لا نعرف الكثير عن ذلك اللقاء الباريسي الذي جمع بين إدوارد سعيد وجان بول سارتر في مارس 1979. نعرف أن اللقاء، الذي حضره كل من ميشيل فوكو (1926 _ 1984) وسيمون دي بوفوار (1908 _ 1986)، كان الأخير بين الاثنين. بعد عام، رحل سارتر العجوز، تاركاً وراءه واحدة من كبرى المفارقات السياسية في العصر الحديث. سعيد نعى سارتر على طريقته. كان واضحاً أن سارتر، برواية سعيد عن فرانتز فانون (1925 - 1961)، فقد بريقه الفكري الذي رافقه في مرحلة العقل الجدلي، أو بلغة جيمس جويس، صورة المثقف في شبابه. يعود سعيد بالذاكرة عشرين عاماً إلى الوراء، ويتذكر يوم سافر سارتر إلى روما لوداع فانون، والذي كان آنذاك يحتضر من مرض اللوكيميا (لم يكن سعيد يعرف أنه سيواجه المصير نفسه بعد سنوات). سارتر الشاب، لم يكترث، على ما يبدو، لتوسلات فانون، بل حاضر أمامه بحماس مفرط حول التراجيديا الجزائرية لـ16 ساعة متواصلة، حتى نهضت دي بوفوار أخيراً وتطوعت لإسكاته.
جان بول سارتر في ذلك اليوم من ربيع 1979، وعلى غير عادته، سكت سارتر عن التراجيديا الفلسطينية. لكن سعيد لم يسكت، بل عاد بعد عشرين عاماً ونشر تفاصيل اللقاء في إحدى الدوريات اللندنية. في يومياته، يروي سعيد عن صدمته تجاه الفيلسوف الفرنسي، ويحاول، دون جدوى، تشريح ذلك التناقض الصارخ بين موقف سارتر من الاحتلال الفرنسي للجزائر من جهة، والاحتلال الصهيوني لفلسطين من جهة ثانية. ولعل المفارقة، بتعبير سعيد نفسه، تكمن في أن ازدواجية سارتر خالفت بديهيات المنطق السياسي في تلك المرحلة. بعبارة أخرى، كان أسهل على سارتر، بوصفه فرنسي الجنسية، نقد الصهيونية من دعم الثورة الجزائرية. على أقل تقدير، كان يتوقع من سارتر أن يتخذ موقفاً أكثر تناسقاً، لا سيما أن القضيتين تتقاطعان إلى حدّ يجعل من ازدواجية سارتر أقرب إلى الشيزوفرينيا الأخلاقية منها إلى المنطق السياسي. ويروي سعيد، كيف ذهب سارتر في ذلك اليوم إلى مديح الرئيس المصري أنور السادات، في تكرار لواحدة من أكثر الكليشيهات الليبرالية سذاجة في ذلك الوقت. نتذكر أن ذلك اللقاء الباريسي، الذي انعقد على هامش مؤتمر حول الشرق الأوسط، تزامن مع توقيع معاهدة كامب ديفيد، وصدور كتاب الاستشراق في آن واحد. بنظرة استرجاعية، كان يفترض أن يتخذ اللقاء، من وجه نظر سعيد على الأقل، منحى المثقف العضوي الذي بشر به أنطونيو غرامشي في دفاتر السجن، وراهن على تحرره من هيمنة المؤسسة الليبرالية والبرجوازية السياسية السائدة.
النخبة السياسية العربية قلبت معادلة سارتر رأساً على عقب: فلسطين مقابل الاستبداد، مقابل الطائفية، مقابل كل القضايا
محاولة لتفسير حماس سارتر للثورات الشعبية في الجزائر وفيتنام وكوبا، في مقابل موقفه من فلسطين ودعمه للصهيونيةسارتر الشاب، ورغم سيطرة النزعة الفردانية على أعماله الأولى، كان يبشّر بذلك المثقف على طريقته الخاصة، أو طريقة "الآخر هو الجحيم". نتذكر أن سارتر الثوري، إذا جازت التسمية، لم يفوت على نفسه فرصة اصطحاب دي بوفوار إلى كوبا للقاء فيدل كاسترو وتشي جيفارا بعد عام على الثورة الكوبية.
جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار يلتقيان تشي جيفارا في كوبا 1960 سارتر العجوز كان يتذبذب بين النموذجين: كاسترو والسادات. والمفارقة أن سارتر، الذي كان اعتذر عن قبول جائزة نوبل للآداب عام 1964، لم يتردد في تسلم جائزة شرفية من سفارة إسرائيل في باريس عام 1976.
كيف نفسر إذن هذا التناقض المفزع لدى مؤسس الوجودية الفرنسية؟
الحكمة السائدة هي أن سارتر وقع ضحية العقدة الأوروبية تجاه الكارثة اليهودية، وانتشار اللاسامية في أوروبا القرن العشرين. سارتر، وعلى غرار غيره من مثقفي ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يعاني من أزمة ضمير جماعية. إذ ما كاد ذلك المثقف يزحزح عن كتفيه عبء التجربة الكولونيالية، حتى دخل في مواجهة أخرى مع الفاشية والنازية، رغم أن فرنسا كانت ضحية النازية بصورة أو بأخرى. بعبارة أخرى، لم تكن مفارقة فلسطين سوى مناسبة لاستعادة شيء من التوازن الأخلاقي في نفس المثقف الباريسي والنخبة الفرنسية. يروي سعيد كيف اختلف جيل ديلوز مع ميشيل فوكو حول قضية فلسطين، رغم انسجام الاثنين فكرياً تجاه كل القضايا الأخرى، وقضية الجزائر تحديداً. ويبدو أن سعيد وجد صعوبة في الموازنة بين دعم فوكو لإسرائيل من جهة، وحماسه الثوري للثورة الإسلامية في إيران من جهة أخرى. وهو موقف لا يختلف كثيراً عن حماس سارتر للثورات الشعبية في الجزائر وفيتنام وكوبا، في مقابل دعمه للصهيونية، (إلا إذا افترضنا أنّ سارتر كان ينظر إلى الصهيونية من المنظور الثوري نفسه، وهي قضية أخرى). نحن إذاً أمام أزمة جيل منقسم على ذاته، عقدة جماعية ذات بعد سيكولوجي، أو بعبارة أكثر دلالة، سيكوسياسي. سارتر، وسيراً على وجوديته المتفائلة إلى حدّ السذاجة، أراد على ما يبدو أن "يقايض" الجزائر بالقضية الفلسطينية. بنظرة أكثر بانورامية، أراد سارتر، بوعي أو دون وعي، أن يخلق نوعاً من التوازن في يساريته المطلقة، ولا سيما في سياق موقفه المتذبذب من الستالينية. كان ألبير كامو صوّب ضربة قاضية إلى معسكر سارتر في كتابه "المتمرد"، قبل أن يعود سارتر ويعلن براءته من ستالين بعد الغزو السوفياتي للمجر عام 1956. يبدو أن كامو وجد صعوبة هو الآخر في تأويل سكوت سارتر عن معسكرات الاعتقال السوفياتية في مقابل إدانته للمعسكرات النازية. بطبيعة الحال، ليست عقدة المقايضة حكراً على النخبة الفرنسية المثقفة في النصف الثاني من القرن العشرين. فالنخبة السياسية في العالم العربي، وخلال أكثر من خمسين عاماً، قلبت معادلة سارتر رأساً على عقب: فلسطين مقابل الاستبداد، فلسطين مقابل الطائفية، فلسطين مقابل كل القضايا العربية. بعبارة أخرى، يجمع المثقفون العرب على القضية الفلسطينية كي يختلفوا على كل قضية أخرى، من خيار الدولة القومية حتى الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية. نحن إذن أمام سيناريو قديم في حبكة جديدة. ولعلنا، رغم التعارض الظاهري في وجهة المقايضة، لا نحتاج إلى كثير من التأويل كي ندرك أن فلسطين في المثال العربي، ليست سوى المعادل الموضوعي لعقدة سارتر. ومع ذلك، يبدو أن المثقف العربي قد تلقف أزمة سارتر دون بعدها الدرامي أو التراجيدي. المثقف العربي أخذ الأثر وترك المؤثر، وهذا ما يجعل من تجربة المثقف الفرنسي أكثر صدقاً ودلالة من تجربة نظيره العربي في نهاية الأمر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه