يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
لم يعد صوت أم كلثوم وفيروز يُسمع من محالِّ ومقاهي شارع الرشيد، فالمُطربتان العربيتان غادرتا المكان منذ أسابيع وتركتاه لأصوات الرّصاص عنوة. في المقاهي والمحالّ القديمة في هذا الشارع، يمكن مشاهدة تأريخ العراق وربّما أكثر عبارة عن صور. صور الملوك والرؤوساء والفنانين والُمنتخبات العراقية، كما نرى أيضاً صور عبد الحليم وفيروز وأم كلثوم ووردة وفريد الأطرش؛ أسماء تتعلّق بالزمن الجميل.
"عندما كُنت صغيراً، كنتُ أسمع كثيراً بشارع الرشيد وتاريخه وأهميته بالنسبة للعراقيين، لكن عندما زُرتُ بغداد عام 2012 صُدِمت، فكيف لشكل هذا الشارع العالق في ذهني أن يُحطّم بهذه الطريقة؟!"؛ يقول إسماعيل كاظم (24 عاماً).
إسماعيل الذي كان يعيش في محافظة صلاح الدين، شمالي بغداد، كان دائماً يسمع بشارع الرشيد ويراه في الأغاني والمُسلسلات والتقارير التلفزيونية. كان والده المتوفي يعِده كثيراً بزيارته، لكنّ الحظّ لم يُحالفه، وعندما عادوا إلى بغداد حيث مسقط الرأس، عام 2011، سنحت الفُرصة له بزيارة الشارع.
يقول لـ"رصيف22": "بصراحة، صُدِمت، هذا ليس شارع الرشيد الذي سمعت عنه، ورأيتُه في التّلفاز؛ هذه ورشة صناعية كبيرة! الشارع تحوّل إلى معرض كبير للأدوات الاحتياطية والموادّ الإنشائية ومحالّ المستلزمات الزّراعية وعُدد البناء".
في المنطقة الممتدّة بين الباب الشرقي وباب المُعظم في جانب الرصافة من بغداد، يطلّ شارع الرشيد على نهر دجلة. هذا الشارع الذي يكبر تأريخ الدولة العراقية بخمس سنوات، قد أُسّس عام 1916، وكان اسمه في بادئ الأمر "شارع خليل باشا" نسبة إلى الوالي العُثماني آنذاك، حتى فترة الحُكم الملكي للعراق 1921-1958 غُيّر اسم الشارع إلى الاسم الحالي، نسبة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد. كان الشارع في بداية إنشائه طريقاً لمرور القوات العسكرية العُثمانية، لكنه طُوّر في العهد الملكي.
في ذاكرة العراقيين صورة جميلة لشارع الرشيد، ففضلاً عن حضوره السياسي في كلّ أحداث العراق الحديث تقريباً، إلا أنه كان مُتنفساً بغدادياً على مرّ العقود التي سبقت عام 2003 والتي دخل فيها الاحتلال الأميركي العراقَ. كان العراقيون يجوبونه ليلاً ونهاراً من أدناه إلى أقصاه، حيث المطاعم ومحالّ الملابس والمحالّ التجارية ومحالّ الذهب والفضة.
اليوم، قد تحول شارع الرشيد إلى منطقة قتال وعُنف، ففي الشارع الذي يُعدّ معلماً ثقافياً في العاصمة بغداد، صار صوت قنابل الغاز المسيلة للدموع أعلى من صوت طقطقة صحون الشاي بيد "الأسطة"، وصارت رائحة الغاز تُشّم على بُعد مئات الأمتار بدلاً من رائحة "الهال" الذي يخرج من المقاهي.
في المنطقة الممتدّة بين الباب الشرقي وباب المُعظم في جانب الرصافة من بغداد، يطلّ شارع الرشيد على نهر دجلة. هذا الشارع الذي يكبر تأريخ الدولة العراقية بخمس سنوات، قد أُسّس عام 1916، وكان اسمه في بادئ الأمر "شارع خليل باشا" نسبة إلى الوالي العُثماني آنذاك
قُتل في شارع الرشيد العشرات من المُحتجّين خلال الأسابيع الماضية، وتمركزت فيه قوات مكافحة الشغب التي تَستخدم "عُنفاً مفرطاً" ضدّ المُحتجين، حتى سماؤه لُبدت بدخانٍ أسود بسبب الحرائق ودُخان القنابل.
في الشارع البغدادي الشهير الذي تطلّ منه المباني البغدادية القديمة، والتي كانت مراكز تجارية وفنادق ومطاعم ومقاه معروفة، لا تجدون اليوم فيه كلّ ذلك. بإمكانكم أن تروا اليوم جُدراناً كونكريتية قاحلة، وشوارع تُعاني من الحُفر ومحالّ بيع أدوات إطفاء الحريقُ ومحلّات أخرى لبيع الموادّ والآلات الزراعية.
يبدو أن هُناك محاولات لإنهاء وجود هذا الشارع وتشويهه، فالشارع الذي صُمّم وفق مواصفات إحدى شوارع لندن لا يُراد له أن يبقى مثلما كان
يقول الباحث الاجتماعي سعيد كريم لـ"رصيف22: "يُمثل شارع الرشيد بالنسبة للعراقيين مكانة مهمّة، فهو شاهد على أحداث مُهمة في التأريخ العراقي الحديث، فضلاً عن كونه مركزاً أساسياً للعُشّاق والمتزوجين، فأغلب العوائل البغدادية، وحتى غير البغدادية كانت تشتري ذهب الخطوبة من شارع النهر في شارع الرشيد، لذا فمكانتُه كبيرة لدى العراقيين".
