ما القصص التي لا نعرفها وتذكرها الجدران القديمة لمقاهي وحانات وفنادق الشارع الذي كان وجهة للراغبين في المتعة في مصر؟ هو شارع كلوت بيك، المكان الرسمي لممارسة البغاء وبيع الخمور في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى 1949.
في وسط القاهرة، يمتد من منطقة باب الحديد، رمسيس حالياً، وينتهي بميدان الخازندار وصيدناوي في منطقة العتبة. يفصل بين القاهرة الفاطمية، والنمط الكلاسيكي المتوارث من تلك الحقبة الإسلامية وبين حداثة قاهرة الخديوي إسماعيل.
بات كلوت بيك اليوم مفعماً بحركة بيع الأجهزة الكهربائية وقطع الغيار المعدنية وشرائها. تتناثر بعض الكراسي والبضاعة على الأرصفة، وتصدح أصوات الباعة ينادون المارة من دكاكينه. على جانبيه، بقايا من المقاهي التي كانت قديماً حانات تسقي روادها خمراً، وفنادق اكتظت ببائعات الهوى وطالبي المتعة، لا تزال ملامحها قائمة إلى الآن. وقد نسي أو تناسى قاطنو البيوت الأسمنتية الجديدة التي حلت مكان منازل فرنسية التصميم، ماضي المكان، ولم يبق في ذاكرتهم إلا صورة ضبابية، أحيتها في ثمانينات القرن الماضي الفنانة ناديا الجندي في فيلم خمسة باب.
من هو كلوت بيك؟
أنتوني كلوت هو مؤسس أول مدرسة للطب في مصر عام 1827، وكان مؤرخاً ومستشاراً لمحمد علي باشا. وخلال إقامته في مصر بين عامي 1825 و1868، رصد حياة أهل البلد وسماتهم في كتاب لمحة عامة عن مصر.
وبحسب الدكتور حجاجي إبراهيم أستاذ الآثار، فإن الخديوي إسماعيل حفيد محمد علي أطلق اسم كلوت بيك على هذا الشارع خلال تقسيم القاهرة الخديوية عام 1875 تخليداً لذكراه.
بالطبع، كان الشارع موجوداً قبل التسمية. فقد كان سوقاً عشوائية لبيع الحبوب والخضر والفاكهة خلال الحملة الفرنسية على مصر، بحسب إبراهيم، لكن قيمته بدأت تخفت مع الوقت.
الدعارة على أطراف المدينة
لم تكن القاهرة ممتدة كما هي حالها اليوم، فالشارع الذي يقع في وسطها الآن كان على أطرافها في الماضي. وقد أعطاه هذا الموقع حينذاك، بحسب المؤرخ عماد هلال، خصوصية جذبت طلاب المتعة. يضيف قائلاً: "تتكون بؤر ممارسة البغاء خارج المدينة أو على أطرافها، وكان كلوت بيك من أطراف القاهرة". كان قد هاجر إلى مصر في القرن التاسع عشر، بعض من شعروا بالتهميش في دول أخرى بسبب التطور الذي شهدته آنذاك، لتنشأ عند حدود القاهرة مناطق جديدة، بحسب قول المؤرخ الدكتور محمد رفعت الإمام، عميد كلية الآداب في جامعة دمنهور لرصيف22. "استقرار جاليات أجنبية من أرمينيا، وبريطانيا العظمى حينذاك، والنمسا، واليونان، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا في مصر سواء للعيش أو للعمل، واقتراب الشارع من محطة مصر، ساعدا في جذب طلاب المتعة وشاربي الخمور"، يقول الإمام لرصيف22. وقد تضاعف لوجود الأجنبي في مصر بشكل عام منذ عصر محمد علي باشا، فبدأت الحكومة تسمح بمحال الخمور وبيوت البغاء بوجه خاص، ظناً من النظام آنذاك أنها وسيلة لحماية بنات البلد من الأجانب، وأن هذه البيوت ستصرف أنظارهم عن التعرض للمصريات، وفي الوقت نفسه كانت وسيلة مثلى لجمع ضرائب من هذه المهنة، بحسب الدكتور وائل الدسوقي الأستاذ في التاريخ المعاصر. وفي عام 1882، بعد الحرب بين بريطانيا ومصر، والتي انتهت بانتصار الأولى واحتلاها مصر، تمركز جنود الاحتلال حول الشارع الواقع على أطراف المدينة، بحسب هلال، ما ساعد في انتشار بائعات الهوى في حانات كلوت بيك وفنادقه لتلبية رغباتهم. لكن الأمر بدأ يتقونن تدريجاً. فقد بدأت محاولات تنظيم ممارسة البغاء داخل مصر خلال تلك الفترة، وظهر أول قانون لإلزام بائعات الهوى بالكشف الطبي في نوفمبر 1882، وذلك بعد شهر وبضعة أيام من دخول 13 ألف جندي بريطاني مصرَ.
