لم يكن الشاب أنس الجمرة، 27 عاماً، يرغب أن ينتهي يومه، الذي بدأ بعد انتهائه من تأدية صلاة الفجر في الجامع القريب من منزله البسيط في محافظة إربد، شمال العاصمة الأردنية عمّان، بهذه الطريقة المفجعة، بحبل يلتف على رقبته ويسقطه بعد خروج روحه من جسده النحيل.
كل المؤشرات، وحتى ما قاله عم أنس ووالد زوجته لي، تفيد أن يوم السبت الذي مضى، كان مثله مثل أي يوم قاس يمر على الشاب أنس، مع اختلافات بسيطة تتعلق بزيادة العبء النفسي على أنس، مع تراكم ديونه من جراء عدم قدرته على سداد ثمن البضاعة التي كان يقترضها من السوق المركزي في إربد، حتى يبسط بها على بسطته الصغيرة، لعل وعسى يستطيع من خلالها أن يؤمن قوته وقوت أولاده الخمسة.
وتدور قصة أنس التي بدأت شعلتها يوم السبت الماضي، الأول من شباط/ فبراير 2020، وما تزال تشغل بال الأردنيين، وكما يروي عمه في حديث لرصيف22، أنه في ذلك اليوم، وبعد أن أدى أنس صلاة الفجر في الجامع، ذهب إلى السوق المركزي ليقترض بضاعة من هناك، لكن التجار رفضوا ذلك بسبب تراكم ديونه عندهم، ما جعله يبسط بسطته بالبضاعة (خضار وفواكه) التي كانت متبقية من اليوم السابق.
لكن ذلك النهار الذي خلف لأنس شعوراً بالاحتقان من "لؤم" التجار، كما يضيف العم، الذين حرموه من اقتراض بضاعة طازجة، يبدو أنه كان نهاراً غير مبشر بأي خير، فأثناء وجود أنس أمام بسطته، جاءت سيارة تابعة لبلدية إربد الكبرى وصادرت بسطته، بحجة أن البسطات مخالفة للقانون.
ويبدو أن تلك هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، ما أدى إلى عودته بعد مصادرة بضاعته إلى منزله، وشنق نفسه بحبل منتحراً، وموصلاً من خلال انتحاره رسالة غير مكتوبة، لكنها ظاهرة جداً، مفادها أن "الكيل قد طفح"، بحسب قول عمه.
اللافت في قصة أنس، كما يضيف العم، أن بسطة ذلك الشاب "المعتر" تعرضت للمصادرة من قبل بلدية إربد أكثر من مرة، على مدار الشهرين الماضيين، بسطة تشعرك أن بقاءها يهدد الأمن والسلامة في الأردن! يقول عمه مستهزئاً، ويقول بعد تنهيدة طويلة: "والله ما أنا عارف شو أحكيلك يا عمي".
اللافت في قصة أنس، كما يضيف عمه، أن بسطة ذلك الشاب "المعتر" تعرضت للمصادرة من قبل بلدية إربد أكثر من مرة، بسطة تشعرك أن بقاءها يهدد الأمن والسلامة في الأردن! يقول عمه مستهزئاً، ويقول بعد تنهيدة طويلة: "والله ما أنا عارف شو أحكيلك يا عمي"
لكن وكما يؤكد أن رسالة "طفح الكيل" لا شك أنها وصلت، خصوصاً عقب الاحتجاجات التي حدثت بعد انتحار أنس في محافظة إربد، تلك الاحتجاجات التي كان "دوزها عالي" بعض الشيء، من جراء شعور أبناء عمومة أنس بالقهر عليه، حيث قاموا بإغلاق شوارع رئيسية في إربد وإشعال إطارات، لكن سرعان ما تم احتواء هذه الاحتجاجات عندما تدخلت الأجهزة الأمنية.
"الرسالة طفح الكيل وخفوا علينا" يختم عم أنس، ويضيف: "الدولة تمارس ضغوطات على الشباب في الأردن اللي هم تعبانين بسبب صعوبة الوضع الاقتصادي وأنا بسمي هذه الضغوط بالعنف النفسي... الله يكون بالعون!".
"حكومة ردود فعل"
"الشاب العصامي" هكذا وصف رئيس الحكومة الأردنية الدكتور عمر الرزاز، الشاب أنس الجمرة، في تغريدة نشرها على حسابه الخاص، هذه التغريدة التي يقرؤها محللون بأنها تسجيل موقف حكومي استباقي لأي ردود فعل "خشنة" قد تلحق انتشار خبر انتحار الشاب أنس، خصوصاً وأن الاحتجاجات لم تقتصر على محافظة إربد، بل شن شباب وناشطون أردنيون حملات إلكترونية كانت تشي بردود فعل قد لا تحمد عقباها.
الشاب العصامي وفق وصف الرئيس عمر: "حاول أن يجني قوت يومه بعرق جبينه، واجبنا مساعدة كل مواطن يسعى إلى إيجاد مصدر رزقه من خلال تنظيم عمله ودعمه لا الوقوف في طريقه".
وختم تغريدته بـ: "أوجّه جميع البلديات، من خلال وزارة الإدارة المحلية، إلى استحداث أسواق مجانية أو بأسعار رمزية لأصحاب البسطات، تمكّن البائعين من العمل دون إغلاق الشوارع وممرات المشاة. وتلتزم الحكومة بتقديم أراضٍ من الخزينة في حال لم تتوفر أراضٍ تابعة للبلدية".
من التعليقات التي وصلت إلى رئيس الحكومة، أو كما يسميه أردنيون "الريس عمر"، كانت: "الله يخلص الشعب منكم على أهون سبب!"، حيث جاء هذا التعليق من صاحب حساب "خواطر مبعثرة"، الذي قال في تعليقه أيضاً:
"بعرف واحد يا حكومة النهضة، الأمانة صادرت عرباية الذره منه أربع مرات وكل مرة يعمل عرباي جديدة، وترجع الأمانة وتصادرها لبين ما فقد الأمل وصار يبيع حبوب فمين اللي بهدم الأمل في الشباب غيركم عقول متحجرة… فاسدين. طغاة الله يخلص الشعب منكم على أهون سبب".
فيما علقت الخبيرة الحقوقية، ليندا كلش، على تغريدة الرئيس: "مش ضروري لينتحر حدا حتى نفكر في حلول وهي سهلة، ولعلمك هناك كثير من الأحياء أموات".
وعلقت الصحافية والناشطة هبة عبيدات، على التغريدة بـ: "حكومة ردود الفعل، كم مواطن لازم يموت ليتم إعادة النظر بكل النهج الحالي!".
ويبدو أن الحرص على تدارك ما حدث مع الشاب أنس لم يقتصر فقط على تغريدة "الريس"، حيث وافق ممثلون عن عشائر الحمايدة والجمرات ومخيم إربد، خلال اجتماع عقد يوم الأربعاء، الخامس من شباط/ فبراير 2020، برئاسة محافظة إربد، رضوان العتوم، على تشكيل لجنة تقوم بدراسة وتحديد أماكن إقامة أسواق شعبية للبسطات والباعة المتجولين.
انتحر أنس مخلفاً وراءه زوجة ما تزال صامتة بسبب صدمتها بعد خسارته، وثلاثة أولاد وطفلتين، ورائحة إطارات كانت مشتعلة، وقصة جديدة لبسطاء يمارس عليهم سياسة استقواء بدلاً من سياسة الدعم لمن يستحقه
"جريمة سرقة وقتل برعاية رسمية"
وفي حديث لرصيف22، علق الناشط الأردني مجدي السعدي، على ما حدث بقوله: "حادثة انتحار شاب في إربد بعد مصادرة البسطة التي يقتات منها هي جريمة سرقة وقتل برعاية رسمية، البضاعة التي تتم مصادرتها يفترض أن تعود للشاب بعد دفع مخالفة عدم ترخيص البسطة، المخالفة بالعادة 10 دنانير، بس اللي صار مع الشاب أن هذه البضاعة تمت مصادرتها أكثر من مرة وعندما يسأل عنها يقولون له، أعطيناها للأيتام، وهذا كلام والد الشاب، علماً بأن البضاعة أحضرها بالدين وهي ذمة على الشاب المنتحر، هكذا تضيّق الحكومة على الناس حياتها، فضاقت الدنيا عليه وانتحر، هذه جريمة قتل مكتملة الأركان".
أما رئيس الحكومة، كما ختم السعدي، فكعادته يتحوّل إلى مدرب تنمية بشرية بعد كل مأساة، ويقول إنه يجب أن يستحدث أسواق جديدة للشباب، الحقيقة أننا أمام جريمة هزت المجتمع وكشفت حجم الخراب.
أما الناشط الأردني مد الله النوارسة، فقال في حديث معه: "البسطات هي مولات البسطاء"، وأضاف: "يتحدثون عن البسطات كأنها اقتصاد موازي وكأن الباعة متهربون ضريبياً، إن أزعم بسطة رأس مالها هو 1000 دينار، ويقولون البسطة تعيق الحركة وتشوه المنظر في الشارع لكن الحفر… وكأن المطبات في الشوارع هي منظر حضاري!".
ويتابع: "إن أسباب انتشار البسطات في البلد هي انخفاض القدرة الشرائية للمواطن واتساع رقعة الفقر. هل نعلم أن البائع على البسطة يكون دوامة 13 ساعة ويحصل على مربح يومي يساوي الحد الأدنى للأجور؟ وأن أغلب الباعة هم من الشباب الذين لم يتم توفير حيث يبيع التاجر البسيط".
لا شك أن ذاكرة الأردنيين، كما يقال عنها، تشبه ذاكرة السمكة، وكالعادة حجم التفاعل، أو بالأردني "الهيزعية" التي تلت حادثة الشاب أنس الجمرة بدأت تخفت شيئاً فشيئاً، ربما بسبب قصر ذاكرة السمكة التي يحملونها، أو كما قال عم أنس، إنها إضافة جديدة على حالة الاحتقان التي يشعر بها الشباب الأردنيون، ذلك الاحتقان الذي ينفجر في أي لحظة مثل ما حدث مع ابن أخيه.
انتحر أنس مخلفاً وراءه زوجة ما تزال صامتة بسبب صدمتها بعد خسارته، وثلاثة أولاد وطفلتين، ورائحة إطارات كانت مشتعلة، وقصة جديدة لبسطاء يمارس عليهم سياسة استقواء بدلاً من سياسة الدعم لمن يستحقه، أو كما يقول المثل الشعبي: "مقدرش على الحمار جاي يتشاطر على البردعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...