شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حرمة الأموات التي تُنتهك عبر فيسبوك... عن محمد حسن خليفة الذي لا أعرفه

حرمة الأموات التي تُنتهك عبر فيسبوك... عن محمد حسن خليفة الذي لا أعرفه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 29 يناير 202003:25 م

يقولون إنه عند موت أحدهم يفضل دائماً أن تذكر محاسنه: قول جميل سمعته منه ذات مرة أثر فيك بشكل إيجابي، أو موقف نبيل قام به ليسعد أحبابه، تذكره ليتعلم منه الآخرون، أما أن تسارع إلى نشر قصة تعرفها تحكي كم كان ضعيفاً، أو تعيد التذكير بمنشور حزين له على فيسبوك، أو محادثة خاصة بينك وبينه، فذلك شيء آخر يتراوح بين انتهاك الخصوصية، بحث عن الشهرة ولوي الحقائق، وربما يصل حدّ الاحتيال على أهل المتوفي باسمه.

شكراً لمن عرفوا محمد حسن خليفة تمام المعرفة، فكتبوا عن محاسنه الكثير، ليذكّرونا بأن هناك لطفاً في هذا العالم لا نلاحظه أحياناً

ما دفعني لكتابة هذا المقال هو موقف أثار سخط أحباب الكاتب الصحفي محمد حسن خليفة، والذي رحل عنا قبل أيام قليلة، أثناء تواجده في معرض الكتاب، ليشاهد كتابه الأول وهو يخرج إلى النور، محمد حسن الذي انتُهكت خصوصيته عندما قررت إحدى الصحفيات نشر محادثة قديمة بينها وبينه، يظهر فيها وهو يطلب منها نشر إحدى قصصه في جريدتها بكل تهذيب، وترد هي في كل مرة بكامل العجرفة، لا أعرف ما السبب الذي يجعل أحدهم/إحداهن يقدم على فعلة كهذه؟ لكن لنناقش الأمر بشكل عام أفضل، فمحمد ليس الأول ولن يكون الأخير الذي تُنتهك خصوصيته، وكذلك الصحفية، ليست الوحيدة التي ترى في فعلتها أمراً عادياً لا ضرر فيه ولا عيب.

ولأننا سنتحدث بشكل عام، فسوف أذكر عدة طرق قد لا ينتبه لها الكثيرون، كلها تعدّ انتهاكاً لحرمة الأموات، لا دينياً فحسب، وإنما أخلاقياً أيضاً وبمقاييس يرضاها معظمنا على الأقل، لنستخرج من حسابات الأموات ما يجعلنا مكتشفين أو مميزين.

ما دفعني لكتابة هذا المقال هو موقف أثار سخط أحباب الكاتب الصحفي محمد حسن خليفة، والذي رحل عنا قبل أيام قليلة،  حيث انتُهكت خصوصيته عندما قررت صحافية نشر محادثة قديمة بينها وبينه، يظهر فيها وهو يطلب منها نشر إحدى قصصه في جريدتها بكل تهذيب، وترد هي في كل مرة بكامل العجرفة

نبدأ بنشر "محادثة خاصة" أجراها شخص ما مع آخر قبل موته، من توصيفها، فهي "خاصة" حتى يتفق الطرفان على تغيير خصوصيتها، أما نشرها بقرار من جانب واحد، فهو أمر يتوجب على الطرف الناشر استئذان صاحبه قبل أن يقوم به، في حالة أنه على قيد الحياة، فما بالك أنه لا يملك أن يطلب منك حذف ما نشرته بعد موته أو تصحيحه على الأقل، والحكم سيان، سواء كانت المحادثة تصبّ في صالحه أو تقلل من نظرة الناس له بشكل أو بآخر، الخاص يبقى خاصاً، ولو أراد صاحبه أن يعلنه لفعل ذلك في حياته، لا أن يصمت متوقعاً قيام الطرف الآخر بفعل ذلك بعد موته.

من ناحية أخرى، أكثر من مرة أجد أحدهم وقد خاض مغامرة لعدة سنوات مضت، في التنقيب داخل حساب أحد الأصدقاء المتوفين، ليجد ما يجعله مكتشفاً عظيماً ربما: منشور قديم يتحدث فيه الميت عن الموت يظهر للنور مُجدداً، لتنهال عبارات الهجوم على عائلته وأصدقائه الذين لم ينتبهوا إلى هذا المنشور الذي كان يحمل رسالة سرية من الميت للناس في حياته -هكذا فسر المُكتشف- وبدلاً من أن تقضي العائلات أيامها في دفن لائق وذكر حزين للراحل، يجدون أنفسهم مضطرين للدفاع عن أنفسهم، وأنهم لم يقصدوا إهمال هذا المنشور أو إهمال قراءة طلاسمه مثلاً، وبكل بساطة يستطيع المكتشف الفضولي أن يجعل الميت الذي ربما قد عاش حياة سعيدة، بمثابة شخص انطوائي مكتئب، ويجعل الأهل مجرمين، والدليل اكتشافه الجديد.

الغريب في الأمر أن معظم من يقومون بذلك هم في الحقيقة ليسوا أصدقاء مقربين من المتوفي، وهذا منطقي بالطبع، فالمقربون في مثل هذا التوقيت غالباً لن ينشغلوا بالتدوين على الفيسبوك أولاً، وإنما سوف يكونون هناك في بلدته، يأخذون عزاءه برفقة أهله، لثلاثة أيام على الأقل كما اعتدنا في مجتمعنا، لكن هؤلاء المكتشفين هم أناس عاديون، ربما عرفوا الشخص الذي توفى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يجمعهم به سوى بضع تعليقات وإعجابات، لا تجعل منهم قضاة يحاكمون معارفه بعد موته، ولا كاتمي أسراره التي قد يكون ارتاح عندما مر عليها الزمن من قبل.

عندما أموت، لا أريد أن يعيد أحدهم نشر تدوينة حزينة لي، تحمّل أهلي ما لا طاقة لهم به، ولا أن ينشر أحدهم رسالة أردت أن تبقى خاصة بيننا ولم أطلب منه نشرها، شخصياً أريد أن يذهب جميع أحبتي ليقضوا ما تبقى من حياتهم بلا حزن ولا لعنة الذكريات

نعم لن ينال المتوفى أذى يذكر، فسواء كنت تؤمن بالحياة الأخرى أو لا، فالجميع يعلم أن من يرحل عنا لن تربطه بنا أية جسور، طالما نحن نقبع هنا في حياتنا الحالية، في هذا الكوكب، وسط هذا الكون، من يرحل لن يرانا ولن يسمعنا ولن يطلب منا أي شيء، غير تنفيذ وصية تركها مثلاً، لكن هناك من يتألم إن مسّ سمعة الميت سوء، أحبابه الحقيقيون وعائلته الذين وحدهم من سيقضون وقتاً أطول، للأبد ربما، يتذكرون فيه فقيدهم ويبكونه، ومن ضمن ما سوف يذكرونه عنه تفاصيل ليلة وفاته وما تلاها من أيام قليلة، فلم نزيد من أوجاعهم؟

عندما أموت، لا أريد أن يعيد أحدهم نشر تدوينة حزينة لي، تحمّل أهلي ما لا طاقة لهم به، ولا أن ينشر أحدهم رسالة أردت أن تبقى خاصة بيننا ولم أطلب منه نشرها، شخصياً لا أريد حتى أن يتحدث أحد عني، بل أتمنى أن يطويني النسيان سريعاً، ويذهب جميع أحبتي ليقضوا ما تبقى من حياتهم بلا حزن ولا لعنة الذكريات، فعلى كل حال أنا لن أسمع مديحهم ولا بكاءهم، ولن أستطع الرد على عباراتهم اللطيفة بعد الآن.

أخيراً، الكاتب محمد حسن خليفة كان صديقاً افتراضياً لي على فيسبوك، لم أتحدث معه ولم أره مطلقاً، لذا شكراً لمن عرفوا صديقنا محمد حسن خليفة تمام المعرفة، فكتبوا عن محاسنه الكثير، ليذكّرونا بأن هناك لطفاً في هذا العالم لا نلاحظه أحياناً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image