عام 2018، بلغ عدد المهاجرين التونسيين الذين وصلوا بطرق غير شرعية إلى السواحل الإيطالية 6006 أشخاص، وفق إحصاءات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
والمنتدى هو منظمة غير حكومية محايدة ومستقلة تأسست عام 2011 وتتولى الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين في الداخل والخارج.
وفي شهر يونيو الماضي، شهدت سواحل جزيرة قرقنة التونسية مأساة غرق مركب كان يقلّ قرابة 200 مهاجر غير شرعي تونسي وأجنبي، أسفرت عن وفاة 84 شخصاً غالبيتهم تونسيون.
حلم مغادرة تونس
وائل فرجاني شاب تونسي، 24 سنة، من محافظة قابس الجنوبية كان من بين الناجين من تلك الحادثة الأليمة. بعد جمع المبلغ المالي المطلوب، بمساعدة بعض أصدقائه، ووالدته وشقيقته اللتين باعتا مصوغاتهما، واجه الشاب الذي فاز ببطولة تونس في رياضة الكونغ فو لثلاث سنوات متتالية (2012، 2013، 2014) وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في سباق الخيول العربية-البربرية سنة 2015، العديد من الصعوبات في التنقل من محافظة قابس إلى صفاقس ومنها إلى قرقنة، مكان انطلاق الرحلة، بسبب انتشار قوات الأمن على هذا الخط المعروف بتنقل الراغبين في الهجرة غير الشرعية. يقول وائل لرصيف22 إن منظم العملية تولى مسألة نقلهم وإيصالهم إلى المكان المحدد "نظراً لنفوذه وعلاقاته الأمنية"، وإنه أقام برفقة 90 شخصاً لمدة تسعة أيام في بيت صغير من غرفتين فقط، وفي ليلة الثاني من يونيو 2018، وعند الساعة الثامنة ليلاً، تم نقلهم إلى مكان الانطلاق حيث فوجئ بارتفاع عدد الأشخاص إلى 180. "بعد ساعة من انطلاقه في البحر، توقف المركب بسبب تعطل محركه فقمنا بإصلاحه بمساعدة الريّس ثم عاودنا الإبحار، وبعد حوالي ساعة أخرى توقف المحرك عن العمل مرة ثانية وفوجئت بالمياه تغمره فعلمت حينها أننا سنغرق"، يروي وائل لرصيف22. عمّت الفوضى بين الركاب يقول، وطالبوا الريّس بإعلام قوات الحرس البحري أو بإعادتهم إلى البر، غير أن الأخير حاول إغراق المركب عمداً خوفاً من قوات الأمن خاصة بعد مهاتفته منظم العملية لتقديم المساعدة ورفض الأخير ذلك وتهديده بالقتل في حال إرجاع الركاب أحياء، وفق تصريحه. يكمل وائل أن عدداً من الركاب قاموا بمكالمة قوات الحرس البحري الذين لم يلقوا بالاً لنداءات استغاثاتهم، وأن حالة من الهلع عمّت مع قيام "الريس" بحركة خطيرة متعمدة قلبت المركب فبدأوا في التدافع وفي إغراق بعضهم البعض. "كنت أجيد السباحة وخوفاً من أن يتمسك بي الركاب ويغرقوني سبحت حوالي كيلومتر ونصف بعيداً عن مكان الغرق. لا زلت أتذكر مشاهد عشرات الجثث طافية فوق سطح البحر. عدت بعد هدوء الوضع نسبياً صوب المركب الطافي وتمسكت به من الحادية عشرة ليلاً حتى الرابعة صباحاً"، يضيف وائل. ينتقد المتحدث تأخر قوات الحرس البحري والجيش التونسيين في الوصول لمدّ يد العون، ويلفت إلى وصول بعض الصيادين الذين رموا لهم الحبال ليتمسكوا بها، ما مكّنهم من النجاة قبل قدوم قوات الجيش التي يفترض أنها تقوم بدوريات في عرض البحر و"بإمكانها إنقاذنا بسرعة". تم نقل الناجين ومن بينهم وائل إلى الثكنة العسكرية في صفاقس حيث تولى أعوان الحرس البحري استجوابهم. يقول وائل: "كان يُفترض أن نستجوب في مركز الحرس البحري. قاموا بشتمنا