لم تكن سهام تدرك أنَّ حياتها العائلية الهادئة ستنقلب إلى معاناة، واضطراب، بعد أن علمت أنها حامل في شهرها الرابع بأنثى، لكنها لم تجرؤ على نقل الخبر لزوجها المتلهف لإنجاب ذكر، وظلت مُتكتِّمة على الخبر حتى دخولها إحدى مستشفيات التوليد بالعاصمة الجزائر، حين كشف الطبيب أنّ الجنين أنثى.
"غادر دون أن يودّعني"
وتروي سهام، جزائرية في العقد الثالث من عمرها، من مدينة الورود في محافظة البليدة، التي تبعد عن العاصمة الجزائرية 45 كيلومتراً غرباً، لرصيف22 أنها أمٌ لثلاثة بنات، نسرين وصفاء وهيام، ولم تكن ترغب بإنجاب المزيد، غير أنَّ زوجها أرغمها على ذلك لأنه كان يريد ذكراً، متجاهلاً معاناة الإنجاب والرعاية.
تقول سهام عن لحظة معرفة زوجها بجنس الجنين: "بعد مرور أربعة أشهر على الحمل، توجهتُ مع والدتي إلى الطبيبة دون إبلاغ زوجي، لأنه كان يتشوّق لمعرفة جنس المولود، وأبلغتني الطبيبة أنني أنتظر فتاة، حينها اسودّت الدنيا في وجهي، وأظلمت في عيني، خوفاً من ردة فعله، رغم أنني من محبات الفتيات لأنهن في غالب الأحيان مطيعات، ومتفوقات مقارنة بالذكور".
"اسودّت الدنيا في وجهي خوفاً من ردة فعل زوجي"
وتقول إنها أخفت معرفتها بجنس الجنين لأطول وقت ممكن، حتى الشهر السادس، أثناء دخولها إلى المستشفى بسبب خطر الولادة المبكرة، وإمكانية فقدان جنينها نظراً للمرحلة العصيبة التي كانت تمرّ بها، آنذاك أبلغتها الطبيبة المشرفة على علاجها أن حياة الفتاة التي تنتظرها معرضة للخطر، وقد تفقدها، "غير أنَّ زوجي لم يأبه لكلام الطبيبة، وغادر دون أن يودَّعني حتى، وكأنّي المسؤولة عن تحديد جنس المولود".
تضيف سهام: "مكثتُ في المستشفى شهرين كاملين دون أن يأتي لزيارتي، رغم الأدوية والتحاليل التي كان يطلب مني الأطباء القيام بها".
" الرجل قد يتخلى عن زوجته، بسبب عدم إنجابها للذكر، ولا يلتزم حتى بواجباته تجاهها، وتعيش بذلك في جحيم دائم، وتنقلب حياتها الزوجية إلى عذاب"
"النساء اللواتي لا ينجبن ذكوراً يتحولن إلى خادمات في بيوتهن، ويحرمن من حقوقهن، وبعضهن يصبن بأمراض نفسية بسبب المعاملة القاسية التي يعاملن بها"
وتشير سهام إلى أن والدتها هي من كانت تُعدّ لها الطعام، والمستلزمات الشخصية، وبقيت سهام على هذه الحالة إلى أن رُزِقت بمولودة، حينها، اضطرت للذهاب إلى بيت أسرتها، حتى يتضح موقف زوجها منها.
"الحياة مع زوجي لا تطاق"
تتعرض العديد من النساء الجزائريات بالأساس لقمع اجتماعي، فيما يتعلق بزيها واختياراتها، ورغم التزام كثير منهن بالأعراف الاجتماعية، إلا أن ما تتعرض له من غبن بسبب جنس المولود، يزيد من شعورها بالمرارة، والظلم، تحكي رؤية (35 عاماً) من ضاحية الحراش، شرق العاصمة الجزائرية، قصتها التي لا تختلف كثيراً عن حكاية سهام، والعديد من الجزائريات، تقول لرصيف22: "تزوجتُ قبل سبع سنوات، عندما كنت في فترة الخطوبة، أدركت أن زوجي رجل متعصب بالنظر إلى تصرفاته معي، فكان يلزمني مثلاً باللباس الشرعي حتى لا تظهر مفاتني، إضافة إلى القيود الأخرى التي كان يفرضها علي وأنا في عملي، لذلك رفضت الاستمرار معه، ولكنه من ناحية أخرى يظهر اهتماما بي دفعني إلى غض النظر عن هذه النقائص".
