ظل يوسف (اسم مستعار) عدة أيام متردداً وخائفاً. لم يكن يعلم كيف يستعيد حياته الطبيعية مرة أخرى، فقد أصبح مكبّلاً بكوابيسه التي لازمته طوال مدة سجنه 30 شهراً، والتي حملها إلى الخارج حتى بعد تخلية سبيله من قضية التظاهر التي حُبس بسببها.
ظن يوسف أن حصوله على الحرية سيُعيد حياته إلى طبيعتها مرة أخرى، فيعود إلى العمل والمشاركة في المناسبات الاجتماعية، لكنه فوجئ أنه أصبح أكثر ميلاً للحزن والعزلة.
لاحقاً، وبعدما ملّ من التفكير في حالته النفسية التي استمرت في التدهور، قرر مشاركة أصدقائه تفاصيل تجربته الأليمة وشعوره حيالها، فاقترحوا عليه زيارة طبيب نفسي يساعده على الخروج من تلك الحالة.
حكاية يوسف
يروي يوسف حكايته :"أخلي سبيلي بعد 30 شهراً، أي ما يعادل عامين ونصف العام من الحبس، في قضية تظاهر عام 2014. عقب خروجي من الحبس، كنت أنكر حاجتي للمساعدة وأزعم أن حالتي النفسية مستقرة، حتى ساءت الأمور وقررت الذهاب لطبيب نفسي".
يصيف: "بعد خروجي من السجن كانت رغبتي في القيام بأي نشاط معدومة تماماً. كنت أشعر بالذنب طوال الوقت وتنتابني الكوابيس، فلجأت لمركز النديم لإعادة التأهيل لضحايا التعذيب وتم تشخيصي باكتئاب حاد واضطراب ما بعد الصدمة".
يدرك يوسف أن ما أدى إلى إصابته بهذا المرض أسباب كثيرة، أولها فكرة الحبس ذاتها، خصوصاً أنه لم يرتكب جُرماً حتى تُحتجز حريته ويتم التنكيل به.
عانى يوسف كذلك من التضييق الذي لازمه طوال فترة حبسه، وتحديداً لأنه مسجون على خلفية قضايا سياسية.
لم تختلف رحلة يوسف مع الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة عن رحلة شذا السيد (اسم مستعار). الفتاة التي تبلغ من العمر 25 عاماً بقيت رهن الحبس الاحتياطي لمدة عام ونصف العام، بعدما أُلقي القبض عليها من منزلها وتم التحقيق معها في نيابة أمن الدولة العليا بعد اتهامها بنشر أخبار كاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانضمام إلى جماعة إرهابية.
كوابيس شذا
لم تفارق الكوابيس شذا ليلة واحدة منذ تخلية سبيلها في آب/ أغسطس من العام الماضي، وبعدما سيطر الخوف عليها قررت التوجه إلى طبيب نفسي ليساعدها على الخروج من هذا المأزق.
ظنت أن الأمر سينتهي عقب زيارتها للطبيب النفسي، لتكتشف أنها مصابة باكتئاب الحاد واضطراب ما بعد الصدمة وأن رحلتها مع العلاج طويلة، واضطرت لمتابعة الجلسات النفسية وأخذ العقاقير التي وصفها لها الطبيب، بالإضافة إلى التزامها مواعيد التدابير الاحترازية اليومية في قسم الشرطة التابع لمحل سكنها.
تروي شذا قصتها قائلة: "لم يكن الحبس بين جدران الزنزانة هو ما أثّر علي سلباً وجعل حالتي النفسية تسوء بالرغم من شعوري الدائم بالظلم الذي يقع علي، لكن ما تسبب في انتكاستي نفسياً هو تعرضي للتعذيب النفسي داخل مقر الأمن الوطني وتهديدي بالتحرش والاغتصاب قبل ترحيلي للسجن، لتبدأ رحلة حبسي احتياطياً على ذمة القضية".
وتكمل: "منذ تخلية سبيلي حتى الآن لم تتوقف الكوابيس بالتهديدات التي تلقيتها أثناء احتجازي. لم أستطع النوم هادئة ولا أستطع التأقلم مع الواقع ولا العودة لحياتي الطبيعية، وخصوصاً مع ذهابي يومياً إلى قسم الشرطة بسبب التدابير الاحترازية".
