يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
أول نقطة تقابل المتجولين في العاصمة المصرية، عند خروجهم من الحدود الإدارية لمحافظة القاهرة، والدخول إلى محافظة الجيزة، بعد عبور كوبري الجلاء، هي "حي الدقي"، ذلك الحي الذي أصبح نقطة التمركز الرئيسية للجاليات العربية خلال العقود الأخيرة.
استمدّ "حي الدقي" اسمَه من عائلة عريقة جاءت من صعيد مصر وأستوطنت المنطقة، في الوقت الذي لم تكن قد دخلت إلى حيز الحضر بعد، كان "الدقي" في بدايات القرن الماضي عبارة عن مجموعة من الفيلات والقصور المتناثرة وسط الأراضي الزراعية، ولا يتخيل المارّة في أشهر شوارع الحي حالياً، وهو شارع "مصدّق"، الحكاية الصاخبة التي قادت لإطلاق اسم "مصدق" على الشارع التجاري الذي لا تتوقف فيه الحركة طوال ساعات النهار والليل.
البداية كانت مع القائد السياسي ورئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمّد مصدق (1882- 1967) الذي لم يستطع السيطرة على مشاعره أمام الجماهير المصرية التي خرجت لاستقباله فور وصوله إلى القاهرة في زيارة تاريخية شهيرة منتصف القرن العشرين، بدعوة من رئيس الحكومة مصطفى النحاس باشا، حيث انفجر "مصدّق" باكيًا، في شرفة فندق "شبرد"، متأثرًا بحرارة الاستقبال، والاحتفاء من جانب القوى الوطنية المصرية، وجميع طوائف الشعب. كانت لهذه الزيارة تأثيرات واسعة النطاق على المستويين الإقليمي والدولي، وفي عام 1979، خلدت مصر اسم "مصدّق" بإطلاقه على أحد أهم شوارع منطقة الدقي بمحافظة الجيزة.
في عام 1951، كانت مصر وإيران تسيران على خطّ واحد في مواجهة الهيمنة البريطانية؛ عندما أصبح "محمد مصدق" رئيسًا لوزراء إيران في 19 إبريل من العام نفسه، اتخذ قرارًا ثوريًا بتأميم بترول إيران، أقرّته الحكومة في 30 إبريل، ومنذ تلك اللحظة –وفقًا لما ورد في كتاب "مدافع آيات الله" للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل- أصبح مصدّق تجسيدًا لطموحات الشعب الإيرانى، ورمز اعتزاز الأمة بنفسها.
وفي مصر اتّخذ رئيس الحكومة مصطفى النحاس باشا، قرارًا بإلغاء معاهدة 1936 أمام البرلمان المصري، وهي المعاهدة التي وقعتها مصر مع بريطانيا، واعتبرتها المعارضة بمثابة إقرار بخضوع وتبعية الدولة المصرية إلى بريطانيا، من هنا أصبحت الدولتان "مصر وإيران" في مواجهة مفتوحه مع بريطانيا؛ في مصر تصاعدت وتيرة العمليات الفدائية في مدن القناة، وكان الشهداء يتساقطون يوميًا جراء القمع المفرط من جانب القوات البريطانية، وفى إيران دبّرت المخابرات الأمريكية بالتعاون مع إنكلترا، خطة التخلص من "مصدق" بالانقلاب عليه يوم 22 أغسطس 1953،وتمّ وضعه تحت الإقامة الجبرية حتى توفي وحيدًا بين جدران بيته عام 1967.
في عام 1979، تغير اسم شارع "الامبراطور بَهلَوي" بحيّ الدقي، إلى شارع "مصدق" بعد أن قرّر الرئيس المصري أنور السادات تخليد اسم "مصدق"، ليصبح أهمّ شوارع المنطقة التي تحولت إلى حيٍّ للمدارس والسفارات
يذكر محمد حسنين هيكل فى كتابه السابق ذكره أنه بعد قرار تأميم البترول: "قامت الحكومة البريطانية التى تسيطر على شركة البترول (الأنجلوإيرانية)، برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إيران، وقبلها توقفت عن دفع التزاماتها للخزانة الإيرانية، مما أدى إلى عدم صرف رواتب العديد من موظفي الحكومة، وتصاعد الموقف بعد ذلك حتى توقفت الشركة عن تكرير البترول".
ويصف هيكل شخصية مصدق فى هذه الآونة قائلًا: "كان خليطًا غريبًا كزعيم سياسى، فرغم أنه بلغ السبعين إلا أنه كان خطيبًا مفوهًا يجيد تحريك العواطف، ومثقلًا بكلّ أحزان الشيعة"، ويتذكر هيكل، أنه حضر عدة مناقشات فى البرلمان الإيرانى وقتئذ، وشاهد وسمع مصدق خطيبا: "أصبحت خصائص أسلوبه فى الخطابة مألوفة لدى، فعادة ما كان يبدأ بالتحدث إلى النّواب عن آلام الشعب الإيرانى، إلى أن يتملكه التأثر من بلاغته شخصيًا فينفجر باكيًا، ثمّ يتحول البكاء إلى نوبة سعال، ثم ينهار تمامًا، فيندفع إليه النواب، يقدمون إليه أكواب الماء والكولونيا، والمنعشات ليشمها، وبعد قليل ينجحون فى إعادته للوقوف على قدميه، ويشرع فى مواصلة خطبته، ليغلبه التأثر بنفس الطريقة مرّة أخرى بعد خمس دقائق. كان الجميع يتعجبون من صدق عواطفه، وكان مخلصًا للغاية، وبحلول عام 1951 أصبح تجسيدًا لطموحات الشعب الإيرانى".
كان "النحاس باشا" شديد الإعجاب بالخطوات الإصلاحية والتأميمية التي يقوم بها "مصدّق"، حيث وجدها قرارات ثورية ووطنية، تسير على نفس النهج المصري الرافض للهيمنة البريطانية، فوجه الدعوة إليه لزيارة مصر؛ وصل "مصدق" إلى مطار القاهرة في 20 نوفمبر عام 1951، وسط استقبال غير مسبوق، من جانب كبار السياسيين والقوى الوطنية المصرية، ومختلف فئات الشعب الذين ملأوا الشوارع من محطة مصر حتى ميدان الأوبرا، ومن شدّة تأثره لم يستطع "مصدّق" أن يلقي خطابه، فانفجر باكيًا، وألقى كلمته في اليوم الثاني عبر الإذاعة.
وثقت جريدة الأهرام المصرية زيارة "مصدق" التي استمرّت 4 أيام حيث وصفتها في عددها الصادر يوم 21 نوفمبر: "خرجت القاهرة عن بكرة أبيها لاستقبال البطل العظيم الدكتور مصدق. انتظم الشعب كلّه فى مواكب تهتف بحياة البطل الجبار قاهر الاستعمار وزعيم المجاهدين الأحرار" وأضافت: "مطار فاروق كان مقصد آلاف عديدة من مختلف هيئات الشعب وطبقاته". وقال مصدق لمندوب الأهرام: "إن إيران تؤيد مصر تأييدًا كاملًا، فمصر وإيران مصابتان بداء واحد وعلاج الداء واحد، ويجب أن يكافح البلدانِ فى سبيل استقلالهما حتى ينالا الاستقلال التام".
وفي كتابه "العلاقة بين القاهرة وطهران؛ تنافس أم تعاون"، يذكر الدكتور "سعيد الصباغ" أن المثقفين والكتاب المصريين، اعتبروا زيارة مصدق علامة على "وثبة الشرق، وراحوا يؤكدون أنه كما أن بترول (عبّادان) من حقّ حكومة إيران، فإن قناة السويس من حقّ المصريين ومن صميم أملاكهم رغم كلّ عدوان أو طغيان، وعلى هذه الآمال وعلى هذه الآلام تجتمع مصر وإيران، وسوف تؤيد كلٌّ منهما الأخرى على مر الأيام".
وقد اشتهر الشارعُ تاريخيًا بكونه مركزًا لتجمع الجاليات العربية والخليجية، والسائحين العرب، ويشكل الموقع نقطة التمركز الأساسية للجالية الإيرانية واليمنية في القاهرة
وكان من نتائج هذه الزيارة اعتراف إيران رسميًا بلقب الملك فاروق الجديد "ملك مصر والسودان"، بتاريخ 10 ديسمبر 1951، وكانت هي أول دولة تعترف بهذا اللقب، وفي نفس العام 1951 تمّ اختيار "محمد مصدق" شخصيةَ العام في استفتاء مجلة "التايم" الأمريكية.
في عام 1979، تغير اسم شارع "الامبراطور بَهلَوي" بحيّ الدقي، إلى شارع "مصدق" بعد أن قرّر الرئيس المصري أنور السادات تخليد اسم "مصدق"، ليصبح أهمّ شوارع المنطقة التي تحولت إلى حيٍّ للمدارس والسفارات، حيث تضمّ ما يزيد عن 100 مدرسة و 60 سفارة للعديد من الدول العربية والأجنبية، لتتغير معالم "الدقي" من قرية صغيرة من قرى ريف الجيزة، إلى حي للصفوة.
كانت الدقي في النصف الأول من القرن الماضي متنفسًا للأثرياء، حيث امتلأت بالقصور والمزارع، وكانت أيضًا سكنًا مستديمًا لبعض العائلات الغنية، وذلك لقربها من القاهرة، ، ولم تدخل الحيّز الحضري إلا في عام 1964، أما عن الوضع الحالي فالدقي تضمّ اليوم مجموعة من أهمّ شوارع وميادين الجيزة، منها شارع التحرير، ومحيي الدين أبو العز، وشارع إيران وميدان المساحة، بالإضافة إلى شارع مصدق.
يتوسط شارع "مصدق" حيَّ المدارس والسفارات، ويبدأ من شارع الدقي وينتهي عند شارع السودان، ويجاوره شوارع "إيران والتحرير"، وشارع "جامعة الدول العربية" من جهة حيّ المهندسين، ويقطعه شارع محيي الدين أبو العز. وتعتبر "الحداثة والمدنية، والثراء" الملامح الرئيسية لهوية شارع مصدق، حيث اندثرت الأبنية القديمة –إلا القليل منها- تحت وطأة العمارات الحديثة، حيث سلاسل المطاعم والكافيهات الشهيرة مثل: كوستا، بينوس، سينابونو العديد من البنوك والسفارات، والمدارس الأجنبية والحكومية.
وقد اشتهر الشارعُ تاريخيًا بكونه مركزًا لتجمع الجاليات العربية والخليجية، والسائحين العرب، ويشكل الموقع نقطة التمركز الأساسية للجالية الإيرانية واليمنية في القاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...