كنت في العاشرة من عمري حين وجّهت جسدي باتجاه شرفة الجيران، بعد أن مسحت تلفازهم بمنشفة مبللة وقررت أمام الشاشة المعتمة أن لا فائدة من أن أحيا بعد اليوم.
بحركة بسيطة جداً، ودون أي تخطيط مسبق، وقفت على حافة الشرفة وقررت أن أقفز. كان كل شيء ضبابياً في رأسي، لم أشعر بالخوف، وبإمكاني اليوم القول إنني كطفة صغيرة اختبرت لحظة سلام. فرغم عدم إدراكي لمفهوم الانتحار، كنت أعلم أن قفزتي كفيلة بإنهاء كل ما لم أكن أقوى على التعامل معه.
بعد حوالي لا أدري كم من الوقت، أيقظتني صرخة جارتي فقفزت نحو البلاط وبكيت بطريقة هستيرية طالبة منها ألا تخبر أختي الكبيرة كي لا توبخني. لم يعلم أحد بالحادثة، واليوم بعد مرور 18 عاماً أسترجعها بالعلن.
لو حدث وقفزت في ذلك اليوم كانوا سيقولون: "انتحرت الطفلة الصغيرة بسبب التلفاز المعطل".
في الواقع، لم يكن التلفاز سوى واجهة لموت فرد من العائلة، انتقالي للعيش في ثلاثة منازل خلال الأسبوع الواحد، فشلي في الدراسة، شعوري بالانسلاخ التام عن محيطي وانهيار العالم كما ألفته.
الآن، أستطيع ان أقدم هذا التحليل. في ذلك الوقت وفي المرات اللاحقة لم أكن أقدر على ذلك بسبب انغماسي التام في الحالة، وإذا أردت التحدث مع نفسي السابقة أقول لها: "لم يكن مطلوباً منك تقديم شيء سوى طلب المساعدة في حال استطعت".
كبرت، وتطور الانسلاخ عن المحيط إلى موجات اكتئاب، لخصها الطبيب بـ: "عندك نقص بالسيروتونين"، مضيفاً: "رح اعطيكي وصفة". السبب الهرموني أصبح واضحاً، إلا أن الدواء لم يطرد كل الخطط الانتحارية التي لم أنجح يوماً في تنفيذها.
في الحقيقة، لم أرد يوماً أن أخسر حياتي. كل مَن يعرفني يعرف، وأنا نفسي أعرف، أن لي رغبة خارقة بالحياة، لكن الأفكار التي لا سيطرة لي عليها داخل رأسي تصبح المهرب الوحيد من واقع يكون حينها أسوأ ما يمكن اختباره، وردود الفعل تجاه هذا الكم من التشتت والامبالاة تكون لحظية.
أحكي كل ما كتبته سابقاً لأن الأسبوع الماضي في لبنان حمل معه موجات انتحار من قبل أفراد تم تداول قصصهم وتفاصيل حياتهم على نطاق واسع. أولاً، لن أسمح لنفسي أن أناقش حالاتهم. في هذه المواضيع الآراء خارج إطار أفراد عائلاتهم لا تصلح. بإمكاني الانطلاق من الخاص إلى العام، عبر التحدث عن التجربة وتقديم الدعم لكل مَن يحتاجه. وثانياً، لن أذكر أسماء أي من المنتحرين لأنني لن أعلم أبداً كيف كانت حياتهم، أو ماذا كان يجول في خاطرهم وبماذا كانوا يشعرون.
"لو كنت محله"
أعزائي الرجال والنساء الذين يقررون من خلف الشاشات أنهم لو كانوا مكان الشخص المنتحر لما كانوا انتحروا. من كل قلبي وبكامل إنسانيتي أتمنى أن تختبروا على أساس معاييركم الشخصية وقدرتكم على الاحتمال تجارب تحمل الضغوطات التي اختبرها هؤلاء الذين رحلوا أو فكروا بالرحيل، كي نرى كيفية تعاملكم مع انهياراتكم على الصعيدين الشخصي والعام.
وهنا لا أقول ان الانتحار سيكون خياراً وارداً لديكم، لكن العطب النفسي والاجتماعي عند بعض الأحياء يكون وقعه أقوى من الانتحار نفسه، ومؤذياً لكل مَن يدور في محيطهم.
لا يوجد على هذا الكوكب كله فرد مثل الآخر، حتى أن العامل الجيني لا يجعل من التوائم شخصاً واحداً. في نهاية الأمر، ما يصنعنا هو تجاربنا. كل القصص معادة ومكررة، المآسي والأفراح هي نفسها عبر التاريخ، من الولادة حتى الموت. يُصنع الفرق من قبل الأشخاص وكيفية تعاملهم مع قصصهم، ولذلك إسقاط فكرة "لو كنت محله" هو أمر غير واقعي وتافه. عش كما تشاء ودع غيرك يموت كما يشاء.
الانتحار والعوامل الاجتماعية
ألّف عالم الاجتماع إميل دوركايم عام 1897 كتابه "الانتحار" الذي فسّر فيه الظاهرة، بعيداً عن علم النفس والفردية، وبناءً على العوامل الاجتماعية، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الانتحار يمكن أن يحدث بسبب عوامل اجتماعية وليس فقط بسبب عوامل فردية.
ميّز دوركايم أربعة أنواع من الانتحار، منها "الانتحار اللامعياري-الأنومي" الذي يحدث إثر التغييرات المفاجئة، كتعطل دور المجتمع في فترات الاضطرابات كالأزمات الاقتصادية التي تطلق عنان الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعايير. وبالتالي فإن إقدام الفرد على الانتحار في هذه الحالات يعود إلى التضارب بين آماله وأهدافه وبين الظروف التي تحيط به بما فيها من عادات وأخلاق وقيم ومعايير مختلفة".
استطاع دوركايم أن يبرهن في دراسته أنه حين تتدنى متانة الروابط الاجتماعية تنتشر الفوضى وتزداد نسبة الانتحار. في حال أردنا إسقاط هذه النتيجة على واقعنا المعاش، حيث يعيش الشعب في لبنان محاطاً بانهيار اقتصادي حاد بسبب نهب السياسيين لأمواله، وبمؤسسات دينية تخطف وتغتصب الأطفال ومن ثمّ تتم حمايتها من قبل الأحزاب، وبمياه صرف صحي تفيض وتكتسح السيارات والبيوت، وبقمع عقائدي يعتدي على المتظاهرين بالحجارة والتخويف والتخوين، وبعائلات تعيش في غرفة صغيرة ولا تملك ثمن ربطة خبز واحدة، وبمؤسسات تصرف موظفيها وتعطيهم نصف رواتبهم، وبرجال دين يبتزون النساء ويحللون قتلهن، وبمناطق دمرت بأكملها وفقّر أهلها في ظل المعارك الطائفية، وبمصارف تحتجز مأكل ومشرب الناس، وبأشخاص يسخرون من معاناة الآخر، وبالكثير الذي لا يتسع المجال لكتابته هنا، فبإمكاننا القول إن المنظومة السياسة الحاكمة في لبنان وبكل ما صنعته قاتلة. في هذا العهد، انتحر الناس بسبب ظروف اجتماعية فرضت عليهم.
الإعلام والعلاج النفسي
تولّى الإعلام دوره عبر تغطية حوادث الانتحار التي حصلت، وإنْ كان شيئاً جيداً قد نتج عن هذه الكارثة فهو تعبير العائلات الفقيرة عن معاناتها بالعلن، ولو أن بعض المراسلين تخطوا كل الحدود المهنية بأسئلتهم التي طرحوها.
"فقد المواطن كل الوسائل والقوانين التي قد تدافع عن حقوقه وتحميه، فلجأ إلى نفسه كوسيلة تعبير أخيرة. أنظروا إليّ وأنا أحترق، أنظروا إليّ وأنا أموت، لم يعد لدي ما أخسره، آخر ما أملكه هو هذا الجسد، سأضحّي به لأعبّر عن قهري وأعلن عن كمّ الوجع بداخلي"
"لا ذنب لمَن ليسوا بيننا اليوم، ولا ذنب لمَن كانوا يعرفونهم، كلّ منا يفعل ما في وسعه. وربّما المنتحرون هم أكثر مَن رغبوا بالحياة وحين عجزوا عن إيجاد مدخل واحدا لها، رحلوا"
على الشاشة، يحكي إعلامي عن أن العلاج النفسي أساسي لكل شخص، وعن أهمية "اللايف ستايل". طبعاً. بالنسبة إليه، كلامه نابع من مكان إنساني، لكن ما ليس له قدرة على فهمه هو أن مقاربته للتعامل مع ظاهرة الانتحار طبقية وفوقية.
نحن نعيش في بلد ثقافة العلاج النفسي فيه غير منتشرة، ووصمة العار تلاحق كل مَن يقرر خوض العلاج أو التكلم عن أفكاره الانتحارية، بالإضافة إلى أن كلفة العلاج ليست بالقليلة. وبالتالي، في هذه البقعة حيث يموت الناس بسبب أمراضهم الجسدية على أبواب المستشفيات، فإن مفهوم العلاج النفسي ليس سوى ترفاً.
وفعلاً، "المهرجان" الذي عُرض على بعض المحطات لم يكن سوى تنظير على شعب أكبر همومه حالياً هو الحفاظ على المسكن وتأمين لقمة عيشه. وبمعزل عن حالات الناس النفسية وظروفهم الخاصة، هؤلاء الآباء ضحّوا بحياتهم نتيجة ضغوطات فرضت عليهم.
تبكي الأم الملطخة بدماء ابنها على الشاشة وتردّد "ابني كان مؤمن، كان يصلي ويصوم" وتسمّي المسؤولين عن موته مباشرة على الهواء بأسمائهم. لم يعد لديها ما تخافه. يضرم رجل النار في نفسه في وسط ساحة رياض الصلح في بيروت فيسارع المعتصمون إلى تغطيته بالبطانيات في محاولة لإطفائه ويحيطون به لحماية خصوصيته. ينقل التلفاز المشهد، ويصلنا الخبر: "أشارت الوكالة إلى أن الرجل كان يهدد منذ الصباح بإحراق نفسه، إلى أن نفذ تهديده هذا المساء".
في بلدنا فقد المواطن كل الوسائل والقوانين التي قد تدافع عن حقوقه وتحميه، فلجأ إلى نفسه كوسيلة تعبير أخيرة. أنظروا إليّ وأنا أحترق، أنظروا إليّ وأنا أموت، لم يعد لدي ما أخسره، آخر ما أملكه هو هذا الجسد، سأضحّي به لأعبّر عن قهري وأعلن عن كمّ الوجع بداخلي.
عالمنا كما ألفناه ينهار بسرعة فائقة أمامنا. أتحدث مع أصدقائي. منهم مَن هو محبط وينام لساعات متواصلة ومنهم مَن يبقى في الشارع. السلطة أمامنا شرسة، ولا تأبه بمعاناتنا. يلجأ كل منّا إلى وسائله للتأقلم مع الأحداث وهناك مَن لا يقوى على تحمل الوضع فيقرّر الرحيل، وهذه النتيجة ذاتية في صلبها ولا يمكن لأحد فهمها سوى الشخص المعني.
لست مع الانتحار ولست ضدّه. لم يكن لي منه سوى شبه محاولات خلال سنوات مراهقتي، اعتبرتها ملاذي الوحيد قبل أن أتعرّف على نفسي.
في جلسة علاجي الأولى، حين سألتني الطبيبة "لماذا أنت هنا؟"، جاء جوابي: "لا أريد أن أنتحر، أريد أن أعيش". كان لي إخوة، أب وأصدقاء استطاعوا مساعدتي، أنا التي لا أملك أفواهاً لأطعمها، أعلمها أو أكسيها، كان لي ترف خوض تجربة العلاج التي أجاهر بها دون أي رادع اجتماعي أو ديني.
فهمت الخلل وسيطرت عليه بكل ما أتيح وقدّم لي دون الشعور بالخجل. وكان لي أيضاً امرأة جميلة تردد: "الحياة تكسرنا أحياناً، لكي تصبحي أقوى أظهري ضعفك" وهذا ما فعلته، فوجدت محيطاً كاملاً أمامي. في لبنان هناك مَن جاهر ووجد نظاماً فاسداً أفقر كل قريته. لا ذنب لمَن ليسوا بيننا اليوم، ولا ذنب لمَن كانوا يعرفونهم، كلّ منا يفعل ما في وسعه. وربّما المنتحرون هم أكثر مَن رغبوا بالحياة وحين عجزوا عن إيجاد مدخل واحدا لها، رحلوا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...