عن شارع وزمن كانت بائعات الهوى في القاهرة يدفعن الضرائب ويخضعن لفحوصات طبية ولا يخفن من الشرطة
كيف حلت الالكترونيات مكان الخمر والجنس والهوى؟ ومتى تحولت الدعارة من مهنة قانونية إلى جرم؟"(ثم) صدرت لائحة التفتيش على بائعات الهوى عام 1885، وألزمتهن بتسجيل أسمائهن وأماكن عملهن وفرض إجراء الفحص الطبي في مستشفى الحوض المرصود بمنطقة الدرب الأحمر في القاهرة، ودفع الضرائب وإلا عوقبن"، يقول هلال. السبب في رأي الإمام هو أن الاحتلال البريطاني حضّ الحكومة المصرية على قوننة الدعارة، خوفاً من انتقال الأمراض الجنسية إلى جنوده، ومن ثم نقلها إلى بلدهم بعد انتهاء الحرب.
حماية بنات البلد
ساعدت التصاميم المعمارية لشارع كلوت بيك، في رأي إمام، في جعله مكاناً مناسباً للمهنة، فالغالبية العظمى من مبانيه اقتصرت على فنادق وبنسيونات وشقق، ما جعل المكان صالحاً لممارسة الحب خلف أبواب مغلقة. وقد استفادت الأنظمة التي حكمت مصر من هذا العمل، في رأي هلال.
فعلى سبيل المثل لا الحصر، يقول أن محمد علي باشا فرض الضرائب على البغايا في بداية عهده، لكنه لم يستمر وتوقّف هذا النظام عام 1834، ثم نفى البغايا كلّهن إلى مدينة إيسنا جنوب مصر. بعد ذلك، عاد حصر أسماء بائعات الهوى وفرض الكشف الطبي عليهن واستمرّا حتى مُنعت الدعارة 1949.
بالطبع، تغير الوضع في مصر اليوم. فالقانون المصري الحالي يعاقب كل من يمارس الدعارة أو يساعد في نشرها أو إدارتها، بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن 3 سنوات، إضافة إلى غرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تزيد عن 300، وذلك طبقاً للمادة 8 من قانون مكافحة الدعارة رقم 10 لسنة 1961.
كيف كان حال سكان الشارع
خلال التجوال في شارع كلوت بيك، تظهر منعطفات وأزقة فيها بيوت سكنية صغيرة تتكون من دورين أو ثلاثة على الأكثر، بُنيت بتصاميم بسيطة من دون زخرفة، مثل مباني القاهرة الخديوية في الشوارع الرئيسية لمنطقة وسط البلد. كيف عاش سكان هذه البيوت بجوار بيوت الدعارة والحانات؟ وما الوصمة المجتمعية لمن ولد في الشارع وعاش فيه؟ "المقريزي والجبارتي وبقية كتّاب التاريخ يقولون أن الأحرار هجروا المدينة أو المنطقة، عندما تحولت بؤرة بغايا، لأن الناس الشرفاء يتركونها، بالتالي أصبح الشارع مقتصراً على الحانات والفنادق المشبوهة والمقاهي"، يقول هلال. ويضيف: "كتب مثقفون كثر عن ضرورة محاربة هذ النوع من الجريمة المرخّصة، وألغي في النهاية نتيجة ضغط اجتماعي كبير". فيما يعتبر الدسوقي أن الناس شعروا بامتعاض من الوضع، مع أنه قانوني، فبات الإجراء الاجتماعي الوحيد هو التجنب، وكان أكثر رواد الشارع من الأجانب، زائرين كانوا أو من جنود الاحتلال.
أين ذهبت فتيات كلوت بيك؟
شرات الحانات والفنادق احتضنت مئات البغايا قبل إلغاء ممارسته عام 1949، فما كان منهن إلا الاتجاه إلى الأعمال السينمائية أو الرقص. يقول هلال: "في الأفلام السينمائية بالأبيض والأسود، ستجد وراء المطرب أو المطربة عشرين راقصة، هن بغايا كلوت بيك بعد إنهاء المهنة رسمياً". من بيع الحبوب والفاكهة وشرائها إلى التجارة في الخمور والأجساد، وصولاً إلى التجارة في قطع غيار الأجهزة الكهربائية، هكذا ظل شارع كلوت بيك مفعماً بالحركة من رواده وسكانه. وما زالت رائحة القاهرة الخيديوية تفوح من بعض زواياه، وتأخذ الزائر إلى القرن التاسع عشر. لا وجود لمحال الخمور في شارع كلوت بيك اليوم. لعلّ ذلك يرجع إلى أنه أصبح أكثر شعبوية من بقية شوارع وسط البلد، وصار خطاً لسير عربات النقل الجماعي الآتية من العتبة إلى رمسيس. أما الفنادق فقَلَّت مقارنة بالماضي وحلّت مكانها مخازن تجارية، ولم يبقَ سوى فنادق متهالكة تتراوح أسعار الليلة فيها بين 35 و60 جنيهاً، بحسب نظافة الغرفة، وإذا كانت فردية أو بمشاركة آخرين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...