أصدرت منشورات ضفاف والاختلاف، الطبعة الثالثة من رواية "صيف مع العدو" للكاتبة شهلا العجيلي، التي تتناول الحياة في مدينة الرقة منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن. عرفت الرقة منذ العام 2011، حكم كل القوى المتصارعة في الحرب السورية، من حكم النظام السوري إلى الجيش الحر، ومن ثم جبهة النصرة وأحرار الشام، ثم انتقلت إلى سيطرة داعش، وأخيراً لقوات سورية الديمقراطية وقوى التحالف الدولي. مدينة تناوب على حكمها خمسة أنظمة سياسية وعسكرية مختلفة الإيديولوجيات منذ العام 2011، مما يجعلها مدينة تستحق التركيز في الكتابة الأدبية والجهود البحثية التاريخية والاجتماعية.
العوالم النسائية لسرد تاريخ المدينة
تبدأ حكاية رواية "صيف مع العدو" من الحب، فترى ساردة الرواية "لميس" أن الحب كثيراً ما يجعلنا حمقى أو سخفاء حين نتعامى عن نقد الحبيب: "مواقفي مائعة مع من أحب: أنتقدهم في داخلي، ولا أعلن عن سخطي كي لا أغضبهم، لكن ذلك أضر بي بشكل كبير، لقد خسرت المعايير، ولم أعد أعرف الفرق بين ما أحب وما لا أحب، ما دمت أستطيع ان أتقبل كل شيء"، هكذا تتغاضى لميس عن أخطاء حبيب طفولتها عبود، لتصل بهما ألعاب الطفولة إلى ارتكاب ما وصفته بـ"الجريمة الصامتة"، وهو عنوان الفصل الأول من الرواية. حيث تسلق عبود، متنكراً بزي مرعب، شباك الجدة كرمة لإفزاعها، ما يؤدي إلى وفاتها. توصف هذه الجريمة بالصامتة لأن كل من لميس وعبود لا يعاودان الحديث عما حدث في تلك الليلة مطلقاً: "فالأخطاء التي لا نحدث بها أنفسنا كأنها لم ترتكب"، ولهذا يرافقها طيلة حياتها ذنب قتل الجدة، إلا أنها تكتشف في نهاية الرواية أن الجريمة لم تقع.
عبر حكايات ثلاث نساء من أجيال مختلفة، هن الجدة كرمة، الابنة نجوى، والحفيدة لميس، تقدم الرواية تواريخ من مدينة الرقة عبر نسج سردي للعالم النسوي فيها. في ندوة عن الكتابة، تقول الكاتبة شهلا العجيلي عن اختيارها مدينة الرقة، كمكان مركزي للحكاية: "الرقة هي مدينتي وذاكرتي الأولى، كما أنها معقل الثقافة السريانية ومعقل الطب وعلم الفلك، وبها المرصد الكبير الذي يحج إليه كل مَن يريد قراءة السماء، وأنا أردت أن أنوه بكل هذه المصائر".
من الريادة في علم الفلك إلى التشدد الديني
من الماضي، تحاول الروائية تصوير الرقة المنفتحة كمدينة للعلم وللثقافات المتعددة، والمجتمع النسوي المتنوع الفاعل. أعمق ما تذهب إليه في ماضي المدينة هو القرن الثالث الهجري، لتطلعنا على شخصية الفلكي العربي "البتاني"، الذي عاش بين أنطاكية والرقة، وصحح الكثير من أوهام العالم الفلكي الكبير بطليموس، المتعلقة بالأبراج وبالنجوم وبحركة الأرض، لكن في العام 2013 يتم إسقاط تمثال البتاني في الرقة على أيدي قوى التشدد الديني، كما حدث أيضاً في معرة النعمان مع تمثال الشاعر أبي العلاء المعري.
تروى حكاية الفلكي البتاني عبر حكاية الرجل المحوري من شخصيات الرواية، وهو نيكولاس الألماني المختص في علم الفلك والذي يصل من ميونيخ للإقامة في الرقة، متتبعاً خطى العالم الذي يقدره، أي البتاني. يؤسس نيكولاس مرصداً في الرقة ويعيش مع الأم نجوى وابنتها لميس، لتقع كلاهما في حبه: "وأضحى نيكولاس رجلنا المشترك، وصرنا بسببه أنا وأمي ضرتين. وإن حدث أن تقاربا هو وأمي فسيكون بينهما الشيء السري الخطير الذي سيجعلني أقتل نفسي لو تأكدت منه".
الرقة السياسية في الثمانينيات
عبر حكاية الجدة ينتقل بنا الزمن إلى العشرينيات من القرن العشرين، لكن أبرز حكايات الماضي في الرواية، هي تلك المتعلقة باعتقال الخال نجيب في الثمانينيات، لانتمائه للحزب الشيوعي، ليعود إلى المنزل جثة هامدة، بينما تنشد ابنته هند كل صباح: "للبعث يا طلائع، للنصر يا طلائع"، بينما والدها توفي على يد أولئك الذين تنشد لهم هذا النشيد، وبعد دفن الخال: "صارت المقبرة بيتنا الجديد، فكبرتُ أحث الخطى نحو القبور، وظل أهلي الذين هم تحت التراب أكثر منهم فوقه، إلى أن جاءت داعش ومنعت زيارة المقابر، ثم تم تفجيرها، وبعدها قصفها طيران التحالف، فزلزلت وبعثرت، وانكشف ستر ساكنيها من غير قيامة".
كيف يكون شكل الحبّ في الرقة التي حكمتها منذ العام 2011، كل القوى المتصارعة في الحرب السورية، من النظام السوري إلى الجيش الحر، ومن ثم جبهة النصرة وأحرار الشام، ثم داعش، وأخيراً لقوات سورية الديمقراطية وقوى التحالف الدولي؟
هل تتعامل النساء العربيات، وبالتحديد نساء مدينة الرقة السورية مع الخيانة الزوجية كما تتعامل معها المرأة الأوربية؟ هذا ما تطرحه رواية "صيف مع العدو" في فصل "رجال كارمن الثلاثة"
"صرنا بسببه أنا وأمي ضرتين"... مثلث حبّ غير تقليدي تقدمه رواية "صيف مع العدو" للكاتبة شهلا العجيلي
الرقة تحت القصف الدولي
تستمر بنا الحكايات في الرواية إلى خروج الرقة عن سلطة النظام السوري، ومن ثم مرحلة حكمها من قبل تنظيم الجيش الحر، ومن ثم تنظيم داعش، ومن بعدها مرحلة المعارك مع قسد وقوات التحالف الدولي. هنا توثق الرواية للحصار الذي عاشته المدينة تحت الحرب: "كلما نشطت الدعاية عن المواجهات الأخيرة بين قوات قسد وعناصر داعش، زادت ضراوة قصف الناتو على أحياء المدينة التي صارت خرائب دامية".
في أهم فقرات الرواية، تطالعنا ككقراء مشاهد وصف نزوح السكان عند المدينة: "مشى الرتل بهدوء، رؤوس مطأطئة مثل قطيع خيول باكية. لا أحد يسأل أحد شيئاً، ولم يودع أحد المدينة أو يلقي نظرة أخيرة على جثمانها المتهالك. لا أحد يريد أن يتذكر شيئاً، أو يتألم، أو يحزن، أو يفكر"، وفي رحلة النزوح هذه من الرقة، تموت الأم نجوى على الطريق، فتروي عن ذلك ابنتها: "وجدت ماما ملقاة، ميتة، مقطوعة الساقين، وساق عند الركبة، وساق من أعلاها. عجزت عن تحدي اليمين من اليسار، ولم أمعن في رسم الصورة في عقلي. وجهها ليس وجهها، ولحمها مندلق من ملابسها المحروقة ومدمى".
المقارنات الثقافية والأخلاقية في الهجرة
تصل رحلة النزوح ببطلة الرواية إلى ألمانيا، وهنا يظهر واحد من موضوعات الرواية الأساسية، وهو اندماج المهاجر القسري بالمجتمعات المستضيفة: "أعتقد أننا سنبدأ بالاندماج حين نتوقف عن عقد المقارنات بين الوطن والملجأ"، ورغم وعي البطلة بخطورة المقارنات بين بلد الأصل والبلد المضيف، إلا أنها تتابع في الرواية استعراض المقارنات بين المدينة الألمانية الجديدة "كولونيا" ومدينتها الأصلية "الرقة"، فتقارن بين نهر الراين وبين نهر الفرات، تقارن بين الكنائس الألمانية وكنائس الرقة: "كنائس أوربا باذخة ومهيبة بالنسبة لكنائس الشرق التي تحمل حزنها الأبدي، وتناوله للذين يلوذون بها مع الخير والخمر".
تمتد المقارنات الثقافية لتشمل الموضوعات الأخلاقية والنفسية: "إنك بمجرد أن تقطع خط العرض 35 شمال خط الاستواء ينكسر قيد ما، وتصطبغ المفاهيم الأخلاقية بصبغة الحياة التي تسفر عن وجهها البسيط والمرن"، وفي فصل بعنوان "رجال كارمن الثلاثة"، تتم المقارنة بين مواجهة المرأة الأوربية الألمانية كارمن لحدث الخيانة في حياتها العاطفية، وبين تعامل النساء في الرقة مع الخيانة الزوجية: "فكرت وحدي بعيداً عن كارمن: هل تتبع نساء الرقة العلاجات ذاتها، أم لديهن تقنيات أخرى لمواجهة هذا الحدث! اعتقد أنهن يتمتعن بقدرة أكبر على الصفح أو على النسيان، ولعل الأمر لا يتخذ لديهن هذه الفداحة، فهو من صميم الحياة".
شهلا العجيلي، أستاذة للأدب الحديث في الجامعة الأمريكية في الأردن، وصلت روايتها "سماء قريبة من بيتنا، 2015" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، كما هو حال روايتها الراهنة "صيف مع العدو، 2019"، كما صدر لها رواية "سجاد عجمي، 2013" عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف أيضاً. وفي مجال القصة صدر لها "المشربية، 2005"، و"سرير بنت الملك، 2017". ولها في النقد والدراسات الأكاديمية "الرواية السورية: التجربة والمقولات النظرية، 2009"، و"الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، 2011".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...