أثير في مصر مؤخراً مشروع قانون بفرض غرامة مالية على من ترتدي النقاب في الأماكن العامة. الاقتراح، الذي تم التراجع عنه لاحقاً، رآه البعض ضرورة لمنع استغلاله بغرض السرقة أو حتى تنفيذ مخططات إرهابية.
البعض الآخر يرى أن ارتداء النقاب حرية شخصية، مثلما تفعل أخريات بوضع مستحضرات التجميل وإطلاق شعورهن، فمن حق أخرى أن ترتدي النقاب.
وبرغم تراجع النائب، صاحبة اقتراح القانون، إلا أن السوشيال ميديا ما زالت في حالة زخم، حيث النكات والكوميكسات.
أصدقاء النقاب، الذين كانوا يدافعون عمن يرتدينه، هم أنفسهم الذين تداولوا صورًا لفتيات منتقبات يحتفلن بإلغاء مقترح القانون بسخرية واستهزاء.
هولاء أيضاً هم من قاموا بالاستهزاء بنوارة نجم لأنها مارست الحق الذي يتحدثون عنه، وببساطة خلعت الحجاب، وأصبحت هي مادة للاستهزاء من شكلها دونه، وأكثرهم مارس دور الواعظ الديني في ضرورة عودتها لرشدها والبعد عن مواطن الفتن، وهو أيضاً ما حدث سابقاً مع حلا شيحة.
"الازدواجية" هي كلمة السرّ
بعيداً عن الشق الديني، لا أعرف من يحرك السوشيال ميديا، لماذا يغير البعض مواقفهم من قضية ما، فجميع من يدافعون عن الحجاب أو النقاب أو عفة المرأة هم أنفسهم من يتداولون صوراً لفنانات وناشطات وغيرهن، يتغزلن في مفاتنهن وجسمهن "الكيرفي" أو "السمباتيك"، والأمر لا يخلو من إيحاءات جنسية، فالمحجبة بالنسبة لهم امرأة لا يجب الاقتراب أو الحديث عنها، أما غير المحجبة فهي في نظرهم "صيدة".
هذا الأداء أثار شيئاً بداخلي عن ارتدائي وغيري للحجاب، الازدواجية والعمل بمبدأ القطيع هو ما يفرض نفسه وبشدة بشأن أحاديث "الحجاب" في المجتمع المصري، فالحجاب مرتبط بالعفة والأخلاق والالتزام، "أنتي محجبة إذن فأنتي متربية"، والعكس صحيح والدائرة واحدة.
أنا أنثى مصرية مُحجبة، ارتديت الحجاب في المرحلة الابتدائية. تخيلوا! جاءت إحداهن إلى والدتي لتلومها على عدم ارتدائي الحجاب، وكنت على وشك إنهاء المرحلة الابتدائية، لم تهتم أمي وقتها بذلك، ونحن مجتمع ريفي ومعناه أني بذلك "طفلة" ربما أكون منحلة مستقبلاً، فالحجاب هو الذي يمنعني من الانتماء لتلك الفئة المُنحلة من وجهة نظر الريفيات، ومن المستحيل أن تجد فتاة في قريتي -حتى الآن- تجرؤ أن تعلن أنها لن ترتدي الحجاب، أو أنها ستخلعه، وإلا فستخرج من عباءة العفة والأخلاق.
القمع المجتمعي باسم الدين هو ما جعلني أرتدي الحجاب، ففي صباح أحد الأيام، التي لن أنساها، هدد معلّم الرياضيات جميع الطالبات غير المحجبات بأن آخر فرصة لارتدائه هي غداً، وإلا فسيلقي أحذيتنا من نافذة الفصل، وعلينا أن ننزل إلى الشارع حفاة للبحث عنها، و"على إيه الطيب أحسن" قلت في نفسي، "اتقوا الله، أهاليكم فين سايبنكم كده"، قالها المعلّم، ومن يومها وأنا ارتديه. لا أعتقد أنني مقتنعة بكونه ركناً دينياً، وبتركه أكون خرجت من الدين أو مثلاً سيكون مصيري جهنم وبئس المصير، كما يقولون.
فرض الحجاب داخل المدارس المصرية
إسراء وأسماء وضحى، هن فتيات مصريات ذوات أعمار مختلفة، أُجبرن على ارتداء الحجاب في مرحلة التعليم الأساسية، "أجبروني على ارتداء الحجاب كجزء من الزي المدرسي، حتى تحول الأمر إلى عادة، لكن من داخلي لم أرتده عن اقتناع"، تحدثت هالة محمد مصرية (23 عاما) عن تجربتها مع الحجاب لرصيف22، "أرتدي الحجاب كجزء من عادة مجتمعية، فلا يجوز أن أذهب للمدرسة دونه، وإلا فسيكون مصيري الطرد".
سألت إحدى الأمهات لطفلة في الصف الأول الابتدائي، لماذا ترتدي ابنتك الحجاب في هذه السن الصغيرة، فما زلتِ تساعدينها على دخول الحمام لقضاء حاجتها؟ أجابت بكل بساطة: "لكي تتعود الاحترام منذ صغرها"!.
ورغم أن وزارة التربية والتعليم المصرية تنفي فرضها للحجاب داخل مدارسها، هناك وقائع كثيرة تنفي ذلك، منها واقعة تناولتها وسائل الإعلام في ذلك الوقت تتلخص في إجبار مديرة إحدى المدارس بمحافظة الشرقية للفتيات على ارتداء الحجاب أثناء اليوم الدراسي، وقيام أخرى بقص شعر طالبة بإحدي مدارس الأقصر.
الفرض في الجامعة أيضاً
في مرحلة أخرى من مراحلي الدراسية اضطررت للسكن بالمدينة الجامعية لأنني مغتربة، وهناك كان الوضع مختلفاً، فمعظم المنتميات للمدينة الجامعية من بنات الأقاليم، وهناك كان عالم آخر لم أفهمه في وقته.
فتيات منتميات لتيارات إسلامية بعضهن يتشحن بالسواد وآخريات يرتدين "أغطية رأس" ملفوفة بشكل معين، عرفت فيما بعض أنهن منتميات للدعوة السلفية وجماعة الإخوان المسلمين، لكل منهن زي يميزها ويميز تيارها الديني، وكن يقمن باستقطاب عدد من الفتيات عن طريق إقامة حلقات دعوية اسمينها "الدعوة إلى الله".
تلك الدعوة، التي منعتهن من التقابل أو إقامة حلقة دعوية واحدة، فصاحبات الفكر السلفي يدعون إلى النقاب، والمنتميات إلى الإخوان يدعون إلى الحجاب بطريقتهن، نجحن بالفعل في استقطاب كثيرات، حتى بعد انتهاء مرحلة الجامعة، ومر ما مر بمصر، إلا أن معارفي منهن ممن تشبعن بأفكارهن ما زلن على الدرب سائرات.
كانت صديقتي دعاء إحداهن، وهي كانت الفتاة الباسمة في أول يوم دراسي لنا بالجامعة، ترتدي ملابس مناسبة لسنها، بعد حضور عدد من الجلسات وبعد عام تقريباً ارتدت ملابس واسعة فضفاضة سوداء، فلا ألوان مبهجة لكي لا تلفت الأنظار، ثم "جونتي" اليد أسود أيضاً والنقاب، حرّمت كل شيء؛ الأغاني والموسيقى والضحك، والتنزه ودخول السينما ومشاهدة التليفزيون، وإلى الآن هي كذلك، هي وغيرها كوّنَّ مجموعات دعوية أيضاًَ انتشرت لدعوة الفتيات إلى ارتداء الحجاب واعتزال غير المحجبات، والتعامل بتحفظ شديد مع المسيحيات.
التمييز العنصري ضد غير المحجبة
صديقتي الأخرى، التي تعيش في القرية، سألتني يوماً عن إحدى صديقاتي المسلمات غير المحجبات، هل هي مسيحية؟ إذن أصبحت القاعدة أن غير المحجبة هي بالضرورة مسيحية؟ ومن يعتقدون ذلك هم في الحقيقة كُثر.
تحدثني صديقتي دائماً عن رغبتها في خلع الحجاب، هي الآن متزوجة، تعمل كصحفية، ترتدي ما يغطي جزءاً بسيطاً من شعرها، كنوع من لفات الحجاب المتداولة حالياً على سبيل الموضة، أقول لها لماذا لا تفعلين ذلك، فما ترتدينه لا يعتبر حجاباً كما يقولون، مع العلم أنني لا أفتي ولا أعرف مواصفات الحجاب الإسلامي، فلكل شيخ طريقة.
تجيب بأن زوجها يرفض ذلك، هو شخص ريفي ويرى أنه لا يجوز أن يكون رجلاً وزوجته لا ترتدي الحجاب، ما علاقة الرجولة بذلك، أسالها، تصمت. دخلنا في شق آخر من القضية، فبعض الرجال يقيس رجولته بقطعة القماش المعصوبة فوق رأس زوجته، حتى وإن كانت ترتدي ملابس شفافة، أو ضيقة. المهم هو شعرها.
"ابتديت أشوف محجبات في بداية الثمانينات، المجتمع المصري اتغير بالتدريج، في السبعينات ماشوفتش ولا ست محجبة، وجدتي الريفية كانت مغطية شعرها زي الست الصعيدية، أم جورج، بياعة الجبنة القريش والزبدة الفلاحي"، يقول أحمد عبد الجواد مخرج بقناة أون تي في المصرية، الذي عمل على فيلمين تسجيلين عن "التمييز ضد غير المحجبات في المجتمع المصري"، ويعرض أحدهما شهادات من 5 سيدات من أعمار مختلفة يحكين عن معاناتهن مع النظرة العنصرية من جانب المجتمع.
ويتابع عبد الجواد:"أتساءل من خلال الفيلم كيف أخرج المجتمع الحجاب من فكرة الفريضة أو عدمها في الدين، لتصبح غير المحجبة منحلة في وجهة نظر المجتمع الذي تغير، وبالتدريج أصبح الحجاب هو الأصل، وغير المحجبة أصبحت شيئاً شاذاً، فالأنثى غير المحجبة تكون "مش مسلمة" أو مسلمة بالوراثة ومنحلة، لأنها لا ترتدي الحجاب الذي فرضه المجتمع، هكذا يتم تصنيفها، وهذا في حد ذاته يعتبر تمييزاً ضد المرأة كغيره من أنواع التمييز التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية".
من يدافعون عن الحجاب أو النقاب أو عفة المرأة هم أنفسهم من يتداولون صوراً لفنانات وناشطات وغيرهن، يتغزلن في مفاتنهن وجسمهن "الكيرفي" أو "السمباتيك"، والأمر لا يخلو من إيحاءات جنسية، فالمحجبة بالنسبة لهم امرأة لا يجب الاقتراب أو الحديث عنها، أما غير المحجبة فهي في نظرهم "صيدة".
فالحجاب هو الذي يمنعني من الانتماء لتلك الفئة المُنحلة من وجهة نظر الريفيات، ومن المستحيل أن تجد فتاة في قريتي -حتى الآن- تجرؤ أن تعلن أنها لن ترتدي الحجاب، أو أنها ستخلعه، وإلا فستخرج من عباءة العفة والأخلاق.
القمع المجتمعي باسم الدين هو ما جعلني أرتدي الحجاب، ففي صباح أحد الأيام، التي لن أنساها، هدد معلّم الرياضيات جميع الطالبات غير المحجبات بأن آخر فرصة لارتدائه هي غداً، وإلا فسيلقي أحذيتنا من نافذة الفصل، وعلينا أن ننزل إلى الشارع حفاة للبحث عنها
نساء خلعن الحجاب
ربما يختلف الأمر من بيئة لأخرى داخل مصر، فما تراه في حي المهندسين الراقي يمكن ألا يكون مقبولاً في حي بولاق الدكرور الشعبي، رغم الفاصل بينهما مسافة شارع، فلكل بيئة خصائصها، هذا ما تؤكده دراسة حالة لمجموعة من الفتيات من الطبقة المتوسطة المصرية "تحت عنوان الاحتجاج الهادئ-المرأة العاملة والتحجّب الجديد والتغير في القاهرة" للكاتبة آرلين علوى ماكليود، ترجمة إكرام يوسف.
وتقول مترجمة الكتاب الصحفية إكرام يوسف في حديث خاصّ :"الحجاب لم يعد مرتبطاً بالتدين ولا حتى بالتطرف مثلما يعتقد البعض في الغرب، ولكنه صار زياً اجتماعياً لأسباب اقتصادية واجتماعية أحياناً حتى لو تسترت وراءه أفكار تزعم انتسابها للدين، ولا شك أن هناك الكثيرات ممن اقتنعن ببعض التفسيرات الدينية المؤيدة لفكرة تغطية الرأس، وأرى أن لهن مطلق الحرية في اختيار ما يرتدين، بشرط ألا يعتبرن هذا الزِّي يمنحهن حق الوصاية على المجتمع وفرض قناعاتهن الشخصية عليه، لأن هناك أخريات قررن وبحثن في الدين واقتنعن بعدم فرضيته ولا بد أن يكون لهن أيضاً حرية الاختيار".
ربما ما وصفه الكتاب يعتبر فعلياً حال المجتمع المصري، من وجهة نظر آلاء عزام، محررة بمجموعة"إم بي سي مصر"، والتي خلعت الحجاب حديثًا، قالت في حديث خاصّ:"ربما لأن الوسط الذي أعيش فيه يرى أن المرأة حرة فيما ترتديه، لم أتلق أي تعليق سيىء بعدما "خلعت الحجاب""، وتضيف عزام: "كنت محجبة بمزاجي، وخلعته بمزاجه، الوسط الذي أعيش فيه متفهم لحريتي الشخصية، والمجتمع الذي يفرض الحجاب خارج إطار محيطي الاجتماعي وهو لا يعنيني في شيء".
أما نهى علاء الدين، 23 عاماً من الجيزة، فأخبرتني عن كيف تعرضت للضرب على يد شقيقها الأصغر وكُسر ساعدها عندما فكرت في خلع الحجاب، ووصل الأمر حد تهديدها بعدم الذهاب للجامعة.
في المقابل قد تكون الأسرة متفهمة لفكرة عدم ارتداء الفتاة للحجاب، لكن المجتمع يرفضها، وذلك ما حدث مع ياسمين عصام (25 عاماً) وهي مطربة شابة: "اضطرت أسرتي للانتقال من الحيّ الشعبي الذي نقيم به بالجيزة، وتحمل نفقات أخرى، بسبب المضايقات التي كنت أتعرض لها يومياً خلال ذهابي وإيابي للجامعة، حيث وصل الأمر حد الألفاظ البذيئة، فكان ترك المكان هو الوسيلة المثلى"، قالت ياسمين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...