العقاب الجسدي للمُدان من قِبَل السلطة، بقتله أو تعذيبه هو انتهاك للجسد.
حتى في صورته الأكثر رحمة وهي السجن، قد يؤدي إلى المزيد من العنف، حسبما أوضحت دراسة أمريكية حديثة بعنوان " A natural experiment study of the effects of imprisonment on violence in the community"، والتي أعدها باحثون متخصصون في علم النفس، والاجتماع، والسياسة، والصحة، هم: David J. Harding، Jeffrey D. Morenoff، Anh P. Nguyen، Shawn D. Bushway، Ingrid A. Binswanger.
حيث بيّنت الدراسة أن السجن لا يحدّ من العنف في المجتمع، بل إن السجناء غير المدانين بجرائم عنف، قد يرتكبون جرائم عنف بعد خروجهم من السجن.
إذا، فما هي وسائل العقاب الأكثر إنسانية، والتي تحافظ على المجتمع في نفس الوقت؟
سؤال يتبادر إلى الذهن، ولا يمكن الجزم بإجابة محددة عنه، ولكن ربما تكون الإجابة في استعراض لمجموعة من العقوبات غير الجسدية، مورست بين أزمنة مختلفة، وموجود بعضها في عصرنا الحالي، وانتشرت بين حضارات مختلفة، منها الحضارة الإسلامية نفسها، التي شرّعت القتل وقطع اليد والجلد والرجم.
من حمورابي إلى الأمازيغ.. الأموال كعقوبة
في العراق القديم، شملت قوانين حمورابي تعويضات وغرامات مالية كواحدة من العقوبات التي أقرّتها القوانين. وضمن الحالات التي توجب الغرامة هي إصابة آخر بعاهة في عينيه أو عظامه، حيث كان الجزاء هو دفع مبلغ من العملات الفضية إذا كان حراً، ونصف هذا المبلغ إذا كان عبداً.
كذلك كان الأمر في حال السرقة، حيث يجبر السارق على رد ما سرقه مضاعفاً 30 مرة، إذا كان المسروق هو القصر الملكي، أما إذا كان المسروق من عامة الشعب فيرد 10 أضعاف ما سرق منه، بحسب ترجمة محمود الأمين لشريعة حمورابي.
وتتشابه هذه العقوبة مع عقوبة الدية في الإسلام، بدفع مبلغ مالي لأهل القتيل مقابل التنازل عن القصاص من القاتل.
وبين أمازيغ المغرب، وتحديداً بمنطقة جزولة، طوّر شيوخ الفقه المالكي نظاماً عقابياً يتبنى العقاب الاقتصادي، في دمج بين الشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية القبلية، في الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين، حيث دوّنوا قوانين سميت بـ"الألواح"، حسبما رصد الباحث محمد عبد الوهاب رفيقي، في دراسة بعنوان "الأعراف المحلية كمدخل لتطبيق القوانين".
خلال هذا النظام استُبدلت العقوبات الجسدية، كالإعدام وقطع اليد، بعقوبات مالية. فمثلاً كان يُحكم على السارق بأداء ما سرقه بالإضافة إلى تغريمه بغرامتين ماليتين، واحدة لشيخ القبيلة والأخرى للمجني عليه، وكذلك الأمر في القتل العمد.
ضمن العقوبات الاقتصادية تتجلى مصادرة الأموال، وكانت شائعة في عهود إسلامية مختلفة، منها العهد العباسي، حيث صودرت أموال وزراء ومسؤولين، كالوزير أبو الحسن بن الفرات، الذي أطاح به الخليفة المقتدر بالله وصادر أمواله، حسبما يذكر ابن مسكويه في تاريخه.
وفي العصر المملوكي شاعت مصادرة أموال الأمراء والتجار، حتى كانوا يحتاطون دائما ويخزنون الجواهر النفيسة في مخابئ سرية، حسبما يذكر ابن إياس في تاريخه.
الحرمان من الحقوق السياسية
في القرن الخامس قبل الميلاد، وضع سولون، مشرِّع أثينا الشهير، قوانين عززت سلطة الشعب وكرست لفكرة الديمقراطية، ونسبت القوانين إليه وسميت "قوانين سولون".
ضمن العقوبات التي وضعها سولون كانت "الحرمان من الحقوق السياسية"، وكانت تستخدم في حالات كثيرة، منها الإهمال السياسي والإداري بل والاجتماعي. وكان يجوز رفع الدعوى القضائية في هذه الحالات من قبل أي من مواطني أثينا، ضد من يرى أنه مهمل، حسبما يذكر ألفرد زيمرن في كتابه "الحياة العامة اليونانية".
هذه العقوبة لازالت موجودة في زماننا، وإن كانت تستخدم غالباً في ظروف خاصة، ضد جماعات سياسية معينة، كحظر جماعة الإخوان في مصر، أو الحزب النازي في ألمانيا.
وكذلك قد تتقاطع هذه العقوبة مع الشريعة الإسلامية، التي قد تحرم سيئي السمعة المدانين في قضايا تتعلق بشرفهم، من الإدلاء بالشهادة أمام المحكمة، أو أن يكونوا ضمن أهل الحل والعقد المنوطين بمبايعة الحاكم.
من قناع العار إلى الطرطور.. التجريس بين العرب وأوروبا
من العقوبات الشهيرة عند عرب الجاهلية وكذلك عرب ما بعد الإسلام كانت "التجريس"، بإذلال المذنب والتشهير به اجتماعياً، بوسائل مختلفة. هذه الوسائل تشابهت مع أخرى في حضارات مختلفة.
ففي الجاهلية كان ضمن العقوبات ما عرفت بـ"راية الغدر" التي ترفع للمذنب في مكان عام، وبخاصة السوق، وتصحبها خطبة يُفضَح بها المذنب، وتوصية بعدم التعامل معه بأي شكل من الأشكال، حسبما جاء في مصادر مختلفة كـ "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" لسعيد الأفغاني.
وبعد الإسلام كانت هناك أساليب مختلفة للتجريس، منها ركوب المتهم على حمار ووجهه إلى الخلف، مع إلباسه قبعة شكلها مضحك (طرطور)، والطواف به في المدينة ومن خلفه ومن حوله الصبية والأطفال يسخرون منه ويهينوه. كذلك كان يمكن أن يُؤمَر المتهم بالاعتراف بجريمته علناً أمام الناس، بحسب المتواتر في المصادر، ومنها دراسة ليحيى بن حسين النونو، بعنوان "نظام الحِسْبَة عند الزيدية: دراسة مقارنة بالمذاهب الأربعة".
في حضارات أخرى كانت هناك عقوبات تجريسية شبيهة، كـ"عمود التشهير" في فرنسا الملكية، والذي تحدث عنه كلاً من فولتير في "الرسائل الفلسفية"، وفيكتور هوجو في "أحدب نوتردام"، حيث كان المتهم يقف على منصة خشبية وحوله حشد من الناس ليهينوه.
كذلك استخدمت أقنعة العار في أوروبا خلال القرون الوسطى، حيث كانت تشكل أقنعة حديدية مضحكة، ومهينة لمن يرتديها، تشكل ملامحها من ملامح الحيوانات، كأذن الحمار، ومنخار خنزير وأشياء من هذا القبيل. ويُجبَر المذنب على لبسها والطواف بها بين الناس.
تحديد الإقامة داخل الوطن، النفي، التفريق بين الزوجين، المنع من الإدلاء بالشهادة في المحكمة، فرض غرامات مالية... عقوبات اتبعتها الشعوب العربية كبديل للإيذاء الجسدي
الحرمان من الزوجة والزواج
في شريعة حمورابي شرعت عقوبة التفريق بين الزوج وزوجته إذا ما ثبت أنه أهان بلدته. ونفس العقوبة موجودة في الشريعة الإسلامية، التي تقضي بالتفريق بين الزوج وزوجته، إذا ارتد الزوج عن الإسلام.
ولدى عرب الجاهلية، كان المحتسب يعاقب من اتهم بالغدر بشريكه التجاري، بالحكم بمقاطعة المجتمع له، ومنع القبيلة من تزويجه بإحدى بناتهن.
كذلك كانت مقاطعة قريش لبني هاشم اقتصادياً واجتماعياً، عقاباً لهم على مساندة ابنهم النبي محمد في دعوته للإسلام، نوع من هذه العقوبات.
النفي وتحديد الإقامة
النفي عقوبة قديمة استخدمت لدى الفراعنة والإغريق، وعرب ما قبل الإسلام، وحضارات أخرى، وظلت عقوبة شائعة حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث.
وفي فترة الاستعمار الأوروبي للعالم العربي، كثيرا ما نفي زعماء سياسيون إلى خارج أوطانهم، ومنهم الزعيم المصري سعد زغلول، والأمير عبد القادر الجزائري، والزعيم المغربي محمد عبد الكريم الخطابي، والسوري الشيخ رضا العطار، وغيرهم.
أحياناً كان يتم النفي داخل الوطن ولكن في مناطق نائية، كالزعيم المصري عمر مكرم الذي أمر حاكم مصر محمد علي باشا، بإبعاده عن القاهرة إلى دمياط، حسبما هو شائع في المصادر.
أحياناً كان تحديد الإقامة داخل الوطن عقوبة، حتى عصور قريبة جداً في العالم العربي، فنذكر مثلاً تحديد إقامة الرئيس المصري الأسبق محمد نجيب في قصر زينب هانم الوكيل بمنطقة المرج شمالي القاهرة، بعد الإطاحة به من الحكم، وظل به طيلة حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
وفي تونس وضع الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة تحت الإقامة الجبرية في قصره بالمنستير. وكشفت وثائق أن الزعيم التاريخي لتونس حاول الانتحار أثناء إقامته الجبرية التي امتدت حتى وفاته عام 2000.
ما حدث مع بورقيبة كان قد فعله هو نفسه مع حاكم التونس الأسبق محمد الأمين باي، الذي أطاح به بورقيبة ووضعه تحت الإقامة الجبرية في قصر الهاشمي غربي العاصمة، وظل به حتى توفي عام 1962.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.