يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
ارتبطت وهران تاريخياً بالبحر الذي تدفق فيها، بما جعل صياغتها تهجيناً خلاقاً، وتواجه الآن عواقب ما أنذر منه ألبير كامو عندما أشار إلى أنها تدير ظهرها للبحر، وتواجه ذلك بتمدّد عمراني يحجب ويمسح واجهتها البحرية.
أماكن كثيرة كانت مشحونة بالتاريخ تعرضت للطمس، فضاعت شواهدَ إرث لن تعوّض، لاسيّما حي "سيدي الهواري"، أعرق أحيائها، وهو الحي المتاخم للميناء والمحتضن لمعالم تعود إلى عهد الاحتلال الإسباني. في هذا المقال نتسكّع في هذا الحيّ وبعض شوارع وهران التي قد يشحبُ لونُها بمرور الوقت، لكنّ ذاكرتها تبقى ناصعة.
حيّ سيدي الهواري، مرجعية وهران
ترتبط وهران بشخصية "سيدي الهواري"، وهو شخصية صوفية عاشت في قرني الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. و يحمل الحيُّ الذي عاش فيه اسمَه، وهو الحيّ الذي يعتبر نواة المدينة ومرجعها. وظاهرة الاقتران بالأولياء تنتشر في كثيرٍ من المدن والقرى الجزائرية.
في حيّ سيدي الهواري، الكثير من المعالم تعرّضت إلى التبديد خصوصاً في جزءٍ كان يسمّى "لاكالير"، وقد تعرّض للهدم في ثمانينيات القرن الماضي، وكان التدمير جريمة استئصال الذاكرة بمحوِ المعالم، ويشعر بالفظاعة من عاشوا في فترات سابقة، وعايشوا أجواءً جعلتْ ذكرَ وهران مقترناً بالبهاء.
وقد تبقّى من المدينة القليلُ الحامل لذاكرة قرون، خصوصاً ما يتصل بفترة الاستعمار الإسباني التي دامت أكثر من ثلاثة قرون. ومن المعالم المتبقية، "قصر الباي"، وهو قصر توالت عليه فترات مختلفة تعود إلى العهد المريني. كما يوجد في الحيّ مقرّ العمالة (الولاية) في العهد الفرنسي، و هناك حديقة "ليتونج" التي زرعت بأنواع مختلفة من النباتات، وتطلّ على البحر، وتُعتبر من أهمّ المنتزهات، وقد سميت نسبةً إلى الجنرال "جورج ليتونج" الذي انطلق في إنجازها، وتمّ تصنيفها كمَعلم تاريخي عام 1932.
يمثّل الحيّ نموذجاً مكثفاً لما يمثّل الحالة الوهرانية بكلّ خصوصياتها؛ في هذا الحيّ ذاكرة تعايش وتمازج، ذكرتْ بعضُها الروائية فاطمة بخاي في روايتها "سكاليرا ". كما أن الحيّ هو الرابط بين المدينة ومينائها وجبلها، وفي دروبه توقيعات التاريخ الحاضرة في ما تبقّى من بنايات؛توقيعات نرصدها في أحاديث شيوخ يتحدثون الإسبانية بطلاقة، ونرصدها في إيقاعات موسيقى جامعة بين ما يشكل مكونات الهوية الجزائرية.
حيّ الدرب
وفي جوار سيدي الهواري يوجد حيّ الدرب الذي اقترن ذكرُه غالباً بتاريخ الجالية اليهودية التي أقامت فيه منذ موجات الوافدين هرباً من إبادة محاكم التفتيش عقب سقوط الأندلس. في هذا الحيّ ذكريات فنانين كبار كالمغنية "رينيت الوهرانية" وبجواره اشتهرت المغنية المعروفة باسم "الريميتي"، وهو حيّ كان ينبض بحيوية سوقه ومخابزه التقليدية.
تعرّض الحيّ لتوصيفات قادحة بسبب وجود أكبر ماخور بالجهة فيه؛ ماخور تعدّت شهرته حدود الولاية ووظّفه الروائي الجزائري أمين الزاوي في روايته "غزوة"، ولقد استعاد حضوره درامياً في مسلسل صنع الحدث في الموسم الرمضاني وقد أنصف الحيّ؛ مسلسل "أولاد الحلال" الذي تدور أحداثُه بالحيّ المذكور. ومن هذا الحيّ انطلقت "الشابة فضيلة" و"الشابة خيرة" أهمّ الأسماء النسوية في أغنية الراي.
ونظراً لزخم هذا الحيّ، كان يشكّل بالنسبة للمسرحيّ الراحل "علولة"، مصدرَ رصدٍ واستلهام، فكان دائمَ الجلوس في مقاهيه لتسجيل ما يسمعه من عبارات.
نهج الصومام
من أبهى وأروع شوارع وهران هو شارع "الصومام" أي كما يُطلق على الشارع هناك "نهج" الصومام الذي حافظ على خصوصيته رغم ما طرأ على المدينة من تحولات حملت التشويه. يحمل النهج اسماً يحيل إلى منطقة في منطقة القبائل، وبالتحديد في ولاية بجاية؛ منطقة احتضنت مؤتمراً خلال الثورة شكّل منعرجاً حاسماً، ومنطلقَ صراعٍ لا زال مستمراً.
