كثيرا ما نسمع قصصاً في مصر تدور حول إجبار النساء على اختيارات مُحدَّدة، بل يكاد يكون الإجبار أو اتخاذ القرار بالنيابة عنهن هو القاعدة، والاستثناء هو أن تصبح النساء سيدات قرارهن.
هناك من تُجبر على مجال دراسة مُحدَّد، أو الزواج بشخص معين، أو التخلّي عن حلمها في السفر أو العمل أو استكمال التعليم، في النهاية تتعدد صور الإجبار والاخضاع، ويمكن القول إن أكثر صور الإجبار وضوحاً، هو إلزام المرأة بارتداء الحجاب، وتهديدها في حالة خلعه.
وحتى سنوات قريبة، كان الحجاب تفرضه معظم الأسر في شرائح الطبقة الوسطى على الفتيات بعد سن البلوغ البيولوجي، وليس قبله، لكن أصبح مألوفاً مؤخراً أن نرى طفلة لم يتخط عمرها الـ10 سنوات، ترتدي حجاباً على رأسها، سواء في المدرسة أو الشارع، بل وأصبحت الأخبار المتواترة عن المدارس التي تجبر الإناث على ارتداء الحجاب، أمراً عادياً وليس مستغرباً.
هناك دوافع عدة مختلفة تقف وراء إقدام بعض الآباء أو الأمهات على إجبار فتاة صغيرة على تغطية شعرها، ورغم كل ما يساق من شعارات دينية أو أخلاقية حول حجاب الأطفال، مثل تعويدهن على "العفة" و"الحياء" منذ الصغر.
"جعلوني شخصية معقَّدة"
تروي هاجر. ع، عشرينية من محافظة المنوفية، قصتها: "كنت في أولى إعدادي، تم إجباري على الحجاب على مراحل، كنت في المدرسة أتعرّض للعقاب الجسدي لأني لا أرتدي الحجاب، فبدأت ألبسه داخل أسوار المدرسة، وأخلعه خارجها، حتى قررت أمي إجراء عملية الختان لي، أو كما يصفونها (تطهرني)، فكان اليوم الذي ختنت فيه هو نفسه الذي ارتديت فيه الحجاب بشكل دائم، في مشهد ينافس جميع مشاهد السينما القاسية والمظلمة، فكنت طفلة جالسة مرتدية الحجاب تستقبل المباركين على إجراء عملية الختان".
حاولت هاجر أن تتمرد على الحجاب، ولكن فوجئت بردة فعل والدتها، صرخت بهيستيريا، وتبرأت منها، وهي طريقة تتبناها الأمهات في حالة الغضب الشديد من سلوكيات بناتها، تقول هاجر: "لم يكن أمامي أي حلول سوى أن أعود لارتدائه مرة أخرى، لكن تظل ذكرى النصف يوم الذي خلعت فيه الحجاب هي أول وآخر مرة أشعر فيها بالحرية، بداخلي أكره الحجاب كرهاً شديداً، وستظل رغبتي في خلعه مسيطرة علي، حتى بأعماقي، أشعر أنه من المستحيل أن يكون شرعاً من الله، فهو شيء قبيح".
" أشعر وكأنّ سنوات عمري سرقت مني، وبالأخص طفولتي التي لا أذكر منها أن شعري يوماً كان منطلقاً أو مفروداً فلم يكن هذا مسموحاً لي لأنه عيب، كما يقولون، وطوال الوقت كان مكبوحاً في ضفيرة"
"فوجئت بوالدي بعد معرفته خلعي الحجاب، يخنقني وهو يصرخ "دانا أقتلك قبل ما تكسري كلامي"، أبي لم يكن من النوع العنيف أبداً، وقتها أدركت أنه لم يلجأ للعنف لأنني كنت خاضعة له"
تضيف الشابة العشرينية لرصيف22: "أثّر الحجاب علي، ليس مظهرياً فقط، فحتى الآن لا أشعر أبداً أنني فتاة عندها 22 عاماً، أشعر وكأنّ سنوات عمري سرقت مني، وبالأخص طفولتي التي لا أذكر منها أن شعري يوماً كان منطلقاً أو مفروداً فلم يكن هذا مسموحاً لي لأنه عيب، كما يقولون، وطوال الوقت كان مكبوحاً في ضفيرة".
تكمل هاجر: "أعترف أنني شخص معقد، والسبب الرئيسي في هذا، هو مروري بتجربتي الختان والإجبار على الحجاب، لم أجد من عائلتي من يقف بجانبي، بالعكس، فهم لا يرونني مؤمنة كفاية وأحياناً كافرة، رغم أنني مواظبة على الصلاة وقراءة القرآن، لكن لا أحد منهم يهتم بهذا، حتى أن أمي عندما ناقشتها مرة أخرى في خلع الحجاب، قالت لي: البسي الحجاب وربنا يهديكي لباقي الفروض".
تنهي هاجر حديثها قائلة: "أخذت عهداً على نفسي أنني لن أنجب إلا وأنا أشعر بالحرية، فكيف لي أن أربي أولادي على الحرية وأنا مشنوقة بالحجاب".
"ثورة يناير نهاية أسطورة الحجاب"
تشبه هاجر كثيراً فيروز عماد، اسم مستعار، (23 عاماً)، طالبة بكلية الهندسة وباحثة في أحد منظمات المجتمع المدني، تسكن في الإسكندرية، تروي لنا حكايتها مع الحجاب القسري: "القصة بدأت من سن العاشرة تقريباً، حيث بدأ والدي بوضع قيود على ملابسي، وبعدها وأنا في مرحلة الثانية إعدادي، بدأت مرحلة الترغيب في الحجاب، مثلاً بوعود بهاتف جديد، ملابس أغلى وهكذا، ثم بدأت مرحلة الترهيب، وأنه لابد من ارتداء الحجاب لأن الأهل سيحاسبون على ما أفعله أنا، كل تلك الأساليب أتت بثمارها".
وتتابع فيروز: "في الصيف الذي سبق السنة الثالثة إعدادي، قرّرت لبس الحجاب، وكنت وقتها لا أحب أن أعترف أني تعرضت للإجبار بأي شكل، فكان لدي تكنيك دفاعي، أن أعلن عن قراراتي لأظهر بمظهر أنني من اتخذها بكامل حريته، فحتى عندما تفاجئ أصدقائي، فكنت أظلّ أردد أن هذا قراري أنا واختياري أنا".
ولكن مع مرور الأيام، أثّر الحجاب في علاقة فيروز بنفسها سلباً، تقول: "ظللت طوال شهور الإجازة قبل العودة للمدرسة، أرفض الخروج من المنزل تماماً، وكلما حاولت أن أخرج من المنزل، فبمجرد أن أرى نفسي بالحجاب في المرآة، أكره نفسي وأكره الظهور علانية به".
"بمجرد أن أرى نفسي بالحجاب في المرآة، أكره نفسي وأكره الظهور علانية به".
تتابع الباحثة في أحد منظمات المجتمع المدني: "بعدها بدأت في محاولات التكيف مع الواقع، مثلاً حاولت أن اشتري ملابس أكثر أناقة، بدأت في تعلم وضع أدوات التجميل، وكنت وقتها أحاول تعويض النقص بداخلي، من خلال تطبيق مكياج مبالغ فيه واستخدام الألوان الفاقعة، على جانب آخر كنت أتعامل بطريقة غريبة مع شعري، فكنت أشعر بأنه لم يعد ملكي، فتوقفت عن الاهتمام به، فقط أغسله ثم أربطه وانتهينا، فتلف تماماً، طبعاً كنت وقتها كأني كنت أنتقم منه ومن نفسي، حتى عندما زاد وزني وظهرت حبوب كثيفة بوجهي، لم أهتم أن أعالج أياً من تلك المشكلات".
تضيف فيروز: "حتى وصلت لبداية سن الـ18 عاماً، كان ذلك بعد اندلاع ثورة 25 يناير بـ4 سنوات، بدأت أتعامل وأتعرف على ناس آخرين يشبهونني، وبدأت أختلط بالمجال العام، وأول مرة في حياتي أرى منشوراً على الفيس بوك لفتاة خلعت الحجاب، للحظة شعرت أن الأسطورة التي ربوني أهلي عليها، أنه طالما لبسنا الحجاب لا يمكن أن نخلعه مرة أخرى، ليست حقيقة، وبالبحث، عرفت أن هناك المئات من الفتيات الأخريات التي خلعن الحجاب بالفعل"، مكملة: "في هذا الوقت وعيت بشكل أكبر على الواقع الذي تعيشه النساء، فرأيت فتيات يتكلمن بشكل جرئ عن التحرش والعنف والإجبار والوصاية، وعلمت أن هناك تياراً يسمى نسوية، وأنه لابد أولاً أن ندرك أن هناك تمييزاً ضدنا كنساء، وليس أن ننكره لعمل غطاء دفاعي نفسياً".
تتابع الفتاة العشرينية: "في تلك المرحلة بدأت بخلع الحجاب دون معرفة أهلي، متأثرة بتلك التوجهات، والأفكار لكن وقتها عرفت أمي، في البداية كانت رافضة تماماً لما أفعله، ولكن مع الوقت، وعندما لاحظت كيف أن الحجاب مؤثر بالسلب على نفسيتي وأعصابي، بدأت تتعاطف معي وتفهمت أنني غير متقبلة له بأي شكل".
تغيرت علاقة والدة فيروز بها فور معرفته بخلعها الحجاب، عنّفها جسديا، وهددها بالقتل، تقول فيروز: "فوجئت بوالدي يخنقني وهو يصرخ "دانا أقتلك قبل ما تكسري كلامي"، طبعاً كانت صدمة كبرى لأن أبي لم يكن من النوع العنيف أبداً، بل لم يكن العنف أصلاً مطروحاً في تربيتنا أنا وأخي، وقتها أدركت أنه لم يلجأ للعنف ليس لأنه ملاك ولكن لأنني أنا كنت خاضعة له".
"أمي كانت تراني فبيحة"
سارة المهندس، 24 عاماً، مدرسة بأحد الحضانات في الجيزة، ألزمتها والدتها بالحجاب لأسباب أخرى، بعيدة عن شكل التدين الشائع، تروي عن طفولتها قائلة: "أجبرت على الحجاب لأن شعري (أكرت) كما كانت تصفه أمي، ولأن هناك معايير وأنماطاً للجمال، فأمي كانت تراني قبيحة، وشعري يجب أن يكون مغطى طيلة الوقت وأنا سني 7 سنوات فقط، لم أسامحها أبداً، فالأم والأب من المفترض أن يكونوا صمام الأمان ومصدر الثقة بالنفس لأطفالهم في تلك السن المبكرة، لكن ما حدث معي كان العكس تماماً، كانت أمي تكرر على مسامعي طوال الوقت، أن شعري يشبه سلك المواعين، أنني لست جميلة كابنة أختها ذات الشعر الناعم المفرود".
تتابع المهندس لرصيف22: "لم تحاول أن تفهم أن لكل شخص طبيعة مختلفة سواء في سمات شخصيته أو في ملامح شكله، الحقيقة، أن أمي كانت أول متنمّرة أقابلها في حياتي، ولو كان الأمر توقف عند حدود الإساءة اللفظية، كان يمكن أن أتجاوزه، لكنها فرضت علي تغطية شعري بدون وجه حق، فلم يداعب شعري الهواء أبداً، ولم أختبر شعور حرية اختيار مظهري أبداً، كل هذا دمر علاقتي بشعري وجسدي، فظللت حتى وصلت لسن العشرين أكره شكلي وشعري طبعاً، حتى اكتشفت مجموعات العناية بالشعر الكيرلي، وبدأت وقتها أهتم بشعري وأعرف طبيعته، وتصالحت معها، ثم خلعت الحجاب بهدوء، بعد عامين، كانت طبيعة شعري تحسنت كثيراً، وأصبحت أقوى في الدفاع عن نفسي من أي تنمر، وبالفعل أنا الآن راضية عن مظهري".
"فرضت عليّ والدتي تغطية شعري بدون وجه حق، فلم يداعب شعري الهواء أبداً".
يعلق الطبيب النفسي، دكتور أحمد عبدلله، أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق: "إن اجبار الفتيات الصغيرات على الحجاب هو ممارسة تتضمن عدة رسائل كاشفة للمجتمع، ولكن أولاً لابد من الإشارة بأن أي فرض أو فعل ديني يحاسب عليه الفرد بعد سن البلوغ، وهذا ما ورد في القرآن، أما ما تفعله بعض الأسر فهو محاولة للمزايدة على الله مثلاً، وهو أمر عجيب جداً، ونأتي هنا للرسالة الأولى، وهي الخوف والتخويف من المجتمع، فأنا كأب أو أم لطفلة، لا يمكنني أن أتحكم في سلوكيات الناس وبالأخص الرجال، وليس وارداً أن يتغير المجتمع فأنا يائس من هذا بل وأحياناً أرفضه، لذلك فأنني أستقوي على الحلقة الأضعف اجتماعياً، أو التي نتخيلها هكذا، وهي النساء، لذلك أقوم بإجبار النساء على التغطية أو الاختفاء، وهذا كله يبدأ من الصغر، فالطفلة في النهاية هي امرأة صغيرة لابد من برمجتها على قواعد هذا المجتمع".
"مراقبة علاقة المرأة بربها"
الرسالة الثانية، التي يمكن أن نفهمها من فرض الحجاب على الفتيات صغيرات السن، يقول عبدالله لرصيف22: "هي طائفية، فنبدأ في زرع فكرة، (احنا وهما)، والمدقق في كافة الدعايات التي تساق للحجاب، والرسائل التي تبثها المدرسات في المدارس، هي أنه لابد من تغطية الشعر للتفرقة بين المسلمة والمسيحية، فيأتي ذلك نتيجة أننا نعيش في مجتمع لا يستوعب ولا يعترف بالاختلاف".
يضيف عبدالله: "أما الرسالة الثالثة، ولها علاقة بالاختلاف أيضاً، ولكن اختلاف الشكل، فالمجتمع المصري ليس عنده الوعي الكافي لمقاومة معايير الجمال النمطية، فكل امرأة لا تتمتع بالوزن المثالي أو شعرها ليس ناعماً ومفروداً، هي ناقصة الجمال أو قبيحة، والشيء القبيح ماذا نفعل فيه؟ بالطبع نغطيه، وهكذا يتعامل المجتمع مع النساء، ما ينتج عنه تشوهاً عظيماً في علاقة النساء بأجسامهن".
وينهي أستاذ الطب النفسي، حديثه قائلاً: "أما الرسالة الأخيرة، فهي اجتماعية إلى حد ما، ومفادها أن المجتمع له السلطة في أن يكون رقيباً على علاقة المرأة بربها، يعني بالطبع هناك خلاف فيما إذا كان الحجاب فرضاً أو لا، ولكن تجاوزاً لتلك النقطة، فأنا كمجتمع أزرع في دماغ الفتيات أنني رقيب عليهن ووصي على مدى تديّنهن، وأنه من حقي أن أتدخّل وأقيّم تلك العلاقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...