وغادرنا بعد قرابة سبع ساعات. كانت الأسئلة عادية جداً وكأن مأساة إنسانية لم تحدث للتو. أعادوا استدعائي مرة ثانية للتعرف على هوية منظم العملية بعد ورود أخبار عن اعتقاله". عوامل عدّة دفعت بوائل، البطل الرياضي التونسي، إلى تعريض حياته للخطر. يفسّر ما قام به بقوله: "غادرت المنتخب الوطني بسبب ما كنت أشعر به من مظاهر العنصرية والتفرقة بين لاعبي الجنوب والشمال، فلا يقع الاختيار إلا على أبناء المسؤولين للمشاركة في المسابقات الدولية". ويضيف لرصيف22: "لم أكمل دراستي بسبب ظروف عائلتي القاسية وأنا الآن عاطل عن العمل. تخليت عن هذه الرياضة لغياب الدعم وأي أمل في تحقيق أهدافي في تونس. ورغم مطالبتي السلطات بالوقوف إلى جانبي، لم ألقَ أي دعم". حاول وائل الهجرة سراً عبر البحر سبع مرات، آخرها محاولة فاشلة انطلاقاً من سواحل الهوارية في ولاية نابل في شهر يناير 2019. ورغم ذلك يشدد وائل: "ما دمت أتنفس سأواصل تحقيق حلم مغادرة تونس إن كان بحراً أو جواً أو حتى مشياً على الأقدام، لأني لا أملك أي مستقبل في وطني"، ويضيف: "ما يلزّك عالمرّ كان إلي أمرّ منه" (لا يجبرك على المرّ سوى ما هو أشد مرارة).قرار الرحيل
حسن الأسود، 33 سنة، كان أيضاً ممَّن حالفهم الحظ ونجوا من حادثة غرق مركب قرقنة وهو كذلك من ولاية قابس ولم يكمل دراسته الجامعية وعاطل عن العمل ومهنته الأصلية هي رسم الوشوم على الأجساد. يقول حسن لرصيف22: "عائلتي رافضة تماماً لفكرة هجرتي السرية، جمعت المبلغ الضروري من عملي الموسمي في قطاع السياحة وبمساعدة بعض الأصدقاء". يشير حسن إلى أن التنقل من قابس إلى صفاقس ومنها إلى قرقنة يُعَدّ في حد ذاته عملية "حرقة" (هجرة سرية) لأن الأمن يوقف العابرين مرات عدة ويعلم أنهم ينوون المشاركة في هجرة غير شرعية بعد تفتيش حقائبهم وتبيّن أن فيها مبالغ مالية. يصف المتحدث لحظة تيقّن الركاب من غرق المركب قائلاً: "لم يكن لدينا سوى ثلاث أو أربع ثوانٍ للتفكير في ردة الفعل. قررت القفز من المركب والسباحة بعيداً لأنجو من محاولات إغراقي من الركاب لأنني أجيد السباحة، كنت أشاهد الجثث تطفو من حولي من كل جانب، شعرت بخوف شديد لهول ما أرى". وعن استجوابه بعد إنقاذه، يقول: "استجوبنا أعوان الحرس البحري استجواباً روتينياً. قاموا بمكالمتي مرة واحدة لاستدعائي للتعرف على المتهمين لكن تم تجاهل القضية ولم تتم محاسبة الشبكة المنظمة لهذه العملية ولم يتم إنصاف عائلات الضحايا". يشدد حسن على أن المركب كان بالياً جداً ولا يتسع إلا لتسعين راكباً، ويقول: "كانت مجزرة بأتم معنى الكلمة، وجوبهت بتعتيم إعلامي متعمد. أنا متأكد من أن أشخاصاً نافذين في تونس وراء هذه العملية التي تدرّ أرباحاً طائلة. تم نشر أخبار كاذبة عن سجن منظم العملية ووفاته في ما بعد بأزمة قلبية ولكنّه حي يرزق". يلفت المتحدث إلى أن شقيقه عاطل عن العمل رغم حيازته على شهادة علمية ويتحدث عن أن "انسداد الأفق في تونس وتفشي ظاهرة المحسوبية في اختبارات الحصول على الوظيفة العمومية دفعاه إلى التفكير في الهجرة إلى الخارج". ويضيف: "اشتغلت في تونس في وظائف عدة دون نتائج. في الدول الأوروبية عندما تعمل تحصد نتيجة إيجابية من حيث الأجر واحترام المواهب، عدا عن الحريات الفردية. أنا مهنتي الأصلية رسم الوشم. سأمارسها خارج تونس بكل راحة وسيقدرون موهبتي". حسن قام بثماني محاولات سابقة فاشلة للهجرة بشكل غير شرعي، ويؤكد لرصيف22: "سأواصل محاولاتي للهرب من تونس التي ليس لنا فيها أي مستقبل. العلامة ابن خلدون قال ‘وافق أو نافق أو غادر البلاد’ وأنا لا أستطيع لا النفاق ولا الموافقة لذا قررت الرحيل".