في نهج الصومام يقع فندق "الروايال"، أرقى فنادق وهران الذي حاول صاحبه الاستيلاء على عمارة في نفس النهج، فتحرّك سكّانها ودخلوا معه في معركة يمكن اعتبارها من المعارك التي صاغت حراك 22 فبراير/شباط.
تقع في نهج الصومام حانة ومقهى "سنترا" التي تحوّلت إلى مطعم، وفي فضائها كان ألبير كامو يجلس ليكتب صفحات من روايته الشهيرة "الطاعون"
وفي النهج أيضاً حانات ومطاعم لها سمعتها كحانة "ليالي لبنان" ومطعم "الجزائر"، وأيضاً مقرّ غرفة التجارة والصناعة، ومقرّ بنك الجزائر، و هو البنك المركزي، وهناك أيضاً مقرّ القنصلية الفرنسية. لكن الأهمّ ربما هي حانة ومقهى "سنترا" التي تحوّلت إلى مطعم، وفي فضائها كان "كامو" يجلس ليكتب صفحات من روايته الشهيرة "الطاعون". كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، وفراراً من مطاردة النازيين لجأ كامو إلى وهران في غرب الجزائر، وهو من مواليد أقصى شرق الجزائر أي مدينة الدرعان.
رغم التوسّع العمراني الذي أنتج تشكّل تجمّعات جديدة، بعضها صار مزخرفاً بخواء، وبدون حسّ عمراني حضاري وحضري، استمرّ نهج الصومام محافظاً على روعة معمارِه وجاذبيته التي لا تقاوم. وما يضاعف من أهمّيته أيضاً وجوده كبرزخٍ رابط بين أهمّ شوارع وهران، وخصوصاً التي تعرف إقبالاً كثيراً، كساحة "أول نوفمبر" ونهج "الأمير عبد القادر" وجبهة البحر.
شارعا الطّواف الوهراني
شارعان في وسط المدينة هما مقصد المتجولين من أبناء المدينة ومن زوّارها، يشكلان "صفا ومروة" وهران؛ شارع "محمد خميستي"، وشارع "العربي بن مهيدي" الذي توجد به أهمّ قاعات العروض السينمائية؛ قاعات احتضنت أحداثاً وحفلات مرسخة في الذاكرة، كحفلات مطربين كبار من أمثال "جوني هاليداي" و"عبد الهادي بلخياط"، وأمسيات شعراء كنزار قباني.
وكانت توجد مقاهٍ احتضنت مثقفين وفنانين، بعضها زال كمقهى "المنصورة"، ويستمرّ تواجد البقية، ولكنه بدون زخم الماضي كمقهى "كليشي" الذي كان يجلس فيها ألبير كامو أيضاً. وقريباً من الشارع يوجد مقهى "بون بون" الذي يُعتبر ملتقى لبعض نشطاء المجتمع المدني، ولشباب الحراك والمناضلين الديمقراطيين.
في شارع العربي بن مهيدي توجد قاعات احتضنت أحداثاً وحفلات مرسخة في الذاكرة، كحفلات مطربين كبار من أمثال "جوني هاليداي" و"عبد الهادي بلخياط"، وأمسيات شعراء كنزار قباني
وفي هذا الشارع كان مركز تابع للجامعة لعب دوراً كبيراً في الديناميكية الثقافية خلال ثمانينيات القرن الماضي؛ "مركز الكريديش" الذي احتضن ملتقيات ولقاءات مع قامات كـ"جاك بيرك" وأحمد فؤاد نجم وبرهان غليون وغيرهم.
يوجد أيضاً في الشارع متحفُ السينما الذي كان فضاء إشعاع استثنائي وقطب نقاش حول التجارب السينمائية المختلفة، من يوسف شاهين المصري إلى كوبولا الأمريكي، ومن بيرغمان السويدي إلى هوندو الموريتاني. كما يوجد في الشارع مقرُّ المركز الثقافي الفرنسي، ومكتبة "صوفيا" التابعة للكنيسة، والتي تبرمج دورياً مثل مثيلتها الموجودة قرب الشارع والحاملة لاسم "ابن خلدون" نقاشات ومحاضرات ولقاءات علمية وفكرية.
أما شارع "محمد خميستي" فله أيضاً ذاكرته وأجواؤه. كان هذا شارع نموذجاً للأناقة والتحضر؛ يحتضن سوق "ميشلي"، أحد الأسواق المحورية في المدينة، والتي كانت جاذبة لميسوري الحال. يوجد بجوار السوقِ مقرُّ جمعية علمية من الزمن الكولونيالي، أي "جمعية الجغرافيا والآثار" التي كانت ممتلكة لرصيد نفيس من الوثائق.
وفي الشارع تنتشر مقاهٍ، منها مقهى يستقطب سماسرة تجارة السيارات، و يمتدّ الشارع إلى ساحة تحتضن المقر المركزي للبريد الذي شهد عام 1949 عملية سطوٍ نفّذها مناضلون وطنيون من بينهم الرئيس الأسبق بن بلة، والزعيم الراحل حسين أيت أحمد، و كان ذلك في إطار التحضير للثورة التي اندلعت في 1 نوفمبر 1954.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...