على عكس السائد من أفكار في عقول كثيرين وما يتواصون به في ما بينهم من أن قاتل نفسه كافر وأن عقابه المنتظر الخلود في جهنم، جاءت فتوى مشيخة الأزهر ودار الإفتاء المصرية لتنقض تلك الأفكار، وتؤكد أن "المنتحر لم يخرج من الملة، وأنه يُغسل ويُكفن ويُصلى عليه في مساجد المسلمين، ويُدفن في مقابرهم، ويُدعى له بالمغفرة والرحمة".
هذه الفتوى قابلها مراقبون ومحللون اجتماعيون بتوجس وخوف كبيرين، فرغم أنها تبعث طاقة أمل لأهالي من انتحروا بأن ذويهم لم يموتوا على كفر كما يعتقدون، إلا أن البعض نظر إليها باعتبارها باباً يُفضي إلى المزيد من حالات الانتحار بعدما أسقطت هيبة الموت في عيون الناس.
وبينما رأى هؤلاء أن الرادع الديني الذي كان يقف حائلاً بين الراغبين في الانتحار وبين تنفيد فكرتهم قد زال بهذه الفتوى، كثرت التساؤلات حول ما إذا كانت فتوى "المنتحر ليس بكافر" ستشجع على الانتحار، وما إذا كانت ستصبح شماعة شرعية لازدياد عدد المنتحرين في مصر.
"صاحب النية لا ينتظر فتوى"
"يكون الدين عاملاً لردع الانتحار من وجهة نظري المتواضعة، إذ منذ كنا صغاراً ونحن ندرس في الأزهر أن المنتحر كافر كافر كافر، خوفونا من أن نموت كافرين وبقيت مقتنعاً بهذا الكلام إلى أن دخلت الجامعة ودرست الفقه المقارن وعرفت أن المنتحر ليس بكافر"، هكذا يقول طالب كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر محمود أحمد أبو النجا.
"من يفكر بالانتحار لن يكون معنياً بما يقوله عالم دين عن أن المنتحر ليس كافراً، ثم ينتحر مسروراً".
في المقابل، يذهب أبو النجا إلى أن الدين كفيل بمنع الانتحار، قائلًا: "الانتحار ضعف إيمان بالله، ولو كان لدى المنتحر إيمان بالقضاء والقدر وأن الله لا يفعل إلا خيراً، وأن المحن اختبار من الله، لن يعترض على حكمه، ولن ييأس أو يكتئب أو ينتحر".
ويرى أبو النجا أن صاحب النية بالانتحار لا ينتظر فتوى حتى يُقدم على فعلته أو يمتنع، معلقاً بأن "من يفكر بالانتحار لن يكون معنياً بما يقوله عالم دين عن أن المنتحر ليس كافراً، ثم ينتحر مسروراً".
محمود أبو النجا
بدوره، يقول سيد زغلول إن "الموت على الكفر والعذاب المخلد في جهنم" كانا سبباً كافياً في نظره للامتناع عن الإقدام على الانتحار، مشيراً إلى كثرة الضغوط التي يعانيها، خاصة وقت الامتحانات في كليته التي وصفها بالصعبة.
ويلفت زغلول، وهو طالب الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، إلى أن هناك ضغوطاً حياتية تحدث طوال الوقت، وتشكل دافعاً للموت أو رغبة به، مستدركاً بالقول: "لكنها رغبة تنتهي بانتهاء المشكلة".
"الضغط يولد انتحاراً"، يعقب زغلول مشيراً إلى الضغوط التي يتعرض لها الشباب، في الأسرة أو في الدراسة أو في العمل، والتي قد تؤدي بهم إلى الانتحار.
ويشير إلى قصة صديقة له أقبلت على الانتحار مرتين، بإلقاء نفسها من بناية في المرة الأولى وبابتلاع شريط حبوب في المرة الثانية، مرجعاً ذلك إلى أنها "متأثرة بالسحر، بعدما رفضت شاباً لتدني مستواه الثقافي والاجتماعي والمادي".
