في أواخر مايو الماضي، نشرت الناشطة النسويّة، هديل علاء الدين، صورةً على حسابها بموقع "فيسبوك". يظهر في الصورة شابٌ يقف على صخورٍ إسمنتيّة على البحر مباشرةً بمدينة الإسكندريّة، وهو يرتدي ملابسه كاملةً، فيما عدا عضوه الجنسي الذي أظهره عمداً. كانت هديل بصحبة صديقتها، تجلسان أمام البحر في أحد المطاعم، عندما حاول الشاب إثارة انتباههما والوقوف بمحاذاة الطاولة، ليشاهداه وهو يُداعب عضوه الجنسي علناً. قرّرت هديل أن تلتقط المشهد بكاميرا هاتفها، وترفعها على فيسبوك ليُشاهدها الذين يُكذّبون النساء عندما يروين وقائع التحرّش بهن، ولتقول إن هذا ما تواجهه النساء في مصر يوميّاً في الأماكن العامة.
وبغضِّ النظر عن سذاجة التبرير، متى أصبح نزول البحر للتبوّل أمراً عاديّاً؟
هجوم ولوم وتبرير
فاجأت التعليقاتُ هديل بأنها هي المُلامة، لأنها لم تُغادر المكان فوراً، وبرّروا ما فعله الشاب، فتارةً يقولون إن عضوه الجنسي غير ظاهرٍ، وأنها تتجنّى عليه، وتارة يقولون إنه ينظر في اتجاهٍ آخر، ولا يقصد التحرّش بهديل وصديقتها، وأخرى يقولون إن الشاب يتبوّل "في حاله"، ولم يعترض طريق الشابتين. وبغضِّ النظر عن سذاجة التبرير، متى أصبح نزول البحر للتبوّل أمراً عاديّاً؟ أمّا جائزة أكثر التعليقات وقاحةً، فكانت من نصيب هؤلاء الذين اعتبروه يُمارس الجنس الفردي على البحر، وقد قطعت هديل "خلوته بنفسه"، وصوّرته للتشهير به.
عندما نجادل أن من حقِّ الأفراد ممارسة الجنس الفردي، وبأنه ليس وصمةً أو عاراً، لم نعنِ بذلك أن يجبروا الآخرين على مشاهدة أعضائهم الجنسيّة. ليست هذه ظاهرةً حديثة، ففي الأسواق الشعبيّة، وفي الموالد، والشوارع المظلمة، أو حتى على الكباري وتحتها، يعتاد رجال الكشف عن أعضائهم الجنسيّة أمام النساء. أما النساء فقد تفاعلن مع منشور هديل، وشهدن بتعرّضهن لنفس الأمر، وأنه مُتكرّر وشائع.
تكنولوجيا مُتحيزة جنسيّاً؟ فيسبوك يحذف صورة الشاب
بعد نشرها الصورة بعدّة ساعات، حذفها فيسبوك لأن محتواها جنسي ويتضمّن عُرياً، ما يُعتبر مُخالفاً لسياسات النشر على الموقع. نشرتها هديل مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة، وضعت ملصقاً، ستيكر، على العضو الجنسي للشاب، ولكن فيسبوك حذفها مرّة أخرى. فبعد انتشار الصورة، قام عددٌ كبيرٌ من الرجال بإبلاغ فيسبوك أن الصورة محتواها جنسي، ليقوم الأخير بحذفها. هذه البلاغات لم يقُم بها رجلٌ واحد، فهناك مجموعات رجاليّةٌ مغلقة على فيسبوك، نشرت الصورة ودعت الأعضاء إلى الإبلاغ في نفس الوقت وبشكلٍ جماعي، ليحذفها فيسبوك، مرّتين، ويُحذّر هديل من إعادة النشر لتجنّب وقف حسابها على الموقع.
إن سياسات النشر في فيسبوك مزدوجة المعايير فيما يخصّ الإبلاغ عن صور النساء.
جدير بالذكر أن سياسات النشر على فيسبوك أو ما يُسمّى: "معايير مجتمع فيسبوك"، تمنع بشكلٍ واضحٍ نشر أيّ صور ذات محتوى جنسي، أو عُري: حلمة ثدي لامرأة، فتحة شرج، مهبل، أو قضيب. ورغم أن فيسبوك يعتمد على اللوغاريتم، أكواد رقميّة، لمنع انتشار المحتويات الجنسيّة من خلال حفظ المحتويات التي يتمّ الإبلاغ عنها، وضبطها أوتوماتيكيّاً لو نُشرت مرة أخرى، فإن سياسات النشر على الموقع مزدوجة المعايير فيما يخصّ الإبلاغ عن صور النساء.
شهدت السنوات الأخيرة ظاهرة الانتقام الجنسي، أو الانتقام البورنغرافي، والتي يقوم فيها أفرادٌ بنشر محتوياتٍ شخصيّةٍ وجنسيّة خاصّةٍ بأفرادٍ آخرين على الإنترنت، بهدف التشهير، وللفيسبوك دورٌ كبيرٌ في نشر هذه المحتويات، التي غالباً ما يكون ناشرها رجلاً، يهدف إلى تشهير أو "فضح" امرأة. فهناك حساباتٌ مُزيّفةٌ بأسماء نساء، ومجموعاتٌ رجاليّةٌ مُغلقة لتداول صورٍ مُسرّبةٍ لنساء، وهي صورٌ أو مقاطع فيديو ليست بالضرورة جنسيّة، أو تحتوي على ما يعتبره فيسبوك "عُرياً". وإنما تكون مقاطع وصوراً شخصيّة تمّ نشرها بدون إذن النساء اللاتي يظهرن فيها. وهناك أمثلة عدّة، وحدثت معي شخصيّاً، أن ينشر شخص صورةً لامرأة، وعندما يتمّ إبلاغ فيسبوك أن المادة المنشورة تهدف إلى التشهير، أو أنها محتوى شخصي يتمّ نشره بدون إذن النساء الظاهرات فيه، يرُدّ فيسبوك أن المحتوى "لا يخالف معايير مجتمع فيسبوك"، لأنها لا تحتوي على "عُري"، بينما لا يُعير فيسبوك اهتماماً لسبب الإبلاغ، وهو نشر محتوى بدون إذن، بغرض التشهير.
تحدٍ نسوي علني يُجبر فيسبوك على الاعتذار
وهنا يُمكننا المقارنة بين معايير فيسبوك في حذف صور الرجال، مقابل حذف صور النساء. فالصور ذات المحتوى الجنسي يتمّ حذفها، سواء كانت لرجلٍ أو لامرأة. لا يُفسّر ذلك، لماذا لا يحذف فيسبوك عشرات الحسابات التي يتمّ الإبلاغ عنها بأنها تنشر صوراً لنساء دون رغبتهن، أو بهدف التشهير بهن. بينما يستجيب لحذف صور الرجال الذين يتمّ الإشارة إليهم كمُعتدين جنسيّاً، أو مُتحرّشين، لأنه يُعتبر تشهيراً، وانتهاكاً للخصوصية.
لهذا السبب نشرت على حسابي صورةً لي بملابس سباحة على شاطئ وقرنتها بصورة الشاب بعدما أخفيت عضوه الجنسي. قارنت بين صورتي وصورة الشاب الذي أجبر صديقتي أن تُشاهده وهو يعيش لحظةً "سعيدة" على البحر، كما اتهمها مُستخدمو فيسبوك من الرجال. قارنت بين السعادة والانتهاك، بين حذف صورة الشاب لأنها تخالف معايير فيسبوك، بينما لن يحذف فيسبوك صورتي، لو أن شخصاً قرّر نشرها بدون إذني للتشهير بي. انتشرت صورتي أيضاً، وتلقيت عدداً كبيراً من الشتائم والاتهامات. لم يحذف فيسبوك منشوري، والذي كان نصفه صورةً شخصيّةً لي، ونصفه الثاني نفس الصورة التي نشرتها هديل بعدما أخفت العضو الجنسي للشاب، وحذفها فيسبوك، وهدّدها بوقف حسابها.
انتصار جزئي حقّقناه من خلال المقارنة، عندما أرسل فيسبوك رسالةً إلى هديل، يعتذر فيها عن سوء فهمه للصورة الأولى التي تمّ حذفها، ويُقرّ رسميّاً أنها لا تخالف "معايير مجتمع فيسبوك"، وأعاد الصورة مرّة أخرى إلى حسابها، رغم احتوائها على عضو جنسي، حتى قرّرت هي إخفاءه. لم يأتِ هذا الانتصار إلا بعد سجالاتٍ طويلةٍ وتصعيدٍ ونقدٍ علني لفيسبوك، الأمر الذي لو كانت إدارة فيسبوك أكثر دراية بواقع النساء على الإنترنت، لكانت تجنّبته كليةً.
عندما نجادل أن من حقِّ الأفراد ممارسة الجنس الفردي، وبأنه ليس وصمةً، لم نعنِ بذلك أن يجبروا الآخرين على مشاهدة أعضائهم الجنسيّة. ليست هذه ظاهرةً حديثة، ففي الأسواق الشعبيّة، والشوارع المظلمة، يعتاد رجال الكشف عن أعضائهم الجنسيّة أمام النساء.
هناك أمثلة عدّة لشخص ينشر صورةً لامرأة، وعندما يتمّ إبلاغ فيسبوك أن المادة المنشورة تهدف إلى التشهير ودون إذن النساء الظاهرات فيه، يرُدّ فيسبوك أن المحتوى "لا يخالف معايير مجتمع فيسبوك"، لأنها لا تحتوي على "عُري"!
المجتمع والأجهزة التنفيذيّة، ومستخدمو الإنترنت، يوصمون اجتماعيّاً كلَّ من رفعت صوتها ضدّ الانتهاك، يكذّبونها، ويُسرّبون معلوماتها الشخصيّة للمُعتدين، ومن هنا تأتي الحاجة إلى بدائل، وإلى مقاومة سياسات الإخراس المُمنهجة.
قد تكون التكنولوجيا أداتنا لمقاومة الانتهاك
تقول هديل إنها نشرت الصورة كمقاومةٍ لتكذيب النساء باستمرار. فنحن نعيش في مجتمعات تلومنا كنساء على أي شيء، حتى لو كان انتهاكاً جنسيّاً. لا يتوقّف الأمر عند اللوم، ويمتدّ إلى إنكار حقوقنا كمواطناتٍ مصريّات. فقانون تجريم التحرّش الجنسي الصادر عام 2014 في مصر، يضع عبء إثبات وقائع التحرّش الجنسي على النساء، كما تُساهم أقسام الشرطة في تسريب المعلومات الشخصيّة للنساء المُبلِّغات عن وقائع تحرّش، ليقوم المتحرّش بابتزازها، وابتزاز أسرتها أو تهديدها بالانتقام منها. أعتبر هذه سياسات إخراسٍ ممنهجة، كما تقول الباحثة النسويّة، سارة أحمد، فالمجتمع والأجهزة التنفيذيّة، ومستخدمو الإنترنت، يوصمون اجتماعيّاً كلَّ من رفعت صوتها ضدّ الانتهاك، يكذّبونها، ويُسرّبون معلوماتها الشخصيّة للمُعتدين، ومن هنا تأتي الحاجة إلى بدائل، وإلى مقاومة سياسات الإخراس المُمنهجة، كاستخدام النساء للإنترنت، وهو المساحة التي اتخذتها العديد من النساء حول العالم في رفع أصواتهن ومقاومة استباحة أجسامهن.
نحن نعيش في مجتمعات تلومنا كنساء على أي شيء، حتى لو كان انتهاكاً جنسيّاً.
ولكن للإنترنت أيضاً عيوبه، فلو أخذنا فيسبوك مثالاً، فإن الحوسبة والكشف الأوتوماتيكي عن المحتويات المُخالفة، يُغفل جانباً هائلاً من المحتويات المنشورة على الموقع بهدف التشهير والانتقام، والتي تستهدف النساء بشكلٍ رئيسي، ولا يحذفها فيسبوك لأنه وفقاً لحوسبته وأكواده، لا تحتوي على: مهبل/ شرج/ حلمة ثدي/ قضيب. ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه الحوسبة لا تتمّ بمعزلٍ عن إدارة فيسبوك المسؤولة عن مراجعة المحتويات المُخالفة، سواء كانت أفراداً عاملين بفيسبوك، أو شركات خاصّة تُدير محتوى فيسبوك في مناطق بعينها. فالفريق القائم على مراجعة المحتويات المُخالفة في الشرق الأوسط، يجهل أبسط الأمور التي تواجهها النساء على فيسبوك في المنطقة العربيّة، ولذلك فإن مراجعة المحتوى تتطلّب ليس فقط إعادة التفكير في الحوسبة والتكويد الأوتوماتيكي، ولكن أيضاً مُحاسبة ومكاشفة الفريق المسئول عن إدارة فيسبوك في الشرق الأوسط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...