حافظتْ صديقتي، التي ستسمّي نفسها ماريا، على حياتها الخاصة كسرّ لا يعرفه أحد، بعد أن رأت أمها تُضرب كثيراً من والدها حتى ماتت بعد "علقة ساخنة"، وأخبرها بعد وفاتها بسنوات، أن أمها لم تكن أمها، كان هناك جنياً يلبسها، وحذرها من أن تحذو حذوها.
أما هي فتكسر كل كلام جدتها لتلتقي بعفاريتها: لا تنامي على بطنك، لا تغني في الحمام، لا تنظري إلى المرآة كثيراً، خاصة في الظلام... فعلت كل ذلك واستمتعت بهلوساتها، وبكهرباء لذيذة تتسرب تحت جلدها عندما تنام على بطنها.
كان لقاؤها بالعفاريت الذين تتخيل أشكالهم في المرآة، يتمّ في الظلام، تشعر بوجودهم ما إن تدندن هامسة بأغاني ماجنة، وبعد أن تطلقت، ومارست الحميمية مع بعض أصدقائها، ظل نومها على بطنها، والكهرباء اللذيذة التي تشعر بها في جسمها وتبلل مهبلها، سرها الخاص.
لايزال "الإدراك السحري" في مجتمعاتنا أسيراً لبقايا حضارات قديمة اندثرت، وتعبيراً عن حالات أقرب للعصاب الجماعي والانكسارات النفسية والاجتماعية والسياسية من أن تكون رؤية للكون ذات مغزى ومعنى.
وتبين لاحقاً أن حاجز الخوف لم ينكسر، بل لم يخدش أصلاً.
جاءت ثورة 25 يناير، والتي أثارت الكثير والكثير من الأسئلة حول حياتنا، علاقاتنا والسياسة.
كنت دائماً أطرح على نفسي وعلى أصدقائي السؤال الخاص، الشخصي، النفسي الخاص بثورة يناير، مشاركتنا فيها وما غيرته فينا حقاً، وكنت أبحث في أصدقائي، من خلال اختياراتهم الشخصية، عن إجابتهم الخاصة، فقط تلك الإجابات هي الإرث الذي سننقله للأجيال القادمة فيما عشناه، وما الإجابة العامة إلا حاصل إجاباتنا الخاصة.
كانت إجابتي الخاصة حينها في 2012، بمثابة إرث من الخوف والكبت يتجسد في تفاصيل يومية بسيطة، عدم الانضمام لعمل جماعي منظّم لتحويل طاقة الحرية والتمرد لنمط حياة وشكل سياسي واجتماعي، يختاره "الشعب" الذي ثار، عدم إكمال علاقات عاطفية شكلت الثورة والإحساس بالحرية بذورها، أو كما رواها كتاب "المدينة دائما تربح" في علاقة شيماء بخليل.
قدمت الرواية سرداً في نظري هو الأقرب لما أراه، سردية تكسر تنميط الإعلام الموجود على الضفتين، الإعلام الموالي الذي يصورها فوضى قام بها "شوية عيال" مغرر بهم، أو الإعلام "اليساري" ونظرة النشطاء، وكثير من الرموز التي شاركت في يناير، باعتبارها ثورة احتفالية تخللتها أعمال عنف، كسر فيها الشعب حاجز الخوف بوقوفه عاري الصدر أمام الرصاص والدبابات، ثم جاء السيسي فسجن أبطالها ووأدها.
وتبين لاحقاً أن حاجز الخوف لم ينكسر، بل لم يخدش أصلاً.
يعرض الكتاب الثورة كتجربة معاشة، الرعب والفزع فيها أكبر من الفرح والرقص، فخلايانا العصبية لا تنسى بسهولة، رائحة الدم والعيون التي تحدق في السماء بعد أن فاضت الروح.
أصبحنا نعي الكثير بعد الثورة، وهذا الوعي يبدو أنه غير مناسب لقدراتنا وقوتنا النفسية.
تأزمنا واكتئبنا، وبتنا نكتب كثيراً ونتحدث أكثر، حول ضرورة عدم الخجل من مرضنا النفسي، ونوصي بعضنا بعضاً بطرق التعايش معه.
التأمل أو "الوعي السحري"
التأمل، أو كما أسميه "الوعي السحري"، كانت إجابتي الخاصة والشخصية حول السؤال الشخصي والخاص بكسر حاجز الخوف في يناير.
الخوف عميق جداً، يكمن في برمجتنا الجينية، وأول إحساس بالخوف هو الخوف من أن أرى، أن أسأل نفسي وأبحث، أن أذهب بعيداً مع نفسي، مع الإجابات التي يطرحها الفلاسفة وعلماء النفس والحكماء.
الخوف بحسب بروفيسور العلوم الاجتماعية في كلية سكيدمور الأمريكية، شيلدون سولومون، متأصل فينا وليس مكتسباً، وهو ما يؤهلنا للخضوع لأشد النظم استبداداً، وينبع من الإدراك الذاتي بأنك حي، وستموت كقطعة لحم.
كيف نتحرر إذا من إرث الخوف؟
صعب، بل يكاد يكون مستحيلاً أن تسأل نفسك هذا السؤال، أو تتعامل معه بالحد الأدنى من الجدية إن لم تكن بالفعل قد تحررت، لأن هذا الإرث يخلق آلياته النفسية، يخلق شغفه الخاص، إحساسه الخاص، سؤالاته وإجاباته الخاصة.
فقط كرهت اكتئابي، لم أتعايش معه باعتباره لازمة "ثورية"، أو علامة على نضج فكري، كما تحب صديقة باحثة فرنسية أن تصف أصدقاءها المصريين في وسط البلد، اعتبرته مرضاً كالصداع يجب أن أبحث له عن علاج.
انفتحت لكل التجارب المحرّمة والشاذة، فتحت روحي مع أشخاص خارج الوسط الصحفي والناشط والمثقف، حتى أني تناولت عقاراً تصنفه منظمة الصحة العالمية أنه من أشدها خطورة.
راح الاكتئاب مرة واحدة وإلى الأبد.
كانت إجابتي الخاصة بعد تجربتي تلك، أن أشكك في العلماء والخبراء والمثقفين الذين يحوزون الأوسمة والنياشين، وأبحث عمن يبحثون عن الحقيقة، الذين شغفهم بالتغيير والأصالة أعلى وأكبر من طموحهم للتقدير والاعتراف.
أليستر كراولي، نيكولاس ساند، أوشو، فيلهلم رايش، كارل يونغ، آلان مور، أريك فروم وإدوارد سعيد، ساعدتني كتابة هؤلاء وغيرهم بأن أثمّن أن تكون المقاومة على أساس المعرفة، معرفة المقاومة وتجربة المقاومين، المقاومين للنظام الاقتصادي الذي يضع الإنتاج كقيمة أعلى، ليس فقط من رفاهية الإنسان، ولكن من كرامته وكبريائه أيضاً، المقاومين للمنظومة العصبية النفسية، التي تكيّف نفسها وفقاً لحضارة تقدر المكاسب المادية والاجتماعية، على نوعية الحياة نفسها، المقاومين لعلم نفس يقيم آلية "التكيف" مع "البيئة"، أكثر من التمرد، الإحساس بالتفرد والاختلاف، المقاومين للسلطة الثقافية التي توزع شهادات الاعتراف والتقدير، على حساب حياة أكثر زخماً ومعنى، أو "شاعرية"، بلغة إدوارد سعيد.
ساعدتني طاقتهم بأن أهتم بإحساسي بنفسي أكثر من شعور الآخرين بي، وشعوري بالجمال والنعمة اللتين في طاقة الحياة أكثر من إحساسي بنفسي وشعوري بالآخرين.
أصبحنا نعي الكثير بعد الثورة، وهذا الوعي يبدو أنه غير مناسب لقدراتنا وقوتنا النفسية. تأزمنا واكتئبنا، وبتنا نكتب كثيراً ونتحدث أكثر، حول ضرورة عدم الخجل من مرضنا النفسي، ونوصي بعضنا بعضاً بطرق التعايش معه
"إيزيس" إلهة الجمال والحب
حينما قابلت صديقتي التي سميتها ماريا، بعد أن مارسنا كثيراً تدريبات تأمل، استلهمتها من أوشو وأليستر كراولي، وعشنا في هلوسات سمعية وبصرية على إيقاع أغنية تتغنى بإيزيس، إلهة الحب والجمال المصرية، كلما تحررت عيني من أفكاري المسبقة عن الجمال كلما اكتشفت جمالها، وكلما تحررت حواسي من الشعور بالخوف كلما رأيت وجوهاً تضحك على وجهها، ونقوشاً غريبة على جسدها، وكلما لامستها اتسع قلبي ورقّت روحي.
جميلة وغامضة وغريبة هي النشوة، ولكن ما استوقفني عندها، هو تأثيرها السحري على الشخصية، القدرة على الانتشاء بالأورغازم كل فترة قريبة، له تأثير سحري على إحساسي بنفسي وعملي وحياتي، تأثير قوي.
السؤال العام والخاص، الذي يخصني ويخص التجمعات التي أنتمي إليها، من صحافيين وحقوقيين وفنانين لهم موقف سياسي واجتماعي، هل تنتشون بالأورغازم فعلاً؟
فيلهلم رايش، عالم نفس من الذين فروا من ديكتاتورية هتلر إلى أمريكا، كان يرى في عدم القابلية للاستمتاع النفسي والعاطفي بالأورغازم، أساساً عصبياً للاضطرابات العقلية، وتساعد في تهيئة الناس لتبني الفاشية والسلطوية.
ما اكتشفه رايش، وهي رؤية تقترب من نظرة الحضارات القديمة المحتفية بالجنس بحسب كتابات الباحث السوري، فراس سواح، والتي تصورها كممارسة مقدسة لها آلهتها الخاصة. إن النشوة الجنسية تعبير عن طاقة مهمة في الحياة، هي ذاتها الطاقة التي تجلب المطر والخصوبة، سماها الأورغون: قوة مليئة بالبهجة للحياة نفسها.
يقول رايش، الذي مات في السجون الأمريكية بعد أن أحرقت المباحث الفيدرالية كتبه بحكم قضائي، متأملاً حال الشباب في عصر النازية: "الشباب ملوثون من ناحية بالأخلاقيين والمدافعين عن ضرورة الامتناع عن الجنس، ومن ناحية أخرى بالأدب الإباحي، كلا التأثيرين خطر، والأول لا يقل خطورة عن الآخر".
ويكتب رايش: "البؤس الجنسي للشباب الحديث لا يمكن حصره، ولكن معظمه بعيد عن الأنظار، تحت السطح".
ما أطلبه في ذكرى مرور تسع سنوات على 28 يناير، أن تغلقوا هواتفكم المحمولة وحساباتكم وأبواب غرفكم، وأن تطفئوا النور، ثم أن تسألوا أنفسكم السؤال الشخصي والنفسي الخاص بثورة يناير، وانتبهوا إجابتكم تعني أن ثورتنا، فشلت وانتهت، أو أنها لا تزال مستمرة
"لماذا ينبغي أن تكوني عاهرة؟"
تعلمت من صديقتي التي سميتها ماريا، أن أحتفظ لنفسي دائماً، بعالم خاص، رائع، مبهج، حقيقي، بعيد عن علاقتي بالناس والعالم، أعود إليه إذا انهدّت الدنيا على رأسي يوماً ما، هذا العالم هو روحنا الجميلة التي لا يحس بها سوانا.
دعوني أصف لكم صديقتي، والتي لم أعرف حياتها وعملها وظروفها سوى بعد أن تقابلنا أكثر من مرة، نسينا هذه التفاهات، بكلمات باتا كوفي، مقدمة تليفزيون أسترالية، وتعمل في البيزنس والاستشارات التجارية، في ندوة خصصتها للتحدث عن: "لماذا ينبغي أن تكوني عاهرة؟".
تقول إنها تأملت نفسها كعاهرة، محددة الصفات الأساسية التي تصنفها وتصنف أي امرأة كعاهرة، ووجدت: "الإبداع، هو رؤية الأشياء بطريقة مختلفة، نحن كنساء عظماء لدينا مهام متعددة، ومبدعات، نعتني بأشياء كثيرة في نفس الوقت، لذا يجب أن نعيش حياتنا، أن تكوني شجاعة، ذكية، عنيدة، مبدعة وأمينة، فكري في ذلك، في كل اختيار تقومين به، وإن قال لك أحد: أنت عاهرة، ابتسمي وقولي : نعم أنا كذلك".
"إذا كنت امرأة قوية، تتحدثين بسلطة، لا تخضعين للناس، إذا تحدثت عما يجول بخاطرك، لديك جرعة صحية من الأنا، إن كان لديك فعلاً ثقة بالنفس وشغف حقيقي، فأنت عاهرة، ولكن إن توفرت هذه الصفات في الرجل فهو مدير تنفيذي، ومطلوب في أي فريق عمل".
لقد خلقت وسائل التواصل الاجتماعي مسافة شاسعة، بين شكل هويتنا الاجتماعية وبين إحساسنا الداخلي بهويتنا، واهتمامنا بـ"الشكل الاجتماعي" أثر بطريقة كارثية على اختياراتنا "الحميمية" وتقييمنا للانتشاء، ما جعل شخصيتنا مهزوزة للغاية، وجعلنا فاقدي الثقة بأنفسنا وأصدقائنا وشركائنا، وهذه هي أيضاً إجابتي الخاصة جداً، والخاصة بجيلي ومجتمعي.
المعرفة المقاوِمة، التأمُّل والنشوة الحسية، هذه إجابتي الخاصة وليست إجابتكم، ما أطلبه في ذكرى مرور تسع سنوات على 28 يناير، أن تغلقوا هواتفكم المحمولة وحساباتكم وأبواب غرفكم، وأن تطفئوا النور، ثم أن تسألوا أنفسكم السؤال الشخصي والنفسي الخاص بثورة يناير، وانتبهوا…
إجابتكم تعني أن ثورتنا، فشلت وانتهت، أو أنها لا تزال مستمرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...