يُخبرنا مازن عرفة في نهاية روايته "سرير على الجبهة"، الصادرة هذا العام عن دار نوفل- هاشيت أنطوان، أن العسكر اجتاحوا البناء الذي يقطن فيه، واحتلّوا المنازل والسطح ونصبوا معداتهم الثقيلة بحجّة أن البناء الواقع في ريف دمشق، ذو موقع استراتيجيّ، يُطلّ على ساحةٍ يخرج إليها المتظاهرون ويهتفون ضدّ النظام.
هذه "الحقيقة" التي نكتشفها نهاية، تأتي بعد رحلةٍ فانتازيّة يأخذنا عبرها عرفة في سوريا التي أصبحت "غُرفةً مُحتلّة"، فُقد فيها "حسّ الاستقرار"، فالجدران التي من المفترض أن تخلق فضاءً آمناً، أصبحت شفّافة، ويمكن المشي عبرها لينهار كلّ تاريخ سوريا في أمتارها القليلة، هذا التاريخ الذي يضبطه حذاء عسكري منصوبٌ صرحاً في وسط الغرفة، لابدّ لعرفة أن يؤدي له فروض الطاعة يوميّاً.
يتداعى "العالم" بين أربعة جدران، في غرفةٍ أشبه بثقب أسود يبتلع كلّ شيء، الذاكرة، سياسات القمع، التاريخ، الطوائف، الحكايات الشعبيّة، وعرفة نفسه، ليتفكّك كلّ شيء ويُعاد تركيبه كحلمٍ هذيانيّ، أو ملحمةٍ شفويّة، تتغيّر كلّما تناقلتها الألسن، فإيقاع اللغة والكلام في الرواية أشبه بذلك الذي نسمعه في الحكاية الشعبيّة، حيث مغامرات الأبطال والعاشقين، الجميلات والغانيات، يتخلّلها حوار شعري، في ذات الوقت، تفقد الأماكن صفاتها وتتجاوز شرطها الواقعي لتحلّ في الغرفة التي تنتصب فوهةُ دبابةٍ عند بابها، وينثر الجنود ما في خزائنها من كنوزٍ تاريخيّة، حقيقيّةٍ وفانتازميّة، تلك التي خبّأتها زوجة عرفة، وورثها عن جدّته صانعة الحكايات.
هذه التقنيات الشفهيّة تجعل تاريخ سوريا أشبه بقائمةٍ طويلة، تتفرّع عنها الأنواع والمخلوقات، والقوائم التي تختزن الذاكرة وما فيها من الطعام والشراب والمغامرات والأشخاص، كذلك هناك قوائم للشبق وللموت وللقمع وللحزن، قوائم تتسع و تكبر و تصغر، أشبه بفهرسٍ سورياليّ للتاريخ الذي ينهار في الغرفة تحت وطأة الحذاء العسكري، وأعين الجنرال التي تراقب الجميع.
الراوي -عرفة المتخيّل- في حلم يقظةٍ طويل، لا يضبطه شيء إلّا دوافعه الفطريّة الغريزيّة، هو مهووس بالجنس ويستحضر دوماً خيالات عن "النساء" وبنات الجيران، وكأننا أمام أطلس استمنائي لموضوعات اللذّة التي يحاول عرفة أن يلتقطها، في ذات الوقت، يتحرّك خوفه الدائم من كلّ شيء، ككلّ سوريّ هو أسير الرعب وباحث عن أمنه، حتى لو كان يعني ذلك الاستغناء كليّاً عن كرامته.
هذا الخوف يدفع عرفة للرقص عارياً أمام الجنرال ثمّ إدخال جزرة في مؤخّرته وهو يرقص كالعروس التي افتُضّت بكارتها منذ دقائق ليثبت أنه مواطن صالح، المُنتجُ المثاليّ الذي تصيغه السلطة على مزاجها، مُنصاع للقوانين وينتج السيادة والرقابة، ويتساوى مع العسكر والأمن في ضبط النظام العام.
تتحوّل الغرفة إلى مسبح للدلافين، و بساط سحري ومغارة للكنوز، غزلان تقفز داخلها و عساكر يتمترسون لقتل الأعداء، أبوابها تطير بأجنحة، وشبابيكها ترصد الإرهابيين، وقد تتحوّل إلى ساحة معركة، سواء بين عرفة وزوجته أو بين العساكر، هذه التحوّلات الدائمة، تجعل الغرفة و ما فيها أشبه بأرشيفٍ لأغراض العالم، أرشيف سحري ينهار بسرعة على رأس الراوي الذي يريد فقط أن ينام بسلام، مع ذلك هناك فتحة في رأسه يدخل منها العالم ويخرج مختوماً بالخوف وأسفل الحذاء العسكريّ، فهو ينتج الطاعة حتى في أحلامه المحكومة وما فيها من كائنات، بالرعب اليومي الذي ينهب العقل ويشوّه الإدراك، ليغدوا حتى الحلم مساحة خطرة لا يمكن أن يهتف فيها الحالم في سبيل حريته.
يقرأ عرفة في الرواية تاريخ سوريا تحت حكم الأسد كملحمة غروتيسكيّة، وكأن العملاقين غارغانتوا وبانتغرويل قرّرا التناسل والتهام سوريا وترك ذرّيتهما تلعب فيها، إذ يتحدّث عن العسكرة والترييف و الطوائف وصراعها، عن وحوش تحتلّ الغرفة و المدينة، ويشير إلى التغيّر الديمغرافي وكيف تحوّلت المدينة إلى "ريفٍ" كبير.