تتنهّد رؤية، وتكمل: "بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على زواجنا، حصل الحمل، وبعد تعرفي على جنس الجنين، أبلغت زوجي أننا ننتظر فتاة، وكنت أنتظر ابتسامته، وفرحه، إلا أن هذا الخبر نزل عليه كالصاعقة، وراح يردّد: "لا أريدها وإياك أن تنجبيها"، حينها لم أعرف ماذا أفعل، قاطعني زوجي طيلة فترة الحمل، حتى أصبحت الحياة لا تطاق معه، لذلك فكرت في الطلاق لأنه لم يرض بما منحنا الله لنا".
وتتداول أمهات جزائريات قصصاً ذات نفس ديني، تقاوم النزعة المتفشية مؤخراً حول عدائية إنجاب البنات، وتمنحهنّ عزاءً لما يلقينه من تعنت أزواجهنّ، إحداها ترويها سلمى التي كانت تنتظر دورها للتشخيص في إحدى عيادات التوليد بمنطقة "الرغاية"، تحكي لمن يشاركنها الانتظار حكاية جارها، أب لخمس بنات، كان يتوق شغفاً لإنجاب ولد، ولما علم أنَّ زوجته حامل للمرة السادسة، سجد ودعا الله أن يرزقه بولد حتى ولو كان معاقاً، وهو ما وقع فعلاً، حيث رزق بمولود لا يبصر، ومصاب بإعاقة حركية.
"تحايل على القضاء لتطليق أم البنات"
تقول الباحثة الحقوقية فيروز سلال، في تصريح لرصيف22: "إن أروقة العدالة الجزائرية تشهد العشرات من قضايا الطلاق التي تتعلق بإنجاب البنات، غير أنه من الصعب جداً تحديد نسبة واضحة، لعدة أسباب أبرزها التحايل المُمارَس على القضاء الجزائري في مثل هذه القضايا".
وتشير الباحثة الحقوقية الجزائرية إلى أنَّ القضاء الجزائري يرفض قبول قضايا طلاق تتعلق بإنجاب الإناث، لذلك يلجأ قطاع عريض من الأزواج إلى تلفيق بعض التهم للزوجات، كالتقصير في الواجبات الزوجية، حتى يوافق القضاء على قضية الطلاق.
وفي حالة فشل الزوج في تطليق زوجته بسبب إنجاب الإناث، تقول الباحثة الحُقوقية، إن الزوج قد يتخلى عنها، ولا يلتزم حتى بواجباته تجاهها، وتعيش بذلك في جحيم دائم، وتنقلب حياتها الزوجية إلى عذاب.
"إذا فشل الزوج في تطليق زوجته "أم البنات"، قد يتخلى عنها، ولا يلتزم بواجباته تجاهها"
وتُرجع المتحدثة أسباب انتشار هذا النوع من القضايا إلى الواقع الاجتماعي، فالرجل في المجتمع الجزائري لازال متمسكاً بالعادات والتقاليد، فبعض المناطق في الوطن لازالت متأثرة بضرورة إنجاب الذكور، رغم التأكيد الدائم للأطباء على أن مسؤولية تحديد جنس الجنين يرجع إلى الرجل وليس المرأة، تقول فيروز: "النساء اللواتي لا ينجبن ذكوراً يتحولن إلى خادمات في بيوتهن ويحرمن من حقوقهن كزوجات عاديات، وبعضهن يصبن بأمراض نفسية بسبب المعاملة القاسية التي يعاملن بها".
ولا زالت ظاهرة اضطهاد الأزواج لـ"أم البنات" منتشرة، بحسب الباحثة الحقوقية، خاصة في بعض المناطق الجبلية، على غرار منطقة القبائل.
وعن الجانب القانوني، تقول سلال إن جميع القوانين تصب في صالح المرأة الجزائرية، خاصة إذا كان سبب طلب الطلاق هو رغبة الزوج في إنجاب الذكور، لهذا يتم التحايل على السبب.
أما من الناحية الاجتماعية، وبعيداً عن القانون، لا تزال شرائح واسعة من المجتمع الجزائري ينظر إلى المرأة التي لا تنجب الذكور "أم البنات" وكأنها مخطئة، أو مذنبة، سواءً اختارت الاستمرار في زواجها، أو الطلاق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...