بدأت الحكاية من عشر سنوات، حين اختار أبو بكر شوقي أن يكون مشروع تخرّجه في معهد السينما، فيلماً تسجيليّاً عن مستعمرة الجُذام في مصر، تلك المستعمرة التي لا يعلم أغلب المواطنين بوجودها، ولا حتى الدولة.
لتحيا الفكرة مرَّة ثانية، بعد فترةٍ طويلة، لكن في ثوب فيلمٍ روائيٍّ طويل، قصّة استغرقت صاحبها في الكتابة مدة خمس سنوات، وفي رحلةٍ أخرى من البحث عن منتجٍ يموّل هذا المشروع، وأبطالٍ يجسّدون القصّة بواقعيّة، لتخرج صادقة.
أبو بكر شوقي مخرج ومؤلّف فيلم "يوم الدين"، ومع أوّل فيلم روائي له وجد لنفسه قاعدةً كبيرةً من المتابعين، داخل وخارج صناعة السينما.
أبو بكر شوقي مخرج ومؤلّف فيلم "يوم الدين"، شخصيةٌ مغمورةٌ لدى صنّاع الفنّ في مصر، ومع أوّل فيلم روائي له وجد لنفسه قاعدةً كبيرةً من المتابعين، داخل وخارج صناعة السينما.
فيلم يوم الدين، ليس فقط فيلماً مختلفاً يخالف ما يُعرض في السينما المصريّة حاليّاً، وما تسير عليه، بل هو إنساني بالدرجة الأولى، خطوةٌ يُفتتح بها مجالٌ جديدٌ في السينما، ودعوةٌ للمنتجين لعدم الخوف من ضياع أموالهم والخسارة، فهو مثال حي أن الفكرة التي يعمل صانعها عليها بجهدٍ كبيرٍ وإيمان، حتماً سوف تلقى الترحيب والتكريم.
الفيلم من إنتاج دينا إمام، زوجة أبو بكر شوقي، والمنتج محمد حفظي الذي يشارك مؤخّراً في المساهمة في إنتاج أفلامٍ سينمائيّةٍ مستقلّة.
الفيلم عُرض بعد مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ 71، بمهرجان الجونة، وعُرض مؤخّراً في مهرجان الفيلم العربي في برلين، ومهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، وهو مهرجان فلسطيني يُقام في حيفا.
واقعيّة القصة والتمثيل
اعتماد أبو بكر شوقي على راضي جمال "بشاي" كان في غاية الذكاء، وخدمةً كبيرةً لواقعيّة القصّة والتمثيل، فراضي هو بالفعل كان مريض جُذام متعافياً منه، تعرّف عليه أبو بكر شوقي عن طريق أحد الأصدقاء، ووافق راضي فوراً، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، إلَّا أنه آمن بالقصّة، بإنسانيتها، فهو عاشها وخاض التجربة، فكان يجلس أبو بكر معه، يقرأ عليه السيناريو ويقوم بحفظه، مع كلّ مشهد.
يحيا كلّ منبوذٍ ومظلومٍ، على أمل أنه، في يوم الدين، سوف يتساوى كلّ البشر، يقتصّ لكلّ من له حقّ أو مظلمة وأُهدرت إنسانيّته.
كذلك الطفل أحمد عبد الحافظ "أوباما" يمثّل بتلقائيّةٍ شديدةٍ، أيضاً باقي الممثلين أصحاب القدرات الخاصّة، الاعتماد عليهم أخرج القصّة بواقعيّة، فالقضية تهمّهم بشكلٍ أو بآخر.
"إحنا عايشين على أمل إن يوم الدين، كلنا سواسية"
يحيا كلّ منبوذٍ ومظلومٍ وصاحب قضية، على أمل أنه، في يوم الدين، سوف يتساوى كلّ البشر، يقتصّ لكلّ من له حقّ أو مظلمة وأُهدرت إنسانيّته.
وفيلم "يوم الدين" ينطلق من هذه النقطة: ما لم تحصل عليه في الدنيا، ربما تناله في الآخرة، أو على الأقل تنال جزءاً بسيطاً من إنسانيتك المهدورة، و"بشاي"، بطل الفيلم المصاب بالجُذام، ليس فقط منبوذ من المجتمع، بل من أهله كذلك، يحيا على هذا الأمل، أو على الأقل يعرف حقيقته.
في رأيي أن اختيار اسم الفيلم، كان جيّداً وجذّاباً في نفس الوقت، لن تُعرف ماهيّته إلَّا بعد المشاهدة.
"بشاي"، أحد مرضى مُستعمرة الجُذام المتعافين من المرض، مستعمرة كبيرة تضمّ كلّ من نبذهم المجتمع والأهل بسبب مرضهم، الذي يظنّونه مُعدياً وقاتلاً، وجدوه على باب المستعمرة صغيراً، ومن ساعتها لم يغادرها، ولا يعرف أي مكان آخر غير الجبل، الذي يخرج كل يومٍ إليه مصحوباً بدعوات السلامة، على عربة كارو يجرّها حمار يدعوه "حربي" ثم عائداً إليها بعد أن يبيع بعض الخردوات، ويقبض ثمنهاً جنيهاتٍ قليلة.
"كلّ الناس هنا متعرفش مين أهلها"
أن تجد لنفسك أسرة تلجأ إليها وتحتمى بها، هي قضية عادلة، وأبسط حقوق الإنسان، و"بشاي" لا يطلب أكثر من هذا، وتلك القضية قد وُظّفت بشكلٍ رائعٍ في الفيلم.
إذ أنه لم يعد مريضاً بالجُذام، هو ناجٍ منه، ومن حقّه أن يغادر المستعمرة ويحيا حياةً عاديّةً مثله مثل الباقية، وهو يعلم تمام العلم مدى الصعوبة التي سوف يواجها، ومدى تقبّل المجتمع له ولهيئته الجديدة، وهو كأي شخص آخر موجودٍ في المستعمرة، لا يعرف أهله، ولم يحدث أن زاره أحدٌ من قبل، ولا حتى زوجته، سجنٌ كبيرٌ مفروض عليهم، وإن غادروه، تحدث لهم صدمة كبيرة، ويتوهون.
على عربته الكارو، وحماره "حربي" الذي يجرّها، وبأمتعةٍ بسيطة، خرج "بشاي" بحثاً عن أهله في قنا، وخلفه لحق به الطفل الصغير الذي يجد فيه والده الذي لم يره، وأسرته التي حُرم منها، من حقّه أن يلهث خلف أمله حتى ولو على عربة كارو.
البعض قد يرى أن اختيار مخرج الفيلم لهذه القضية، سببه الأوّل أن يتعاطف المشاهدين مع القصّة، وصدّقني حين أقول لك أنك سوف تتعاطف مع البطل بلا شك، ربما قصد المخرج هذا بشكلٍ مباشر، وربما لا، لكن في رأيي أن أي قضية تسير على هذا المنحى وتُقدّم بهذه الشكل السينمائي، سوف تجعلك تتعاطف معها حتماً، وإذا تعاطفت فالقصّة قد حقّقت مبتغاها، الفيلم قصّته إنسانّية، وأنت تُخاطَب بناءً على هذا.
أفلام فئة "على الطريق" التي اختارها أبو بكر شوقي، ليكون فيلمه ضمنها، قليلة جدّاً في السينما المصريّة، وغريبة عليها، هذا أيضاً سبب يجعلنا نؤمن أن التوجّهات الجديدة في السينما لديها الكثير لتقدّمه، هي فقط تحتاج الفرصة، هي فئة مختلفة نعم، لكن بالنسبة لي كمشاهدٍ للفيلم، أن تحكي القصّة بهذه الطريقة وضمن هذه الفئة كان أفضل شيء في الفيلم كلّه، فإن الراوي هنا (البطل) لا أحد آخر، وهذا أبعد الفيلم تماماً عن فئة الأفلام الوثائقيّة والتسجيليّة، وفي رأيي أن هذا ما جعل أبو بكر يأخذ كلّ تلك الفترة الطويلة في كتابة القصّة والسيناريو، حتى تتحوّل من مجرّد فيلمٍ تسجيلي إلى فيلمٍ روائيٍّ طويل، وهو ما نجح فيه.
من ضمن الأشياء التي أعطت الفيلم أفضليةً عن طريق فئة أفلام "على الطريق"، هو الكمّ الكبير من المناظر والأماكن الرائعة، التي يتعرّض لها البطل أثناء رحلته، ما يُتيح للفيلم صورةً غنيةً، خصوصاً في الصعيد.
يوم الدين، ليس فقط فيلماً مختلفاً يخالف ما يُعرض في السينما المصريّة حاليّاً، وما تسير عليه، بل هو إنساني بالدرجة الأولى، ومثال حي أن الفكرة التي يعمل صانعها عليها بجهدٍ كبيرٍ وإيمان، حتماً سوف تلقى الترحيب والتكريم
تجربة الفيلم هي استثنائيّة بلا شك، وهذا راجع لاستعانة أبو بكر بأشخاصٍ، لم يسبق لهم التمثيل من قبل، فخرجت أدوارهم طبيعيّة جداً ومؤثرة
"لو ليَّ أهل كُنت دورت عليهم؟"
مجرّد اسم قرية وموقع جغرافي، هو كلّ ما يملكه "بشاي" في رأسه، بعد أن توفيت زوجته، لم يعد له صديق وونيس إلَّا حماره، وصديقه الآخر طفلٌ من دار الأيتام، اسمه "أوباما"، حين دُفنت زوجته، زارته أمّها كوداعٍ أخير، وطلباً للمغفرة على تركها كل تلك السنوات دون زيارةٍ واحدة.
هو عكس زوجته، ليس لديه ملف، فقد وجدوه على باب المستعمرة، لكنه يتذكّر من أتى به إلى هنا، وكيف كان متلهّفاً للمغادرة حتى لا يصيبه أذى!
"ساعة ما هموت محّدش هيفتكرني"
هذه الجملة ظلّت تتردّد داخل "بشاي" كثيراً، والخوف من ألّا يتذكّره أحد، ألّا يحضر جنازته إلَّا باقي المرضى والعاملين بالمستعمرة، هو ما دفعه للبحث عن أهله، أربعين سنة من عمره صرفهم هنا، في هذا المكان بمحافظة البحيرة، الذي يجهله أغلب الناس في مصر، لديه رغبة قوية بأن يكون له أسرة، أشخاص يعتنون به ويدفنونه بعد مماته، فهو ليس لديه أطفال، وزوجته توفيت، ولها أسرة كانت تعلم بوجودها، أما هو بعد أربعين سنة، لا أحد يعلم عنه شيء.
أبو بكر شوقي أثناء إخراجه لهذا الفيلم أبرز جيّداً، كيف كان "بشاي" يعاني من وحدةٍ قاتلةٍ وخوفٍ فظيعٍ من الموت بين هذه الجدران المتعفّنة، أيضاً أبو بكر طرح سؤال: هل يستطيع مريض الجذام المتعافي منه، أن يحيا حياةً عادية بين الناس؟
الفيلم كبناءٍ متماسكٌ جداً، ويُنبئ بمخرجٍ مختلفٍ في الرؤية وذي أفكارٍ جديدة تخرج عن المألوف، السيناريو مكتوبٌ بحرفيّةٍ عالية، والنقلات الموجودة به كُتبت ونُفّذت بكثيرٍ من الذكاء.أبو بكر أوجد في بطله تعايشاً مع مرضه، وتقبّل "بشاي" الأحاسيس التي نتجت عن مرضه من غربةٍ ووحدةٍ بشكلٍ جيد، لكن تقبّل المجتمع له كيف سيكون؟ وهو الأمر الذي يتضح أثناء الرحلة.
"خفيت من المرض، بس الجرح ما لوش علاج"
تجربة الفيلم هي استثنائيّة بلا شك، وهذا راجع لاستعانة أبو بكر بأشخاصٍ، لم يسبق لهم التمثيل من قبل، فخرجت أدوارهم طبيعيّة جداً ومؤثرة، كذلك اختياره التصوير في أماكن طبيعيّة ليست ديكوراً، فساعدت على إبراز رحلة "بشاي" أكثر.
إخراج أبو بكر في رأيي اعتمد أكثر على البساطة والواقعية في نفس الوقت، وعدم جعل الفيلم كلّه عبارة عن مأساة، فخلّف وراءه صوراً فنيّةً شديدة الجمال والتأثير.
الموسيقى التصويريّة للفيلم التي قام بها الملحن، عمر فاضل، شديدة الجمال والتأثير، تقرّبك من معاناة "بشاي" وما مرّ به من رحلةٍ صعبة، الموسيقى لوحدها حالة خاصّة.
قرار عرض فيلم "يوم الدين" تجاريّاً في قاعات السينما هو قرار صعب، لكن الإصرار على عرضه بعد "مهرجان كان"، ونجاحه في السينما، أكّد على أنه ليس مُجرّد فيلمٍ يُعرض في مهرجاناتٍ عالميّة، بل أيضاً لديه القدرة على المنافسة محليّاً، الفيلم كما قال أبو بكر شوقي يجب أن يكون مزيجاً من الفنّ والترفيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...