وكأنه يوثّق حلماً وينبش في لاوعي كلّ سوري، كاتباً كلّ ما لا نتجرّأ على قوله لتفادي تُهم الطائفيّة، فعرفة لا يخاف، لأنه يحلم، ولا رقابة على الحلم، ينبش عقله/ عقولنا و يجعلها أمامنا، كلّ ما فيها مُضخّم ومتغيّر، ذو حدود مائعة، كأننا في رحلة LSD، هو صرصار كافكا، لكنه في تحوّل دائم ضمن سيرةٍ شعبيّةٍ سحريّةٍ وعجائبيّة، لتصبح الغرفة مستودعاً للتعذيب والراوي مؤرّخاً للخراب.
كلّ هذا والثورة في الخارج، والكذب والتدفق الإعلامي والبروباغندا تحفر في رأسه، مذيعات ومراسلون حربيّون وكائنات لا إنسانيّة تنتصر للقضية الوطنيّة ضد المؤامرة الكونيّة، فكلّ معجم الكذب الأسديّ يحضر في الرواية، وكلّ العاملين فيها أشبه بمسوخ متبرّجة أمام العدسة، يردّدون "حقائقهم" الأشد سخفاً ولا منطقيّة من كلّ ما يكتبه عرفة.
يتداعى "العالم" في (سرير على الجبهة) بين أربعة جدران، في غرفة أشبه بثقب أسود يبتلع كل شيء—الذاكرة، سياسات القمع، التاريخ، الطوائف، الحكايات الشعبيّة، والروائي عرفة نفسه، ليتفكك كل شيء ويعاد تركيبه كحلم هذيانيّ.
يقرأ عرفة في رواية سرير على الجبهة، تاريخ سوريا تحت حكم الأسد كملحمة غروتيسكية، وكأن العملاقين غارغانتوا وبانتغرويل قررا التناسل والتهام سوريا وترك ذريتهما تلعب فيها، إذ يتحدث عن العسكرة والتريييف و الطوائف وصراعها، عن وحوش تحتل الغرفة و المدينة، ويشير إلى التغير الديمغرافي وكيف تحولت المدينة إلى "ريف" كبير، وكأنه يوثق حلماً وينبش في لا واعي كل سوري.
يخبرنا الراوي عن الهزائم والانتصارات على الخائفين، و كيف تغيرت الجغرافيا في دمشق، وتحوّلت المدينة إلى مختبر لإنتاج مخلوقات مطيعة يشرف عليها لصوص وسفلة، كما تحضر الثقافة الشعبيّة السوريّة بكافّة أشكالها، النكات السريّة ، أغنيات الأطفال، أنواع الطعام، الأفلام السوريّة وخفايا السلطة، لتصبح الغرفة أشبه بمسرّع ذرّات يدور فيه عرفة عارياً، بينما تتفكّك ذاكرته وتفرد أمامنا، أما الخارج فساحة القتال، والتي ما إن يخفّ الرصاص فيها، حتى يسارع عرفة لاكتشافها لينتهي به الأمر في حاوية قمامة، يأكل مع القطط بقايا الطعام، ليتمشى بعدها في أسواق "التعفيش"، حيث تتحوّل "الأغراض" الشخصيّة والمنهوبات إلى بضائع مباحة وغنائم للمنتصرين على الضعفاء.
كلّ ما سبق نتعرّف عليه في سردٍ هذياني وفصولٍ تتفاوت في الطول، وكأنها ومضات من سلسلة أحلامٍ طويلة، لا نعلم حقيقة متى يستيقظ أو ينام الراوي، الذي يدوّن حذراً أيضاً، وكأنه يقتنص مساحات آمنة من حلمه، ليكون فيها حرّاً لثوانٍ فقط قبل أن تطاله أيدي الجنرال وأزلامه.
زوجة عرفة التي تركته وحيداً وهربت مع الأطفال حارمةً إيّاه من لذيذ لحمها، حوّلته إلى مهووس فيتشي يريد الجنس وتفريع شهوته وشبقه وخوفه، وكأيّ حلم، لا بدّ من استمناء ما، نتلمّس تكوّن موضوعة رغبته على طول الرواية، لنرى عرفة في الرواية أشبه بمن يرسم أطلساً استمنائياًّ في سبيل إيجاد قنوات لمائه، هذا الغرض الشبقيّ، يتكوّن مرئياً حين يهديه صديقه صندوقاً يحوي أعضاء نساء من أجساد مختلفة، ما يترك له حريّة تكوينها بالشكل الذي يشتهي.
لكن القمع والهيمنة يحضران حتى في مساحات الرغبة، لنراه يدخل في معضلة تكوين جسد امرأة يتطابق مع متخيّلاته من جهة وقوانينه الذاتيّة لتكوين جسد وطني "علماني"، إذ يختار أعضاء من مختلف الطوائف في سوريا، ليخلق معشوقةً وحبيبة تشبه الجميع وتشبعه، ليبدأ معها رحلة فانتازيّة من الحب والرهز وضرب اللحم باللحم، لكن، بينما يلتهم الواحد بينهما الآخر، لاعقاً مسامه وعبقه، ومطارداً إياه عبر تاريخ العشاق، تعلو أصوات الموسيقا العسكريّة، وتمشي الأحذية العسكريّة لتسحق عرفة وأحلامه وحبيبته، ليتلاشى كلّ شيء أمامها، ليبق الحذاء العسكريّ منتصباً في الغرفة، تحيط به جموع الأحذية والمطيعين والجنود.
صورة المقال لـ حسن الماسي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين