شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يا حلو صبّح يا حلو طلّْ... عن رحلات الصّيد البحرية في مصر

يا حلو صبّح يا حلو طلّْ... عن رحلات الصّيد البحرية في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 10 فبراير 202001:28 م

بحر، وسمك، ومركب، ثلاثة أضلع تشكل مثلثاً لا يختلف كثيرًا عن مثلث برمودا الشهير. مثلث الحياة بين جنباته غامضة، مليئة بالمفاجآت. فالبحر الذي يمنحهم خيراته دون حساب، قد يبتلعهم فجأة دون سابق إنذار. يخرج الصياد بصحبة رفاقه على المركب، وهو يفكّر في سيناريو أيامه القادمه الذي لن يخرج عن ثلاثة احتمالات. فإما أن يعود غانماً بـ"طرحة" تغطي تكاليف رحلته، وإما أن يغرق ويأكل السّمك جسده، أو يتعرّض للخطف أو الاعتقال في بلد غريب لا يشبه بلده.

محمد سمارة، شابّ عمره 25، يعمل بالصّيد البحري منذ سبع سنوات، وهو ابن مدينة رأس البرّ التابعة لمحافظة دمياط المصرية، قال لرصيف22 إنه يعمل على أحد مراكب "عزبة البرج"، تلك المدينة الصّغيرة التي يعمل أغلب أهلها في الصّيد وصناعة المراكب.

كلّ مركب يخرج للصّيد لابدّ أن يكون له "ريّس" (قائد)، ويعمل عليها "بحرية" (صيادون)، ومعهم "ميكانيكي" لصيانة ومراقبة المركب، وتفادي أي عطل خلال الرحلة. يتراوح عدد الصيادين على كلّ مركب ما بين سته واثني عشر، و يزيد عن ذلك إن زاد حجم المركب وقدرته.


حين تبدأ "السروح"

يطلق الصيادون على رحلة الصيد في عرض البحر كلمة "سروح"، وهي الرحلة التي تتفاوت مدّتها حسب حجم المركب؛ فهي إما أن تستغرق خمسة أو عشرة أيام، أو 21 يوماً، ليعود بعدها الصيادون إلى الشاطئ يطرحون ما جمعوه من خيرات البحر في مزاد علني، ليشتريه تجّار السمك ويربحون هم ثمناً من بضاعتهم التي يوزعون قيمتها بين بعضهم بعد استخراج تكاليف الرحلة.

يواصل محمد حديثه لرصيف22 قائلاً: "نجتمع كصيادين مع الريّس على المركب قبل السادسة صباحاً، لنسجّل اسم المركب وأسمائنا في سجلات السّواحل كطاقم له. وإذا ما لم نتمكن من ذلك، فيتمّ ربط المركب في "الشمندورة" استعداداً لوقت الفجر. فمراكب الـ5 أيام تصطاد في منطقة قريبة من السواحل المحلية، بينما تذهب مراكب الـ10أيام ناحية الشّمال قرب قبرص وكريت. أما مراكب الـ21 يوماً فتبحر للعريش أو سواحل ليبيا دون الدّخول في مياهها الإقليمية.

مراكب الـ5 أيام تصطاد في منطقة قريبة من السّواحل المحلية، بينما تذهب مراكب الـ10أيام ناحية الشّمال قرب قبرص وكريت. أما مراكب الـ21 يوماً فتبحر للعريش أو سواحل ليبيا دون الدّخول في مياهها الإقليمية

وهناك مركب يبقى في البحر 6 أشهر؛ يذهب إلى منطقة الخليج، واليمن، والصومال. وهذه المراكب كبيرة وموسمها يكون 6 أشهر، ثمّ تستريح شهراً، وبعد ذلك تبدأ رحلة من جديد، بالإضافة إلى المراكب التي تتّجه شمالاً نحو تركيا، وهذه الرحلة أو السروح تُعرف بسروح الفراولة. وهي مراكب كبيرة تحتوى على "مشينة" أو ما يشبه الثلاجة لحفظ السمك، عكس المراكب التي تبحر محلياً، فهي تعتمد على الثلج فقط.

الصيد مابقاش زي زمان

محمد حسن حسن، ريس مركب، من عزبة البرج، وعمره 42 عاماً؛ يعمل بالصيد منذ أن كان عمره 12عاماً. كان يمتلك مركبه الخاص منذ عشر سنوات، كما صرح لرصيف22، لكن لصعوبة المهنة وكثرة التكاليف وقلة الرّبح اضطرّته لإيقافها، وأصبح يخرج في رحلات صيد على مراكب أخرى ليقضي أشهر طويلة في البحر.

يقول محمد إن الصيد اختلف كثيراً عن الماضي. فالوضع صعب بشكل لا يتخيله أحد؛ فلكي يخرج المركب للصّيد يكلّف ذلك من 50 إلى 80 ألف جنيه من أجل تموين السولار والزيت للمكنة، والغزولات (الشّبك)، والثلج لحفظ السمك، والمواد الغذائية. فيصرف صاحبُ المركب كلّ ذلك وعند انتهاء سروحه لا يجمع هذا المبلغ.

ليست الخسارة المادية وحدها ما يكدّر صفو محمد ورفاقه، لكنها "البهدلة" على حدّ وصفه وعدم النّظام والمعاملة السيئة التي يقابلها الصيادون أثناء استخراج تصاريح الصيد والسفر قبل الخروج وعند العودة.


الطبيعة تْغيّرت والبحر بقى بخيل

في لقاء تلفزيوني أجراه الإعلامي محمود سعد مع بعض صيادي عزبة البرج، صرّح أبو سمير، صياد تخطى الستين من عمره، صاحب مركب "رزق أبو سمير"، أن البحر أصبح بخيلاً وخيره قلّ كثيراً عن زمان؛ فالطبيعة تغيّرت وكمّيات السّمك التي كان يعود غانماً بها من رحلة صيده منذ ثلاثين عاماً لم تعد كما كانت؛ فهناك أسماك أصبحت نادرة جدّاً بعد أن كان البحر يطرحها بمئات الكيلوات في موسم يعرفها الصيادون. أما اليوم فقد اختفت المواسم وشحّ السّمك.

أكّد أبو سمير في حديثه أن مهنة الصيد تعاني كثيراً بعد ارتفاع أسعار الوقود والمواد التموينية، فأصبح كلّ صياد يحمل همّ قوت يومِه ومصاريف عائلته. فهو يخرج في "سروح" لمدّة عشرين يوماً، ولا يرجع إلا بألفين جنيه فقط، وهذا مبلغ لا يكفي لشيء في هذا الزمن.


قرش البحر منقوق عليه

هذا عنوانٌ لما أكدته آية محمد 24 عاماً، زوجة صياد و"ريّس مركب" من أبناء عزبة البرج أيضاً، يعمل بالصيد منذ 18 عاماً؛ فقالت آية لرصيف22: "تزوجتُ منذ ستة أعوام. كنت منبهرة بحياة الصيادين، وأعجبتني فكرة سفره وغيابه لأيام في البحر وعودته في أجازة قصيرة. تصورتُ أن نظام حياته سوف يقتل ملل الحياة الزوجية، لكن مع الوقت اكتشفتُ خطأ فكرتي. فمع الأيام وإنجاب الأطفال أصبحتُ أنا المسؤولة عن كلّ شيء. هو يخرج في سروحه ويعود بمصاريف البيت فقط، لكنه لا يعرف شيئاً عن تفاصيل حياتنا اليومية من تعليم ومرض وأزمات. ناهيكم عن حياته المهدّدة بالخطر طوال الوقت."

كلُّ مرّة يخرج فيها زوجي للبحر يزيد قلقي وخوفي، خصوصاً بعد زيادة عمليات الاعتقال والخطف في السّنوات الأخيرة. كما أن البحر غدار ليس له أمان، وقد يُنهي حياةَ الصياد في لحظة

وتابعت: "كلُّ مرّة يخرج فيها زوجي للبحر يزيد قلقي وخوفي، خصوصاً بعد زيادة عمليات الاعتقال والخطف في السّنوات الأخيرة. كما أن البحر غدار ليس له أمان، وقد يُنهي حياةَ الصياد في لحظة، ولقد تعرّض زوجي لمخاطر كثيرة كانت بينه وبين الموت فيها شعرة. كما أن صياداً آخر من زملائه غرق أمامه منذ فترة، ولم يستطع هو أو رفاقه على المركب إنقاذه."


وأضافت آية: "من أجل كلّ ذلك أدعو الله دوماً أن يتوب عليه من هذه المهنة. فمهما جلب منها من مالٍ لا يساوي حياته وتعرّضها للخطر كلّ لحظة، كما أنه في الأساس لا يكفي تكاليف المعيشة، فلدينا مثل شعبي يقول "قرش البحر منقوق عليه" ليس به بركة."

عرفتُ من آية أن الصيادين يتعرضون لخطر الاعتقال من قبل الحكومة المصرية أو من قبل البلاد المجاورة إذا اخترقوا المياهَ الدولية دون تصريح. وهذا للأسف ما يضطرّ الصيادين للمخاطرة بحثاً عن مزيد من الرزق بعد أن قلّت كمّيات السّمك في الشواطئ المصرية بشكل ملحوظ؛ كما فعل أكثر من ثلاثين صياداً، فاخترقوا المياه الدولية في اليمن وتمّ احتجازهم لاكثر من شهرين حتى تدخّلت الحكومة المصرية، وتمّ الافراج عنهم منذ أيام، وبعد العديد من المفاوضات.


أغاني الصيادين

يا حلو صبّح... محمّد قنديل

يا حلو صبّح يا حلو طلّْ، ويا ريس البحر خدني معاك وعلمني، ويا مراكبي شد القلوع يا مراكبي؛ كلّها أغنيات رَسمت في مخيلة الجمهور العربي حياةً لطيفة للصيادين، الذين صورتهم الأعمالُ الفنية المختلفة كأشخاص أصحاب "البال الرايق"، يقضون ساعاتهم في الغناء وهم ينتظرون خيرات البحر التي سوف يضعها في شباكهم عن طيب خاطر.


يا ريّس البحر... أغنية من تراث الصيّادين

الصيّاد الذي كان يقضي ساعاته على المركب يرتجل أغنيات حفظها التراثُ، كهذه التي ضمّها المخرج علي الغازولي لفيلمه التسجيلي "صيد العصاري"، وقد أصبح عقله مليئاً بهموم لا يتوقف عن التفكير فيها، فخير البحر قد شحّ، وخطره في ازدياد.


* الصور المرفقة بالمقال من تصوير المصور والطبيب الدمياطي، طارق هيكل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image