، لكن الأغنية تلمس مشاعر مؤديها على أي حال، والأزمة تبقى في تكرارية المفردات، فلا يمكن أبداً أن يكون مؤلف الأغنية "العمرو ديابية" معدم في قاموسه إلى درجة صنع القوافي من كلمات مثل "حلوة" و"غنوة"، أبعد كل هذه السنوات من رجع الصدى لا زلنا ندور في ست أو سبع مفردات للقافية؟ صحيح أنها ليست مسؤولية عمرو دياب وحده أن يُجدد كلمات الأغنية، إن كان الشعراء أنفسهم عاجزين عن طرح لغوي جديد، بدلاً من تلك اللغة التي تهتكت عروقها من كثرة الاستخدام وإعادة تدويرها في مصنع مبتذل الخامات، لكن يبقى النجم الذي يقود عصر الأغنية العربية حالياً مُطالباً، ولو بجُهد المتطوِّع، أن يحاول تغيير نمط كتابة الأغاني ويختار ما يُشتبه في حداثة مفرداته بشكل لا يخلّ بشعريّتها.
لا تخلو الغيوم من مطر، إذ نجد أغنية بين أغاني الألبوم تقف وحيدة معزولة عما قبلها وبعدها، كان يمكن أن تصبح نقطة نظام لتعديل مسار غناء الهضبة، وهي أغنية "عم الطبيب"، ففيها اجتهد المؤلف قدر ما أتيح له من موهبة، وقدم اللحن، الذي تولى أمره عمرو دياب،
الفلوس يا "عم الطبيب"
لا تخلو الغيوم من مطر، إذ نجد أغنية بين أغاني الألبوم تقف وحيدة معزولة عما قبلها وبعدها، كان يمكن أن تصبح نقطة نظام لتعديل مسار غناء الهضبة، وهي أغنية "عم الطبيب"، ففيها اجتهد المؤلف قدر ما أتيح له من موهبة، وقدم اللحن، الذي تولى أمره عمرو دياب، باستثناء إحالته لما يشبه أجواء الشيخ إمام، وجماعية كورال سيد درويش، وأغاني رصيف نمرة 5 لعمرو ذاته قبل أن "يَتَهَضَّب"، فقد كان يبشر بخفة التفكير في مناطق أخرى غير التي تم حفرها ملايين المرات في التلحين المعتمد على "تراكات مُجمَّدة" في "فريز حميد الشاعري".
ورغم تراكيبها الشعرية، فقدت توازنها سريعاً من خلال جملة "يا متعوس... كل العلل دواها الفلوس"، في هدم عجيب لفكرة التداوي بالمحبة، التي قامت عليها الأغنية، كأن المؤلف لم يلتفت إلى ما بناه على طول النص، فقام في آخره بمناقضته والاعتراف بأن "أكل العيش يحكم…"، لم يلتفت عمرو ولا مساعدوه إلى هذا التناقض في المعنى، لأنه ليس مشغولاً إلا بحبل واحد من أحبال الصناعة وهو الجمهور المستهدف صيده، فلا يهتم الصيّاد هنا بصنارته وسط زحام السمك والشبك... "إنها التجارة لا الغناء يا عمرو".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...