شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من مقرٍّ للمافيات الوهمية حتى قطعة من وطن ضائع للعرب... تسكّع في الشارع العربيّ ببرلين

من مقرٍّ للمافيات الوهمية حتى قطعة من وطن ضائع للعرب... تسكّع في الشارع العربيّ ببرلين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 6 ديسمبر 201904:00 م

يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".


لم يكن شارع "زونن آلي"  Sonnenallee، أو "شارع العرب" في برلين، كما يدعوه الآن العرب و الألمان على حدٍّ سواءً، مشهوراً جدّاً قبل سقوط جدار برلين. كان الجدار يقسم الشارع إلى قسمين بين برلين الشرقية والغربية، وهناك معبر بينهما ونقطة تفتيش لم تكن مشهورة، إذ لم تشهد محاولات هروب كثيرة ونزاعات وإطلاق نار كغيرها من المعابر. بحسب صفحة برلين الرسمية على الإنترنت، لاقى المعبر في الشارع اهتماماً فقط بعد سقوط الجدار في نوفمبر من عام 1989،ومع ظهور فيلم بعنوان “Sonnenalle". 

"شارع العرب" في برلين كما بات متعارفاً عليه ،أو "زقاق الشمس"، إذا ما ترجمنا الاسم حرفياً من الألمانية، بحسب مجلة فاز الألمانية، شارع طوله خمسة كيلومترات. كان اسمه صنواً للمافيا والعصابات والعنف، ولكنه أصبح بالنسبة للبعض ملجأً وقطعةً من وطن ضائع، ومع قدوم السوريين، طبعوا هم وغيرهم من العرب الشارع بدمغتهم الخاصة. هنا يجد اللاجئون الجددُ مطاعمَ تقدّم الأكلَ العربيّ، والكلام لمجلة فاز، وقد تمّ مؤخراً افتتاح الكثير من المحلات السورية، المطاعم، والسوبر ماركتات التي تبيع المنتوجات اللازمة لتحضير الأكل السوري.

أيام العطل، يمتلئ الشارعُ بالناس؛ نساء يتسوّقن مع أولادهن؛ مراهقون وشبان يلتقون بأصدقائهم؛ رجال مسنّون يتحدثون على الرصيف.

وفي نهارات الجمعة، هناك سوق أسبوعي يمتلئ بالناس والباعة. هنا نرى الكثير من النساء المحجبات في السوق يشترين الخضار والفواكه والبضائع المختلفة. ومن غير المفاجئ أن الباعة ينادون على بضائعهم بأصوات عالية تماماً، كما في أيّ مدينة عربية: بطيخ، أفندي، تفّاح، عنب، و"العلبتين بيورو واحد". هناك "أفندي" و"كلمنتين" مقشّريْن ومعروضيْن للزبائن لكي يتذوّقوهما قبل الشراء.

من يمشي في الشارع يلاحظ عبارة "حَلال" مكتوبة على زجاج ولافتات الكثير من المطاعم، كما ونرى أن عبارة "نباتي" (Vegetarisch بالألمانية) بدأت تظهر بكثرة أيضاً، دلالة على ظاهرة "الجنتريفيكيشن" التي أخذت تغزو المنطقة. فوصْمُ "نباتي" على مطعم الدونر التركي مثلاً، هو "حلال" أيضاً من نوعٍ آخر لاستقطاب زبائن جدد في المنطقة. ومن الدلائل على "الجنتريفيكيشن" وتحسّن وضع المنطقة الاقتصادي، هو افتتاح سوبر ماركت يبيع المنتجات العضوية فقط، وهي عادة ما تكون غالية الثمن.

من المطاعم الشهيرة مؤخراً على "زونن آلي"، أو "شارع العرب"، هو مطعم "الدمشقي"، والذي تمّ افتتاحه منذ عامين فقط، ولكن شهرته فاقت مطاعم عربية كثيرة أقدم منه بكثير في المنطقة. يقول أبو يوسف أو "ملك الكنافة "،الحلواني الشهير لرصيف22، عن سرّ نجاح مطعم الدمشقي: "لأننا من الأساس أصحاب المصلحة. كانت لدينا محلّاتنا في الشام، وكلنا هنا ريسين (رؤساء) المصلحة، وكلّ واحد مسؤول عن قسمِه وخبيرٌ به. مثلاً لدينا خبير بقسم المشاوي، وخبير بقسم البروستد، وخبير بقسم الحلويات".

يقول أبو يوسف فخوراً: "أنا أساساً حلواني، وهذه مهنتي الأصلية. هذه بالأساس كانت مصالحنا (مهننا) من أيام سوريا، وقبل نزوحنا إلى ألمانيا".

ويؤكد أبو يوسف: "نحن أولاد المصلحة، وليس عندنا استعداد أن نعيش على إعانات الدولة، فنحن قادرون على العمل بأيدينا وننتج بمجهودنا".

يضيف أبو يوسف الذي جاء إلى برلين مع موجة اللجوء السوري عام 2015: "الحمد للّه في هذا المطعم نقوم بإعداد المشاوي والكباب والبروستد والسلطات، بالإضافة للحلويات وقسم العصائر والفواكه".

ليس كلّ زبائن المطاعم العربية في الشارع من العرب، بل هناك الكثير من الألمان و"الأجانب" الذين يقصدون الشارع للتمتّع بالمأكولات العربية التي تعرفوا عليها و أصبحوا يستسيغونها. يفتخر أبو يوسف بأن زبائنهم ليسوا عرباً فقط، بل هناك أجانب كثيرون؛ حوالي ثلاثين بالمئة من زبائن المحل بتقديره، وهم ليسوا ألماناً فقط، بل يأتي الكثير منهم من الدنمارك وبلجيكا والنمسا ليأكلوا عند مطعم "الدمشقي" الذي يقدّم المطبخ الشامي. أما العرب الذين يرتادون المطعم بشكل دوري فهُم من كلّ الجنسيات العربية من المغرب مروراً بمصر إلى اليمن.

أثناء وجودنا في مطعم "الدمشقي"، كان من اللافت أنه ليس هناك موسيقى في المكان، من النوع الذي يذاع في المطاعم عادة لإضفاء جوٍّ من الألفة على المكان، بل يصدح القرآن الكريم بصوت عالٍ، مما أضفى طابعاً دينياً محافظاً جدّاً على المكان الذي تزيّن حيطانه صورُ "سوق الحميدية" والجامع الأموي، بالإضافة إلى معالم أخرى من دمشق.

المطاعم العربية في الدليل السياحي لبرلين

يذكر أحد المواقع السياحية لمدينة برلين الكثيرَ من المطاعم العربية التي ينصح السيّاحَ بزيارتها للتمتع بالمأكولات العربية فيها في شارع العرب؛ على سبيل المثال مطعم "الأندلس" اللبناني ، ومطعم "الباشا" الذي يختصّ بالمطبخ اللبناني والسوريّ بالإضافة إلى "عزام" الذي يصف الموقع السياحي أكله بأنه "عربي".

كان اسم "شارع العرب" في برلين صنواً للمافيا والعصابات والعنف، ولكنه أصبح بالنسبة للبعض ملجأً وقطعةً من وطن ضائع، ومع قدوم السوريين، طبعوا هُم وغيرهم من العرب الشارعَ بدمغتهم الخاصّة

نزهة على الدراجة

إن كنتم في برلين وكان الطقس جيّداً، ينصحكم الدليل السياحي لبرلين بأن تقوموا بنزهة على الدراجة لتتبّع جدار برلين في جنوب المدينة؛ هكذا تكون بداية رحلتكم من شارع العرب زونن آلي حيث تتبعون قناة نهر "مارين" بـ"شونيبيرغ"  Schöneberg، حتى تصلوا إلى منطقة "ليشتر فيلده" Lichterfelde. يقول الدليل السياحي لزيارة مدينة برلين نفسِه، بأن طريق الدراجات هذا جديد وجميلٌ جدّاً.

تسعون بالمئة من المحلّات في أيدي العرب

من الواضح أن معظم المحلات في الشارع هي في أيدٍ عربية، إذ تؤكد ذلك رئيسة بلدية منطقة "نوي كولن"، فرانسيسكا جيفي، التي تقدّر هذه النسبة بتسعين في المئة. وتقول إن معظم هؤلاء قد أتوا من لبنان كلاجئينَ في ثمانينيات القرن الماضي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.

من الواضح أن كلّ المحلات والمطاعم المفتوحة في الشارع تتوجّه إلى الزبون العربي بشكل أساسي، وإن كان في الشارع ألمانٌ كثرٌ، ويزوره سيّاح من جنسيات مختلفة.

نجد محلّات الصاغة العرب التي تبيع الذهبَ المشغول على الطريقة العربية، ومن الواضح أن التصاميم هنا أيضاً متوجّهة إلى العرب تحديداً؛ أطقم ذهبية فيها عقودٌ وخواتم مرصّعة كبيرة؛ دبل للخطوبة، وأطقم من الذهب،  تماماً كما توجد في أسواق الذهب في شوارع البلدان العربية، بالإضافة إلى المحلات التي تبيع فساتين العرائس الكبيرة الحجم من الكشاكش، اللامعة من الشكّ والبرق، وفساتين السهرات المشابهة.

من الواضح أن كلّ المحلات والمطاعم المفتوحة في الشارع تتوجّه إلى الزبون العربي بشكل أساسي، وإن كان في الشارع ألمانٌ كثرٌ، ويزوره سيّاح من جنسيات مختلفة

إضافة إلى ذلك تجد المحجبات أماكن خاصة بهن حيث بإمكانهن شراء اللباس الإسلامي والأوشحة واللوازم الإسلامية من مسابح وسجاجيد صلاة وكتب إسلامية. ومن اللافت أن الكثير من المحلات، حتى صالونات الحلاقة الرجالية مزيّنة بلوحات مكتوب عليها آيات قرآنية.

هناك أماكن كثيرة للهواتف الخلوية، وتصليح الكومبيوترات والهواتف، وبيع الستلايت الذي يبثّ القنوات العربية. يأتي العرب وحتى الألمان من جميع أحياء برلين إلى هنا من أجل تصليح هواتفهم وكومبيوتراتهم بأسعارٍ أقلّ من أسعار الشركات والمحالّ الألمانية.

حتى المأكولات السريعة من فلافل وشاورما، طازجة ورخيصة الثمن في شارع العرب.

شارع زونن آلي العربي هو وطن القادمين الجدد

ترى رئيسة بلدية نوي كولن فرانسيسكا جيفي أن شارع العرب هو "وطن" القادمين الجدد العرب، كما منطقة "كرويزبيرغ" هي وطنٌ للأتراك. وبتقديرها واحدٌ من كلّ خمسة عرب في برلين يسكنون في منطقة "نوي كولن". قد أصبح شارع العرب هو مكان الحنين الرسمي، على حدّ تعبيرها، وملتقى الصّغار والكبار. وبالنسبة للاجئين، لا يهمّ إلى أيّ ملجأ يتمّ فرزهم من قبل الدولة، إنهم يبتسمون ويطلبون: "شارع العرب".

أفضل موقع لتصوير مسلسلات المافيا؟!

لا شك ّبأن عناوين الصحف ومسلسلات Netflix و Amazon prime الشهيرة عن الشارع كمسلسل "4 Blocks"، جعلت من الشّارع "كليشيه" عن انتشار المافيات فيه بين الناس في كلّ ألمانيا. فالمسلسل الناجح (4 Blocks) هو مزيج من فيلم العرّاب The God Father والسوبرانوز The supranos، حتى أن اسم بطل المسلسل هو طوني أيضاً، وقد تمّ تصويره في شوارع منطقة نوي كولن وشارع زونن آلي، أي شارع العرب تحديداً.

بالنسبة للاجئين، لا يهمّ إلى أيّ ملجأ يتمّ فرزهم من قبل الدولة، إنهم يبتسمون ويطلبون: "الشارع العربي"

لكن بحسب موقع دويتشيه فيليه الألماني، فإن سكان المنطقة لا يجدون أن المشكلة في زونن آلي هي في وجود المافيات وانتشار الجريمة، لكن في الجنتريفيكيشن وارتفاع الأسعار.

سكان المنطقة وزوارها لا يوافقون على هذه الصورة السوداوية عن الشارع، بل بالعكس، سكان المنطقة من عرب وأتراك وألمان غير خائفين من الجريمة، ولكن يشعرون بانعدام الأمان بسبب المستثمرين الأجانب الذين بدأوا بشراء العقارات في المنطقة بكثرةٍ، وتسببوا بارتفاع الأسعار.

نزهة قصيرة على الأقدام في الشارع، وجولة في السّوق والجلوس في مقهى أو مطعم، كافٍ لتبديد كلّ الهواجس التي تخلقها المسلسلات والمقالات الصحفية الباحثة عن الإثارة والدراما. المكان هادئ ومكتظّ بالسيّاح والمتسوقين والسكان، رجالاً ونساءً وأطفالاً من كلّ الأعمار. يقصد "زقاق الشمس" السيّاحُ المتشوقون لنكهةِ الشّرق الأوسط، والعربُ الذين يشعرون أنه بديلٌ عن وطن يفتقدونه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image