وتضيف: "التوتر والخوف والكوابيس تطاردني، خصوصاً مع إحساسي الدائم بأن تلك التهديدات ستُنفّذ في أي وقت. لا يزال نومي مضطرباً ولا أشعر بالأمان برغم حريتي الجزئية التي حصلت عليها".
"التالفة"
لم تكن الأزمات النفسية التي تلاحق السجناء السياسيين المحصلة النهائية في رحلة سجنهم فقط، فإلى جانبها كانت الأزمات الصحية حاضرة بشدة. ورغم اختلاف الأمراض التي يصاب بها السجين، ظلت الأمراض الجلدية الأكثر انتشاراً بين السجناء السياسيين الذين تبدأ رحلة علاجهم منذ خروجهم من السجن وتمتد بضعة أشهر حتى الشفاء التام.
"بعد خروجي من السجن كانت رغبتي في القيام بأي نشاط معدومة تماماً. كنت أشعر بالذنب طوال الوقت وتنتابني الكوابيس، فلجأت لمركز النديم لإعادة التأهيل لضحايا التعذيب وتم تشخيصي باكتئاب حاد واضطراب ما بعد الصدمة"
"منذ تخلية سبيلي، لم تتوقف الكوابيس بالتهديدات التي تلقيتها أثناء احتجازي. لم أستطع النوم هادئة ولا أستطع التأقلم مع الواقع ولا العودة لحياتي الطبيعية، وخصوصاً مع ذهابي يومياً إلى قسم الشرطة بسبب التدابير الاحترازية"
"أصبت بمرض جلدي معدٍ أثناء احتجازي في أحد أقسام الشرطة. بدأت رحلة العلاج عقب تخلية سبيلي. كانت رحلة شاقة على أسرتي وخصوصاً أن المرض كان معدياً. وكان محظوراً علي التعامل معهم عن قرب".
هكذا بدأ أحمد عبد الجواد (اسم مستعار) رحلة علاجه عقب خروجه من السجن. يقول: "قُبض علي في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016، وبعد عدة أشهر أُخلي سبيلي وتم ترحيلي إلى قسم عين شمس. وأثناء إنهاء إجراءات تخلية سبيلي التي استمرت عدة أسابيع، تم احتجازي في مكان يسمى الثلاجة، حيث يُمنع دخول الحمام سوى مرة في اليوم"، موضحاً "في هذه الفترة، أصبت بالجرب الذي يطلق عليه السجناء ′التالفة′ لأنه يتلف خلايا الجسد".
يضيف: "استمرت رحلة علاجي نحو شهر، لكن للأسف عاد المرض بعد القبض علي مرة أخرى في كانون الثاني/ يناير عام 2017، وأثناء احتجازي في قسم شبرا الخيمة أصبت بالمرض مجدداً، لأن القسم كان مليئاً بالحشرات مثل الصراصير والبق، ثم رُحّلت إلى سجن بنها الذي مكثت فيه عدة أشهر وعولجت بالمضادات الحيوية والمسكنات التي كانت مع المساجين".
ويشير أحمد إلى أنه لم يستطع العلاج والتخلص من الجرب سوى عقب حصوله على تخلية السبيل.
جرب عبد العزيز
كان لمرض الجرب حضوره في حياة سجين سياسي آخر، هو الطبيب عبد العزيز فهمي (اسم مستعار) الذي قضى نحو ستة أشهر في ثلاثة أماكن مختلفة، بدأت بقسم رمل أول في محافظة الإسكندرية وانتهت في سجن برج العرب في المحافظة نفسها، وفي هذا السجن انتقل مرض الجرب إليه.
"أُصبت بالجرب أثناء احتجازي في سجن برج العرب في محافظة الإسكندرية حيث قضيت ثلاثة أشهر، بعد القبض علي في آب/ أغسطس عام 2017 وتخلية سبيلي في شباط/ فبراير عام 2018".
يروي عبد العزيز تفاصيل قصته فيقول: "أُصبت بمرض الجرب أثناء احتجازي في سجن برج العرب في محافظة الإسكندرية حيث قضيت ثلاثة أشهر، بعد القبض علي في آب/ أغسطس عام 2017 وتخلية سبيلي في شباط/ فبراير عام 2018".
"عدد كبير من الشباب الذين يتم حبسهم على خلفية قضايا سياسية يتخوفون من العلاج النفسي خشية من نظرة المجتمع".