ويضيف: "يبدو أن هُناك محاولات لإنهاء وجود هذا الشارع وتشويهه، فالشارع الذي صُمّم وفق مواصفات إحدى شوارع لندن لا يُراد له أن يبقى مثلما كان، وبصراحة، هُناك عُقدة من اسمه، فالأحزاب السياسية العراقية تعتقد بأن تسميته على اسم الخليفة العباسي هارون الرشيد جريمة كُبرى".
حتى بغداد التي تُسمّى "عاصمة الرشيد"، هُناك من يُريد إيقاف إطلاق هذه التسمية عليها، وهذا يعود بنا إلى مشاكل دينية تأريخية، ففي بغداد يقع مرقد الإمام الكاظم أحد أئمة الشيعة، ووفقاً للروايات فإنه قُتِل على يد هارون الرشيد، لذا لا ترغب أغلب الأحزاب الشيعية العراقية بتسمية بغداد على اسم الرشيد، وهو ما دعا بعض الساسة الشيعة إلى تغيير التسمية أكثر من مرة.
وفي أبريل 2019 كَتب القيادي في حزب الدعوة الإسلامية النائب السابق سامي العسكري بمناسبة ذكرى مقتل الإمام الكاظم: "أليس من السخرية والتناقض أن تحيي بغداد ذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وتعطل الحكومة الدوام في الدوائر الرسمية، ويبقى أحد أبرز شوارع بغداد وأقدمها يحمل اسم هارون الرشيد القاتل الذي استشهد الإمام الكاظم بأمرٍ منه".
جُزءٌ كبيرٌ من الشّارع كان مُغلقاً لمدّة 15 عاماً، منذ الاحتلال الأميركي في أبريل 2003 حتى يناير 2019 عندما أعلن رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي عن افتتاحه بشكل كامل.
يضمّ الشارع معالم بغدادية شهيرة، مثل سوق "حافظ القاضي"، وعصير "حجّي زبالة"، ومقهى "حسن عجمي"، ومقهى "الزهاوي" و"أم كلثوم"، وشارع "النهر"، وغرفة تجارة بغداد، وجامع "الحيدر خانة"، وشارع "المُتنبّي" الذي يطلّ على نهر دجلة.
في ساحة الميدان حيث يبدأ الشارع من جهة الباب المُعظّم، تجدون المباني القديمة الآيلة للسقوط، وفيها مبنى قديم يوشك على السقوط اسمه "خان المدلّل"، ويُقال إن أم كلثوم غنت فيه خلال إحدى زيارتيها للعراق، وإلى جانب هذا المبنى تجدون مبانيَ قديمة أخرى، أمامها وعلى جانبها يُباع الأثاث المنزليّ الرّثّ جداً، وبعض الأدوات الكهربائية.
أما بعد عبور شارع المُتنبي بعشرات الأمتار، ووصولاً إلى ساحة الشاعر "معروف الرصافي"، تتكدّس على الأرصفة النفايات والأوساخ وعلب المحالّ التجارية، بينما تضيق مساحة الشارع باتجاه البنك المركزي العراقي حيث عربات الدفع والبسطات على جانبي الطريق، ومثل بقية الأماكن مازال الشارع يُعاني من الحُفر.
هكذا يبدو شكل الشارع وصولاً إلى ساحة حافظ القاضي حيث بيع الملابس والأدوات الرياضية والمواد الإنشائية والعدد اليدوية وأدوات السلامة المهنية والمواد الزراعية، ويكون الشارع في حال أفضل عند الأمتار الأخيرة باتجاه شارع أبي نواس حيث تدور الصِدامات الآن بين المُحتجّين والقوات الأمنية العراقية.
تحدثت أمانة بغداد خلال السنوات الماضية عن حملات لإعادة إعمار الشارع وبدء وضع آلية تحديد ما يُمكن أن يتضمّنه من محالّ ومراكز تجارية، لكن ذلك لم يحدث، فاكتفت أمانة بغداد بصُبغ أعمدة الشارع المُتهالكة ومُعالجة الحُفر التي فيها بطريقة بدائية، وصبغ وترميم مبان قليلة جداً، مثلما موضح في هذا الفيديو الترويجيّ الذي بثّته أمانة بغداد، والذي لا يعكس الواقع الحقيقي للشارع، وتُبرّر أمانة بغداد بأن 80% من المباني في شارع الرشيد تعود ملكيتها إلى المواطنين وليس إلى الدولة.
تحوّلت بعض المدارس التي كانت في الشارع والمباني الراقية آنذاك إلى كاراجات (مرائب) للسيارات، بينما تحوّلت بعضُ أغلب الطوابق العُليا منه المُصمّمة على شكل الشناشيل، إلى مخازن للمحالّ التجارية، ويظهر سوء حال الشّارع أكثر عندما يُصوّر بكاميرا طيارة من السماء، حينها تظهر كلّ المشاكل التي يُعاني منها.
في تصريحات صحفية له يقول السياسي العراقي الذي يوصف بـ"المفكر" إن "شارع الرشيد كان علامة على تطور بغداد واذا اغتيل اغتيلت بغداد والى الآن يحاولون اغتيال اسمه. كان صدّام لايحبّ شارع الرشيد والسبب أن كلّ زعيم يــــريد أن تتحوّل الذاكرة له".
ويضيف: "شارع الرشيد ذاكرة ملكية وصدّام لا يريده. إنه يريد ذاكرة خاصة به، ولذلك أنجز شارع "حيفا"، كما أسّس جسوراً وأنجز مشاريع كثيرة، لأنه لم يولِ شارع الرشيد اهمية. أنا لطالما كنتُ أتحدّث اليه عن الشّارع، لكنّه لم يصغ إليّ. وجاء الشيعة وهالهم الاسم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...