سيد زغلول
وبحسب الدراسات، تشكل الحالة الصحية دافعاً للاكتئاب ومن ثم الانتحار، فالمرضى المصابون بأمراض مستعصية كالسرطان والإيدز أكثر إقبالاً على الانتحار، وتراوح نسبتهم من 15 إلى 18% من مجموع المنتحرين، كما يقول آندي حجازي في كتابه "الانتحار: أعراضه ومسبباته وسبل الحد منه".
"تعبت من كثرة الحقن في جسمي"
"فكرة الانتحار وإن ده أسهل حل بالنسبة لي مش عايزة تفارقني أبداً"، هكذا يعبّر عمر عن صدمته وخيبة أمله عندما علم أنه مصاب بالسرطان.
ويشرح عمر الألم النفسي الذي أصابه، وجعل فكرة الانتحار تؤرق مضجعه ليلاً نهاراً، ويقال: "كان الانتحار أقل بكثير من الألم الجسدي الذي شعرت به طوال فترة العلاج، فالمحاليل معلقة طوال الأربع والعشرين ساعة، أنام وأستيقظ وهي في يدي، وحتى عند دخول الحمام".
"تعبت من كثرة الحقن في جسمي"، يقول بمرارة متحدثاً عن صور الأشعة التي يخضع لها أسبوعياً وعن تساقط الشعر وهزاله ومرارة الحلق وانقطاع الصوت والخمود والهمدان.
ويضيف: "دائماً أشعر بالقنوط، وأحياناً بالسخط وعدم الرضا، فكل من هم في سني، أكبر همومهم، الوصول لوظيفة مرموقة، بينما أنا شغلي الشاغل هو المرض".
كنت أهرب من فكرة الانتحار بالبوح بها لأصدقائي وأهلي حتى لا تغلبني، ولأجد عندهم الدعم النفسي الذي يساعدني على الاستمرار، فكثيراً ما كانوا يخيفونني من الموت على سوء الخاتمة.
"الموت على الكفر والعذاب المخلد في جهنم" سببان كافيان لكثر للامتناع عن الانتحار، وكافيان لتطال الأزهر ودار الإفتاء انتقادات عديدة بعد فتوى "المنتحر ليس بكافر"... فكيف فُسرت الفتوى في مقابل المخاوف منها؟
"عمّقوا ظاهرة الانتحار، وكانوا أحد الأسباب التي قادت الكثير من الشباب إلى الموت، فهم من البداية زيّنوا الآخرة للناس على حساب الدنيا"... فتوى مشيخة الأزهر ودار الإفتاء المصرية بأن "المنتحر ليس بكافر" تضع رجال الدين في دائرة الجدل
في كتاباتنا العربية وبين الخبراء النفسيين، حتى بين الناس، يطغى على فكرة الانتحار الرادع الديني باعتبار الأخير حجر زاوية ينطلقون منه لثني الراغب في الانتحار عن فعلته.
ظهر هذا التخويف بوضوح في كتاب "شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي" لياسر ثابت، وعلى الرغم من أن الكاتب اعتبر أن حياة الفرد حق من حقوقه الشخصية التي يستطيع إهدارها بنفسه دون عقاب، فقد استدرك وقال: "الموقف السلبي للمجتمع من هذا السلوك، جراء النظرة الدينية للانتحار، أدت إلى إخفاء البعض الاعتراف بالانتحار، والتستر عليه بكل الوسائل الممكنة لأن المنتحر في العرف العام إنسان مخالف للإرادة الإلهية".
وجاء في الكتاب أن "الفعل الوحيد الذي يصبح بعده الفاعل جزءاً من الماضي، وعلى حافة الحياة، يرغب بعضهم في خلاص يوقف دبيب جيوش الألم، وراحة وقتية قد تفتح باب عذابات أبدية".
وخلص الكاتب من هذا كله، إلى أن "لا عذر للمنتحر في انتحاره، مهما امتلأ قلبه بالهم ونفسه بالأسى، ومهما ألمّت به كوارث الدهر، وأزّمت به أزمات العيش، فإن ما أقدم عليه أشد مما فر منه، وما خسره أضعاف ما كسبه".
"الأزهر يتحمّل المسؤولية"
يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة الفيوم صلاح هاشم إن الناس كانت تشكك في قضية تكفير المنتحر، ولكن الأزهر بتأكيده الموضوع أسقط جزءاً من هيبة الموت، مشدداً على أن التدخل بأي شكل لأي مؤسسة دينية في هذه المسألة مرفوض، سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
ويعتبر هاشم أن لا علاقة للانتحار بالدين لأنه ظاهرة اجتماعية سيكولوجية بحتة، والمعتقد وحده ليس كافياً للحد من أضرار الظواهر الاجتماعية السلبية، قائلاً:"الزج بالدين يؤدي إلى إشعال فتيلها أحياناً، ويجعل من الصعب حلها".
ويفسّر هاشم كلامه بأنه "إذا كان السبب اجتماعياً عولجت النوايا الانتحارية اجتماعياً، وإذا كان نفسياً عولجت نفسياً، مشيراً إلى أن فكرة تدخل الأزهر والإفتاء ليس لمصلحة الظاهرة، بل ضدها تماماً.
"علماء الأزهر ذهبوا إلى أن المنتحر ليس بكافر، لأنه لم ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، بل هو فقط فرّط في أمانة الحياة، فإذا كان المنتحر بالغاً عاقلاً، ملتزماً كل أمور دينه ومكلفاً، يأخذ حكم مرتكب للكبيرة، وليس الكفر".
وهاجم هاشم رجال الدين، قائلًا: "عمقوا من ظاهرة الانتحار، وكانوا أحد الأسباب التي قادت الكثير من الشباب إلى الموت، فهم من البداية زيّنوا الآخرة للناس على حساب الدنيا، وضيّقوا الحياة في وجوههم، وجعلوا كل ما هو ممتع حراماً، وكل ما هو موجع حلالاً"، مضيفاً أنه حين يصبح "الحرام هو القاعدة والحلال هو الاستثناء، تُبنى مصادر الرهبة من الدنيا، فيميل الناس إلى الانتحار".
كيف فُسرت فتوى الأزهر الجديدة؟
يقول مدرس الفقه في كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر طه نادي درويش إن "علماء الأزهر ذهبوا إلى أن المنتحر ليس بكافر، لأنه لم ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، بل هو فقط فرّط في أمانة الحياة، فإذا كان المنتحر بالغاً عاقلاً، ملتزماً كل أمور دينه ومكلفاً، يأخذ حكم مرتكب للكبيرة، وليس الكفر، بدليل قول العلماء إنه يغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، ويجوز أن نتصدق عنه ونعتمر كذلك، ويصلي عليه عامة المسلمين وليس إمامهم، ويكون أمره موكولاً إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه".
ويستدرك درويش بالقول: "إذا كان من قتل نفس غيره ليس بكافر، فكيف نحكم على من قتل نفسه بالكفر؟".
ويرفض درويش ما قيل عن الفتوى بأنها تفتح باباً للانتحار، مؤكداً أن هناك العديد من الأحاديث التي تردع عن هذه الفعلة، منها حديث الرسول، "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ".
ويدافع درويش عن الفتوى بالقول: "من إيجابيات هذه الفتوى عدم الحكم بالكفر على أي شخص، فالحكم بالكفر له ضوابط معينة، وقد نهى الرسول عن إطلاق حكم الكفر هكذا في المطلق بالقول ′من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما′ خاصة أنه لم ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، والميزة الأخرى، حتى لا نجمع على أهله مصيبتين، خسارة الولد وموته على الكفر".
من جهته، يبرّر أستاذ علم النفس في جامعة عين شمس محمد فكري الأمر بأن "المنتحر أو المصاب بالاكتئاب، هو شخص مريض، وليس على المريض حرج، لذلك لا ينبغي الحكم عليه بالكفر".
ويلفت فكري إلى أن مؤسستي الأزهر والإفتاء كانتا تحكمان على المنتحر بالكفر، إلى أن جلستا مع أطباء وخبراء نفسيين بينّوا لهما طبيعة المرض، وأن من يقدم على فعل الانتحار ليس طبيعياً، مشيراً إلى أن علماء الدين عندما استمعوا لرأي العلم في ذلك فهموا وحكّموا العقل، فكانت فتوى "المنتحر ليس بكافر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...