كان أكبر إخوته، عمل أبواه بالصحافة، نشر أولى قصصه وهو بسن العاشرة في مجلة "صباح الخير" المصرية عام 1955.
لطمته أمه مرتين، الأولى حين أصر على معرفة سبب رفضها منحه قرشين لشراء مجلة سندباد، التي كان يقرأ فقط ما تحت صورها وهو في سن السادسة، وحين حاصرها بطوفان الأسئلة، اضطرت أن تجيبه وهي تغسل أواني الطعام بجملة: "مش معانا فلوس لأننا فقرا"، مع صفعة لتذكّره بالفقر وآلامه، وحين انتظر العدد الأسبوعي لمجلة "صباح الخير" طفلاً، تأخرت أمه في شراء نسخة، فثار ضدها، فناولته اللطمة الثانية.
هكذا حكى لي لينين الرملي عام 2006 قصة بداياته، قبل أن تنتهي حياته عصر يوم الجمعة، السابع من شباط/ فبراير 2020، بعد معركة طال أمدها مع ألم المرض، قضاه منعزلاً ومعزولاً، لم يلتفت إليه أحد، لا زملاء ولا دولة ولا صحافة، تماماً كأي نبي يقضي نحبه غريباً في صومعته وموهبته.
وصف لينين اللطمة الثانية من أمه بأنها كانت "الأخيرة"، فلم تضربه بعدها أبداً، لكن حين دخل مرضه الأخير لم تشفع له أعماله المسرحية والتلفزيونية والسينمائية كواحد ممن ربوا هذا المجتمع فنياً، ليتلقى رعاية صحية محترمة.
لينين الرملي..الاشتراكي "المشكوك في أمره"، يرحل بصمت وعزلة، ككل الأنبياء
كانت لطمة الأم أخف وطأة من لطمات الوطن، ليموت تاركاً التهميش والإهمال لموهوبين آخرين لا يزالون أحياء على أرض أوطانهم، ينتظرون في طوابير الحزن والفقد.
قال لي لينين حين التقيته، إنه كان ملازماً لأمه، منها تعلم، عايش معها أحداثاً كبرى في تاريخ مصر، منها حريق القاهرة في السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1952، وفي صباح اليوم التالي أحضر لها الجريدة فقرأت ما بها وقالت مصدومة: "يا مصيبتي... أعلنوا الأحكام العرفية"... كل ما كان يشغل لينين وقتها أن يسأل عن معنى كلمة "ملك"، فأجابته الأم المُعلمة أنها تعني "الأغنى".
بلغ كاتبنا سن التاسعة، أصدر حينها مجلة بعنوان "الأحرار"، وفي الثالثة عشر من عمره أصابه داء "الصفراء"، الذي أقعده في سريره أسبوعين استغلهما في كتابة قصة مطولة كان عنوانها "ابن القباقيبي"، وتمت طباعتها ونشرها له أبوه في مجلة "دار الصباح"، التي صودرت لمدة عشرة أيام بسبب عنوانها ولغتها الثورية.
ليس جديداً علينا فعل المصادرة بفعل الكتابة والثورة يا لينين...
انتهت قصّة لينين الرملي عصر يوم الجمعة، السابع من شباط/ فبراير 2020، بعد معركة طال أمدها مع ألم المرض، قضاه منعزلاً ومعزولاً، لم يلتفت إليه أحد، لا زملاء ولا دولة ولا صحافة، تماماً كأي نبي يقضي نحبه غريباً في صومعته وموهبته
في عام 1957 أنشأ مع ابن عمه الأكبر، "ستالين"، نعم كان هذا اسمه، مجلة، وكتب والد لينين اسمه واسم ابن عمه على المجلة، ثم أضاف اسم ابن العم الأصغر "مولوتوف"، رغم أنه لم يكن اسماً له، لكن لتكتمل الثلاثية الاشتراكية، وتم كتابة عنوان المجلة على عنوان مكتب أبيه القريب، وبعدها بيومين زارهم رجل في أواسط العمر وفي يده نسخة من المجلة، فاندفع لينين وقال له بفخر: "إحنا اللي طبعناها وعملناها... أنا لينين وابني عمي ستالين ومولوتوف..."، ليبتسم الرجل، الذي اتضح أنه من المباحث وجاء ليرى ما إذا كانت هذه الأسماء حركية أم حقيقية.
اسم ودين مشتبه بهما
قال لينين إن اسمه سبّب مشكلات كبيرة له ولوالده، ففي أواخر عام 1945 أو بدايات عام 1946، أقيم أول مؤتمر دولي للمرأة في باريس، وكانت هناك ثلاث سيدات ممثلات لمصر، بينهن أمه، وكان هو حينها ابن ثلاثة أشهر، وأرسلت أمه برقية إثر تأخرها في باريس لتطمئن عليه، وقالت في نص البرقية: "طمّني على لينين"... تم استقبال البرقية في وزارة الداخلية المصرية، وتم استدعاء والد لينين للتحقيق، لأنهم تخيلوا أن كلمة "لينين" رمز لشيء ما، لكن أبيه أثبت براءته بشهادة ميلاد الطفل، فأفرجوا عنه في الحال.
لم يكره لينين اسمه رغم ذلك... أحب النمط الأوروبي الذي عاشه أبواه من ملبس ومأكل ومشرب، ما خلق اختلافاً بينه وبين الآخرين... نشأ مختلفاً ومعزولاً عن الجيران والأطفال زملاء الروضة والمدرسة والمدرسين، الذين كانوا دائماً ينظرون إليه نظرة شك، باعتبار أن دينه ليس الإسلام بناء على اسمه، بل وتمادى بعض مدرّسيه في أن يطلبوا منه قراءة الفاتحة والتلفظ بالشهادتين ليثبت أنه مسلم.
أن تعيش في مصر فأنت مشكوك فيك دائماً حتى يثبت العكس...
كان السؤال المستمر الذي واجهه لينين بسبب اسمه هو: "لماذا أسموك لينين؟"، فكان يجيب إجابة الفنان نجيب الريحاني في فيلم "غزل البنات": "عشان كل واحد يتريق عليا شوية".
قال لي لينين، إن "سعادة الإنسان لا تخترعها نظرية كالاشتراكية والرأسمالية لأن النظريات جميعاً فشلت في تحقيق السعادة للإنسان، لأنه تركيب يشتمل على تناقضات في ذات اللحظة… ربما يصارع الآخر ويصارع ذاته في مفارقة داخلية، فمثلاً إذا طارد العسكري لصاً فهما في صراع، وإذا اكتشف العسكري أن اللص هو أخوه يتحول وقتها الأمر إلى صراع داخلي في نفس العسكري، هل يقبض على أخيه أم يساعده في الهرب؟ هنا تبدأ الدراما ما بين التناقض في المشاعر وصراع مكثف في لغة الدراما".
كان السؤال المستمر الذي واجهه لينين بسبب اسمه هو: "لماذا أسموك لينين؟"، فكان يجيب إجابة الفنان نجيب الريحاني في فيلم "غزل البنات": "عشان كل واحد يتريق عليا شوية"
الدُّفعة وصبحي ولينين
التحق لينين بمعهد الفنون المسرحية، قسم النقد، وفي حديثه عن زميل دفعته، الفنان المصري محمد صبحي، كان دبلوماسياً إلى حد كبير، رغم ما شاع في فترة التقائي به من قطيعة حدثت بين الصديقين، الكاتب والممثل، المتلازمين فنياً، لكنه روى قصة تعارفهما من خلال مشهد كتبه هو لزميل دفعته أيضاً، محمد عبد الحليم، ليقدمه في امتحان آخر العام، لكن بعد كتابة المشهد اكتشف لينين أن شخصية المساعد في المشهد ستفجر كوميديا صارخة، وسيضر هذا بصاحب المشهد الأصلي، ورغم تحذير لينين لـعبد الحليم من اختفائه وظهور المساعد، محمد صبحي، لكنه أصر، ويومها امتلأ المسرح بالطلاب وحضر الفنان أحمد مظهر والمخرج السيد راضي، ونجح صبحي نجاحاً مذهلاً، ما دعا راضي ليقدمه كوجه جديد في عمل مسرحي بالقطاع الخاص.
قدم لينين مع صبحي مسرحيات "أنت حر"، "الهمجي"، "تخاريف"، "وجهة نظر"، ثم قدم "بالعربي الفصيح" دون صبحي، حيث كان أبطالها مجموعة هواة، منهم منى زكي، التي كانت في المرحلة الإعدادية وقتها، ومعها مصطفى شعبان وفتحي عبد الوهاب.
كانت لطمة الأم أخف وطأة من لطمات الوطن، ليموت تاركاً التهميش والإهمال لموهوبين آخرين لا يزالون أحياء على أرض أوطانهم، ينتظرون في طوابير الحزن والفقد
وبحسب لينين، فإن صبحي كان يقدم نفسه للإعلام باعتباره مشاركاً في الفكر المقدم بمسرحياته، وحين رأى أن صبحي يتعمّد إخفاءه، حاول وضع حدود لسلوكه الدعائي، لكن صبحي استمر في خطته، فكان الانفصال بينهما فنياً، بعدما اعتادت الجماهير أن تسمع إعلان مسرحيتهما معاً في التليفزيون المصري عبر "ستوديو 80"، تلك الفرقة التي أسساها معاً.
لم يكن لينين يحسبها بالمنطق المادي، حتى حين فاز في عام 2005 بجائزة الأمير كلاوس، عن مجمل أعماله التي تمت ترجمتها للغات أخرى، قال إن الجوائز ليست هدفاً في حد ذاتها، وحين اتجه للإنتاج المسرحي لم يعتبر الأمر مغامرة، وقال: "لو اعتبرتها مغامرة فهذا يعني أنني قد حسبت الموضوع بالفلوس... لم أخطط للمكسب ولم يوجد أصلاً أي أمل في المكسب من الأساس من خلال المسرح، ولا يجب أن نحسب المسرح والفن عموماً بمعيار الأكل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...