شاب تونسي: "سأواصل محاولاتي للهرب من تونس التي ليس لنا فيها أي مستقبل. العلامة ابن خلدون قال ‘وافق أو نافق أو غادر البلاد’ وأنا لا أستطيع لا النفاق ولا الموافقة لذا قررت الرحيل"
عوامل عدة دفعت بالبطل الرياضي التونسي وائل فرجاني إلى تعريض حياته للخطر في محاولته الهجرة. يقول: "ما دمت أتنفس سأواصل تحقيق حلم مغادرة تونس إن كان بحراً أو جواً أو حتى مشياً على الأقدام، لأني لا أملك أي مستقبل في وطني"
الموت احتجاجاً
في نشرة شهر نوفمبر 2018 حول الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف، رصد المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 46 حالة ومحاولة انتحار في مناطق مختلفة من البلاد. أمين الزين، 35 سنة، شاب تونسي من حاملي الشهادات العليا من محافظة سليانة في الشمال الغربي ولكنّه عاطل عن العمل منذ 11 عاماً، ما دفعه إلى الإقدام في السابع من يناير 2019 على محاولة انتحار فاشلة. يوضح أمين لرصيف22 أنه لم يشارك بعد الثورة في اختبارات الوظيفة العمومية لانعدام فرص الشغل في مجال تخصصه ويضيف أنه بحث كثيراً عن فرصة عمل في عدد من المجالات لكن دون جدوى، ويضيف أنه رغم ذلك لم ييأس ولم يبقَ مكتوف الأيدي بل أطلق مشروعاً خاصاً يتمثل في بناء قبة إيكولوجية طبيعية أقامها على أرض والده. "قبة الزين" أصبحت قبلة لأحباء التخييم من كل المحافظات وحتى لبعض السياح الذين يزورون المنطقة. ولكن حلم أمين لم يستمر طويلاً إذ قامت السلطة الجهوية بغلق مشروعه منذ أكتوبر الماضي مشترطة حصوله على ترخيص من وزارتي السياحة والشباب. يبيّن أمين لرصيف22: "وافقت على تطبيق هذه الشروط الإدارية ولكني طالبتهم بإعادة فتح القبة وعدم منعي من العمل إلى حين تمكيني من الترخيص غير أنهم رفضوا مطلبي وقاموا بتأخير تسوية القضية". في السابع من يناير الحالي كان من المفترض أن يلتقي أمين بالمحافظ الذي وعده بحل مشكلة مشروعه، غير أن الأخير لم يلتزم بموعد اللقاء ما أثار غضب أمين فأقدم على شرب مبيدات زراعية نُقل على أثرها إلى المستشفى المحلي بسليانة حيث بقي يومين ونصف اليوم. يقول أمين لرصيف22 إنه عدل عن فكرة الانتحار في انتظار تنفيذ السلطات لوعودها ومنحه ترخيصاً استثنائياً لاستغلال مشروعه إلى حين تسوية وضعيته نهائياً.تسع سنوات بلا وظيفة
يتحدّر الشاب صنهوري برطولي، 37 سنة، من محافظة القصرين في الوسط الغربي لتونس. حصل على الشهادة العلمية في اختصاص التمريض غير أنه لا يزال عاطلاً عن العمل رغم تطوعه في العمل لمدة سبع سنوات في المستشفى الجهوي في محافظته. يقول برطولي لرصيف22 إنه أجرى لقاءات مباشرة مع مختلف وزراء الصحة الذين تعاقبوا على الحكم بعد الثورة ولم تلقَ مطالبه اهتماماً منهم، ويعتبر أن "سياسة المحسوبية تهيمن على قطاع الوظيفة العمومية"، ويضيف: "التقيت يوم 27 فبراير الماضي بوزير الصحة السابق سعيد العايدي الذي قال لي حرفياً ‘مَن طلب منك العمل كمتطوع؟’". منذ ذلك التاريخ وإلى حد كتابة هذه الأسطر يعتصم برطولي برفقة عدد من العاطلين عن العمل أمام مقر المحافظة للمطالبة بوظائف. ويشير برطولي إلى أن المحافظ وعد بلقاء المعتصمين والتفاوض معهم، في السابع عشر من نوفمبر الماضي، غير أنه لم يلتزم بذلك وقام باستدعاء تعزيزات أمنية كبيرة، ويضيف: "نصبوا لنا فخاً. قاموا بغلق مقر المحافظة واعتدوا علينا بالضرب والشتم، وقاموا بإيقاف ثمانية منا ورفع قضية ضدنا بتهمة احتجاز وزير واقتحام مقر سيادة". يتابع المتحدث أن تنفيذ الاعتصام منذ عشرة أشهر دون جدوى أشعره بضيق كبير فقرر وضع حد لحياته فصعد فوق الباب الخارجي للولاية ووضع حبلاً على عنقه وقفز. تسببت له الحادثة في كسور بليغة على مستوى رقبته نُقل على أثرها إلى المستشفى الجهوي في القصرين حيث بقي يومين. "أنا إلى الآن أعاني من آثار تلك الحادثة ولا عمل لي أساعد به والديّ المسنّيْن المعدمين. ما جعلني أقدم على هذه الخطوة هو أن تحركاتي السلمية لم تلقَ آذاناً صاغية. كبرت وأنا أنتظر الحصول على وظيفة عمومية"، يوضح برطولي. يؤكد الشاب لرصيف22 أنه سيواصل الاعتصام وسيعيد الكرة في حال لم تتم الاستجابة لمطلبه بتوفير فرصة عمل له.التمسك بالمعركة
من ولاية قفصة في الوسط الغربي، يتحدر منصف عيساوي، 24 سنة، وهو شاب تونسي عاطل عن العمل من أصحاب الشهادات العليا، وحصل على جائزة رئيس الجمهورية باحتلاله المركز الأول على مستوى ولايته في جميع الاختصاصات. يفيد منصف بأنه منذ تخرجه في شهر يوليو 2017 قام بعدد من المحاولات للحصول على منحة من الدولة لاستكمال دراسته في الخارج إلا أنه فوجئ بـ"توزيع المنح وفق المحسوبية"، كما شارك في مباريات تجريها شركة فسفاط قفصة غير أنه رُفض لسبب صادم وهو أن المستوى التعليمي الذي يتمتع به يفوق المستوى المطلوب، ويكمل ساخراً: "في تونس أصبحت الكفاءة والمستوى العالي تهمة". يضيف منصف أنه لجأ إلى الاعتصام في مقر الشركة برفقة عاطلين آخرين عن العمل منذ الرابع والعشرين من غسطس 2018 إلى اليوم للمطالبة بالشغل. تم استدعاء منصف وزملائه للتحقيق من قبل أعوان الأمن بعد شكوى تقدّم بها أصحاب الشركة، ويفيد بأنهم تعرّضوا لمعاملة سيئة خلال التحقيق، إضافة إلى تدهور الحالة الصحية لأحد المعتصمين الذي دخل في إضراب عن الطعام "وسط لامبالاة تامة من السلطة الجهوية التي تعاملت معنا بفوقية"، حسب تعبيره. يتابع منصف: "طريقة تعامل السلطات معنا استفزتني خاصة وأني عندما قدّمت شهادة تكريمي من رئيس البلاد لمسؤول محلي سخر مني قائلاً ‘هذا تفصيل لا يعنيني"، فصعدت بتاريخ الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي فوق مقر الاعتصام مهدداً بالانتحار شنقاً". يشير منصف إلى أنه عدل عن فكرة الانتحار لأن المسؤولين غادروا المكان بسياراتهم دون أن يلقوا بالاً لتهديده، مؤكداً: "ما حدث حينها دفعني إلى التمسك بحياتي وقررت الاستمرار في الاعتصام، لقد تحوّل الأمر إلى معركة بيني وبين مسؤولي الشركة وسأستمر فيها حتى أكسبها". وبلغت نسبة البطالة في تونس 15.5% في الثلث الأخير من سنة 2018 فيما بلغت في صفوف أصحاب الشهادات العليا 29.2% حسب إحصاءات المعهد التونسي للإحصاء.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...