يضيف: "لا توجد رعاية طبية حقيقية داخل السجن، وهو ما يساعد على تفشي الأمراض وانتقالها من شخص لآخر، وخصوصاً مع تزايد عدد المساجين في العنبر الواحد. بالإضافة إلى قلة وجود الأدوية"، موضحاً أن "لدى كل عنبر مخزون أدوية للحالات الطارئة، لأن الانتقال إلى مستشفى السجن من أصعب الأمور التي واجهتنا".
شعور بالاغتراب وخجل من العلاج
تعبّر مديرة "مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" عايدة سيف الدولة عن حزنها بسبب وجود عدد كبير من الشباب الذين يتم حبسهم على خلفية قضايا سياسية يتخوفون من العلاج النفسي خشية من نظرة المجتمع، وخصوصاً أن العلاج النفسي لا يزال يفتقد لتفهم المجتمع الذي يرى أن المريض النفسي مجنون.
وتشير سيف الدولة إلى أن الآثار النفسية للسجن تتوقف على عدة عناصر تشمل طبيعة ما تعرض له الشخص أثناء حبسه من تعذيب جسدي ونفسي، بالإضافة إلى شبكات الدعم الاجتماعي أثناء فترة الحبس وما بعدها.
وتضيف: "كلما تعرض الإنسان لعنف أو تعذيب أو إهانة أثناء فترة الحبس كان الغضب أكبر والشعور بالعجز وقلة الحيلة والاكتئاب أكثر شدة"، لافتة إلى تراوح أعراض الذين لجأوا للمركز عقب خروجهم من السجن بين القلق والاكتئاب.
وتوضح قائلة: "في الأحوال الشديدة عانوا اضطراب ما بعد الصدمة وما يصاحبه من أعراض كالأرق أو كثرة النوم وانعدام الشهية أو الإفراط في تناول الطعام. وهنالك أعراض أخرى مثل التوتر والكوابيس والتشاؤم والشك في الآخرين وفقدان الثقة في النفس".
وتختم مديرة مركز التأهيل: "مع انتهاء فترة الحبس، يخرج المعتقل إلى عالم غاب عنه طوال فترة حبسه. هنا تبدأ حزمة أخرى من المشكلات المحتملة والتي تتوقف على الدعم الاجتماعي الذي يحصل عليه: استكمال تعليمه أو عدمه، العودة إلى وظيفته أو عدمها، عدا اضطراره لإعادة اكتشاف هذا العالم مرة أخرى".
وفي حالات كثيرة، حسب سيف الدولة، يتسبب هذا الواقع بشعور الاغتراب عمن وعما حوله، بالإضافة إلى ذلك معاناة المعتقل من الحرمان من الحرية طوال فترة احتجازه، وخصوصاً إذا لم يكن للحرمان من الحرية سبب معقول أو مفهوم.
يُذكر أن "مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" تأسس عام 1993. ووفقاً لآخر إحصاءات المركز المعلنة عام 2015، استفاد من خدمات برنامج تأهيل ضحايا التعذيب 4763 رجلاً وامرأة، ومن برنامج دعم النساء المعنفات 872 امرأة، قدم لهم المركز خدمات الدعم النفسي والطبي والاجتماعي والقانوني.
انتشار الأمراض الجلدية
عن الجانب الصحي، يقول استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية نبيل محمد أن الشمس والتهوئة الجيدة والنظافة المستمرة من أساسيات الحفاظ على صحة الإنسان.
ويضيف: "معروف علمياً أن أغلب الميكروبات تنمو أكثر في المناطق الرطبة والمظلمة، وبالتالي عدم التعرض للشمس يوفر بيئة خصبة لنمو الميكروبات بكافة أنواعها والتي يظهر تأثيرها بشكل أقوي على الأشخاص أصحاب المناعة الضعيفة مثل أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن".
ويشير محمد إلى أن الأمراض الجلدية تكثر في التكدسات والتجمعات الكبرى، مثل الملاجئ ومعسكرات التجنيد والسجون المكتظة بالمساجين، وأشهرها هو الجرب والحساسية الجلدية والأمراض المتعلقة بحشرات الفراش.
يُذكر أنه في كانون الأول/ ديسمبر عام 2016، كانت "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات" قد رصدت 18 حالة من المصابين بالجرب، إلى جانب أمراض أخرى، داخل أقسام شبرا الخيمة ثان في محافظة القليوبية، ومركز شرطة عزبة اللحم في محافظة دمياط، وقسم شرطة زفتى في الغربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي