لم يختر أحد منّا اسمه أو كنيته، دينه أو لغته، جميعنا وُلدنا على درجة متساوية من الجهل بالآتي والمستقبل، حتى كبرنا، وتعرفنا تباعاً على ما ينتظرنا من عادات وتقاليد ومذاهب. حملنا معنا ما علّمونا إياه، وحاربنا بسيفه، لكن ليس كثيراً. حالما نكتسب بعض اللحوم الثقافية من الكتب أو الجامعات يبدأ الصراع. لا يخفى على أحد أن نسوة بيئتنا تحديداً تعرضن للاضطهاد على مرّ العصور، حتى أيامنا هذه، نالوا بعض حقوقهن، أو بعض ما أراد الرجال إعطاءهن إياه، لكنهن عشن دائماً على أنهم الجنس الآخر، الجنس التابع الذي لا حول له ولا قوة.
وأصبح التخلّي عن الحجاب جريمة عند فئة، وتفلّتاً عند أخرى
ارتداء الحجاب رافق عاداتنا وكان جزءاً منها، إلا أن البعض يعتبره طقساً دينياً واجباً، ما إن تبلغ الفتاة التاسعة من عمرها حتى يصبح الحجاب رفيق دربها الذي لا يتركها حتى مماتها، اللهم إلا أمام محارمها. فاختلط الدين بالعادة والعُرف، وأصبح التخلّي عن الحجاب جريمة عند فئة، وتفلّتاً عند أخرى. ولأن ظاهرة خلع الحجاب منتشرة في مجتمعاتنا بشكل لافت، بات السؤال عن الأسباب الموجبة حاجة في ظل انقسام الآراء بين من يعتبر خلع الفتاة لحجابها جريمة وتفلّتاً، وبين من يعتبر أنها ضحية للفرض والتسلّط.
لنتفق أولاً أن كلمة "خلع" قاسية جداً، تسقط على أُذن المستمع وكأنها تجريح أو تكسير، فمن غير المنطقي أن توصف من تريد أن تكون بدون حجاب بمثل هذا التعبير المحفوف بالقسوة، لا سيما أن كثيراً من الفتيات هنّ ضحايا ولسن "مجرمات". أغلبنا نحن الفتيات، من دون نفاق، كبرنا ونحن نرتدي الحجاب بدون أي قناعة أو تفسير، وبعد مرور السنين والتجارب، واتساع قدرة التفكير والوعي والإدراك، اتخذنا قراراً ضمنياً بالقناعة التامة به أو التسليم بأنه قدر سيرافقنا ما حيينا. لكن هناك فئة ثالثة، وهي التي عانت وتعاني، وهن اللواتي لم يجدن في الحجاب أنيساً أو رفيقاً محبباً وقررن التخلي عنه. من اتخذت هذا الطريق أسبابها شبه معروفة، فهي إما لم تقتنع لماذا عليها أن ترتديه، ولها كامل الحق في ذلك، وإما أن الدين لا يعنيها، أو أنها لا ترى في الحجاب واجباً ومكملاً، وهي أيضاً حرّة في اختيارها. ثم يأتي دور المجتمع وما يرافقه من تطوّر وتقدّم وكلّ أساليب التزيين والتجميل التي تثبت قناعتها، تتبعه الحاجة للعمل بكل ما تحمله من إغراء وضرورة، وأبواب موصدة!
سوق العمل في غالبية المجالات اليوم لا يتطلب من الفتاة ارتداء حجاب
سوق العمل في غالبية المجالات اليوم لا يتطلب من الفتاة ارتداء حجاب، بل يتطلب عدمه، وباتت شروط العمل تتضمن بنداً واضحاً وصريحاً: "يُفضّل أن تكون المتقدمة للطلب لا ترتدي حجاباً"، والشركة التي لا تفضل مثل هذه الإعلانات الصريحة تلجأ غالباً الى الإفصاح والتلميح عند إجراء مقابلة العمل. إعلامياً، لا يخفى على أحد أن غالبية الشاشات لا يغريها الحجاب، والمتلقّي يأنس لجمال المذيعة أكثر من أُنسه بسوالف الحرب، والقناة لا تريد أن تخسر مشاهديها، والجمهور عايز كدا.
قبل فترة غير بعيدة أخبرتني صديقة لي أنها غير مرتاحة بحجابها، أسبابها عديدة، وقررت بعد صراع مع الخوف أن تخبر أهلها بقرارها. بعد "القتلة" التي تلقتها من والدها، وعدتها أمها أن تعلّقها على باب البيت إن أعادت التفكير أو التلميح بما تريد، وطبعاً لم يخبر الوالدان أخاها لأنهما يخافان من قضاء باقي أيام حياته في السجن لارتكابه جريمة "شرف"، وبطبيعة الحال كرهت الصديقة الحجاب من دون ذنب منه، وتعتبره حتى اليوم كاسر حريتها وأحلامها. آخريات يرحمهن الأهل، لكن المجتمع لا يفعل، فتصبح من "تخلع" الحجاب مادة دسمة لثرثرات النساء ومحط أنظار الرجال، وينظر إليها على أنها الوقحة التي تفعل أيّ شيء! هناك قصص أعنف وأقسى، تتعرض لها من "تجرأن" أن "يخلعن" الحجاب، هذا عدا الانفصام النفسي الذي يعانون منه، والصراع بين ما يريدونه وبين ما هم عليه.
ولأن ظاهرة خلع الحجاب منتشرة في مجتمعاتنا بشكل لافت، بات السؤال عن الأسباب الموجبة حاجة في ظل انقسام الآراء بين من يعتبر خلع الفتاة لحجابها جريمة وتفلّتاً، وبين من يعتبر أنها ضحية للفرض والتسلّط.
لنتفق أولاً أن كلمة "خلع" قاسية جداً، تسقط على أُذن المستمع وكأنها تجريح أو تكسير، فمن غير المنطقي أن توصف من تريد أن تكون بدون حجاب بمثل هذا التعبير المحفوف بالقسوة، لا سيما أن كثيراً من الفتيات هنّ ضحايا ولسن "مجرمات".
عدم الاقتناع بشيء، أو الاقتناع به ثم العدول عنه طبيعة بشرية، من يبقى على حاله ليس الإنسان، إنما الشجر. الحجاب شأن شخصي، كما أن الزواج شأن خاص.
لطالما سمعنا عن امرأة ماتت بسبب التدخين، مع أنها كانت تعلم جيداً أن الإدمان على السيجارة سيقتلها، لكنها لم تستطع أن تتوقف. والكثير منّا رأى في المسلسلات أو في الحقيقة رجلاً يتقيأ كبده بسبب تعلّقه بالكحول، لكنه أصرّ على المشروب حتى قُتل. الإدمان على الأشياء وعدم القدرة على الإقلاع عنها أو تغييرها بسبب العادة والجبن وضعف الإرادة، موتٌ مؤجل، ويصبح حقيقة بسبب حواجز الضعف التي تعترينا. إذن لا تلوموا الشجعان الذين اتخذوا قرراً بالبدء بحياة مختلفة، لا تلوموهم أيّاً كان موقفهم.
عدم الاقتناع بشيء، أو الاقتناع به ثم العدول عنه طبيعة بشرية، من يبقى على حاله ليس الإنسان، إنما الشجر. الحجاب شأن شخصي، كما أن الزواج شأن خاص. من تقتنع بارتداء الحجاب أو "خلعه" هي سيدة قرارها، ولن يحاسبها أحد على خياراتها. غالبية مشاكل مجتمعاتنا تدور حول عدم تقبّل الآخر كما هو، بل كما نريد أن نراه، وما إن نلمح أي تغيير حتى تتصدى جميع جوارحنا للتجريح والتلميح إلى أنه بات خارج السرب، ومن يغرّد خارج السرب يرمى باللعن والحجارة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون