شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كشف ضياع الفنانين وأغضب

كشف ضياع الفنانين وأغضب "الضباط الأحرار"… رائد الفيلم الغنائي أحمد بدرخان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 23 سبتمبر 201906:53 م

بينما كان العالم يحاول الاستفاقة من تبعات الحرب العالمية الأولى، كان المخرج المصري أحمد بدرخان (1909-1969) طفلاً يستكشف المحيط الخارجي، وقد وقعت عيناه على الصعلوك ذي البنطلون القصير والحركات البهلوانية، فتعلق به، وأراد أن يصبح ممثلاً مثله، شارلي شابلن.

لكن مع تعمق الشاب الوسيم في دراسة فن السينما حديث الولادة، واكتشافه لكيفية صناعة الأفلام، عرف طريقه إلى مقعد المخرج.

شخصيته التي مالت إلى الهدوء والرومانسية، وهواياته المرتبطة بالشعر والموسيقى، وانفتاحه الثقافي على السينما العالمية، كانت كلها عوامل أسهمت في تشكيل ملامح مشواره الفني، الذي سيطر عليه الفيلم الغنائي، حتى أصبح من رواده في العالم العربي، ساعياً إلى مناقشة أفكار وقضايا شديدة الخصوصية.

يكتب أحمد بدرخان، في (كتاب السينما) الصادر عام 1936، قبل خوض أولى تجاربه الإخراجية: "الفيلم المصري لن تقوم له قائمة، إلا إذا عبر عن الروح المصرية الصميمة التي تختلف اختلافاً بيّناً عن الروح الأمريكية أو الفرنسية أو الألمانية، أعني الأجنبية بوجه الإطلاق... وقد لوحظ أن الأجانب الذين يعهد إليهم بإخراج أفلام مصرية يشوهون هذه الأفلام، فتظهر معدومة من الصبغة المحلية لا لون لها ولا جنسية...".


صناعة الفيلم الغنائي

اشتهر أحمد بدرخان بتكوين ثنائيات سينمائية مع عددٍ من أهم مطربي العالم العربي، وعلى رأسهم أم كلثوم التي جمعت بينهما الأقدار منذ البداية. فقد كان من المقرر أن يصبح (وداد-1936)، أول أفلامه الروائية الطويلة وأولى بطولاتها المطلقة في السينما، لكن الظروف حالت دون إسناد المهمة له، فقررت كوكب الشرق أن تعيد له اعتباره ومنحته فرصة إخراج فيلمها الثاني (منيت شبابي-1937) ليكون بدايته الحقيقية.

 "الفيلم المصري لن تقوم له قائمة، إلا إذا عبر عن الروح المصرية الصميمة التي تختلف اختلافاً بيّناً عن الروح الأمريكية أو الفرنسية أو الألمانية" أحمد بدرخان

وعلى مدار 4 أفلام، استطاع بدرخان أن يقدّم أم كلثوم بصورٍ مختلفةٍ داخل أطر زمانية ومكانية متنوعة، محاولاً تحقيق نوعٍ من التوازن بين موهبتها الغنائية الطاغية وقدراتها التمثيلية الأقل جودة. ويعتبر فيلم (عايدة-1942) أكثر أفلامهما جرأة من حيث الشكل والمضمون، بالرغم من فشله الذريع وقت عرضه. ففي هذا الفيلم، تتخلى أم كلثوم عن تحفظها الذي سيطر على أفلامها الأولى، فنراها فتاة جميلة مقبلة على الحياة، تغني وتتمايل مع صديقاتها في معهد الموسيقى، وتشدو مع حبيبها على عربة حنطور عن حرية الاختيار والاستقلالية. كما وظف بدرخان أغاني الفيلم ضمن سياق درامي واضح دون إقحام، وعمل على تقديم أوبريت ضخم ذي لمحة تجريبية يجمع بينها وبين المطرب إبراهيم حمودة.

أم كلثوم في "عايدة" تتخلى عن تحفظها، جميلة، مقبلة على الحياة، تغني وتتمايل

يوضح الناقد السينمائي سمير فريد، قيمة الفيلم في دراسة صدرت عام 1992،  واقتبستها "موسوعة السينما": "ترجع أهمية فيلم عايدة إلى أنه يتضمن أول وآخر محاولة حتى الآن لصنع أوبريت عربي عن أوبرا عايدة، وهي أوبرا مصرية من حيث موضوعها وإنتاجها... ولكن حتى هذا الأوبريت تعرّض للحذف بعد عرض الفيلم وبقي منه أقل من ربع زمنه الأصلي.... لقد تم تشويه عمل تجريبي رائد، بقصد إنقاذ الفيلم من الفشل الجماهيري، فكانت النتيجة تشويه العمل، وعدم الحصول على النجاح الجماهيري في الوقت نفسه".

كان أحمد بدرخان كاتباً يحرر قسم السينما في مجلة "الصباح"، وشاعراً ينظم أغاني أفلامه، ومنظراً سينمائياً يعرف أساسيات الصناعة

فتحت السينما أبوابها أمام المطربين الذين أدركوا حتمية الوصول لقطاع أكبر من الجمهور بدلاً من الاكتفاء بالإذاعة والمسرح، مع حلول أربعينيات القرن الماضي.

قدَم بدرخان في بداية هذه الحقبة فيلم (انتصار الشباب-1941) الذي يعتبره كثيرون نقلة في الفيلم الغنائي، نظراً لنجاحه الكبير في شباك التذاكر.

كانت المرة الأولى لفريد الأطرش وشقيقته أسمهان على الشاشة الفضية، ليقدما معاً حكاية قريبة من قصتهما الحقيقية. حيث شقيقان يهبطان على مصر، بحثاً عن الرزق والشهرة، ولكن يواجهان الكثير من المتاعب ويختبران مشاعر الحب والظلم والمعاناة حتى يصلا إلى مرادهما في نهاية المطاف.

تضمن الفيلم 13 أغنية مقدمة في قوالب فنية مختلفة، تتلاحم مع النسيج الدرامي، بل وتصرف الانتباه عن كمِّ المصادفات والأحداث السريعة غير المبررة، ويحسب لبدرخان تقديم لمسة كوميدية واستعراضية من خلال الثلاثي المضحك (جوز ولوز وبندق)، الذين يعتبرون صورة مشابهة لما سيعرف فيما بعد بفرقة ثلاثي أضواء المسرح. وقد كان هذا الفيلم نقطة الانطلاق لمجموعة من الأفلام اللاحقة بين بدرخان والأطرش، غلب عليها الطابع الكوميدي، وطغت عليها الأغاني والاستعراضات المتميزة مثل (آخر كدبة-1950) و(لحن حبي-1953) و(إزاي أنساك-1956).

ومع اكتساب ثقل في هذا النوع الفيلمي، تمكن بدرخان من اكتشاف مطربين يتمتعون بموهبةٍ تمثيليةٍ عالية، دون أن يرتبط ظهورهم على الشاشة في كل مرة بوجود أغنية، مثل المغني والموسيقي محمد فوزي، الذي منحه دوراً مؤثراً في أحداث فيلم (قبلة في لبنان-1945). حيث جسّد شخصية رجل ينجذب إلى امرأة جميلة في لبنان، وينسجمان معاً، لكنها تهرب منه وتعود إلى مصر، وبعدما يعثر عليها يكتشف أنها أخفت زواجها عنه.

بعد نجاح التجربة، قرر بدرخان أن يستثمر نجاح فوزي في فيلمين آخرين هما (مجد..ودموع -1946) و(قبلني يا أبي-1947)، كانت بطلتهما أمامه نور الهدى، ليكوّنا ثنائياً جذاباً وممتعاً على الشاشة.

محرر صحفي وكاتب أغاني

ينتمي بدرخان إلى نوعية الفنانين متعددي المواهب، فهو لم يكن مجرد صانع أفلام ماهر، بل كان كاتباً يحرر قسم السينما في مجلة "الصباح"، وشاعراً ينظم أغاني أفلامه، ومنظراً سينمائياً يعرف أساسيات الصناعة، ويدرك الفروق بين الوسائط الفنية المختلفة. لذلك، وهب حياته دفاعاً عما يحب، وانشغل بالتعبير عن قيمة الفن، في ظل مجتمع لا يحترمه ولا يعترف بشهادة العاملين به في المحاكم.

في فيلمه الأول، أحب بدرخان أن يعطي الجمهور العادي صورة حقيقية عن طبيعة العمل في ستوديو مصر، المشروع السينمائي الذي ساهم في تأسيسه. فقدم مشاهد توضح كيفية اختيار الممثلين، ومهام السيناريست والمخرج، وما يحدث داخل موقع التصوير. وبالطبع لم يخل السيناريو من مواقف وأحداث توضح صعوبة العمل في السينما، والتضحيات التي يقوم بها الفنان حتى يستمر في إشباع موهبته.

وعلى مدار السنوات، استمر المخرج الكبير في الغوص داخل عالم الفن وتقديم الكثير من مشاكله وأزماته على الشاشة. منها على سبيل المثال فيلم (مجد..ودموع) الذي يحكي قصة مطربة شابة تعاني من الفقر والحاجة، ترتبط بعلاقة عاطفية مع شاب يحاول الاعتناء بها ودفعها لاستثمار موهبتها، لكن يفرّق بينهما رجل ذو سلطة لرغبته فيها. تبدأ المطربة في صعود سلم المجد والشهرة، وتغريها النفوذ والنقود، لكن تكتشف أنها تعيش في هالة زائفة، بعدما تخسر كل شيء.

يكشف بدرخان في "مجد ودموع" تردي أوضاع الموهوبين، وعجزهم عن توفير احتياجاتهم، واستغلال الأثرياء للفنانات

هنا يعرض بدرخان مدى تردي أوضاع الموهوبين وعدم قدرتهم على توفير احتياجاتهم الأساسية. ويكشف أيضاً عن رغبة بعض أصحاب الأموال في استغلال الفنانات، ويتعرّض إلى الصراعات الدائرة بين المغنيات على الفرص الكبرى. ولكن نظراً لأنه يعرف جيداً قيمة ما يفعله، تأتي النهاية متوافقة مع وجهة نظره المقدرة للفن. فعندما تبتعد المطربة عن حياة السهر والصخب، وتركز على التدريبات الصوتية، وتتعاون مع حبيبها الشاب الذي يجيد التأليف الموسيقي، في تقديم أوبريت استعراضي جيد، يتمكنان من تحقيق النجاح.

كما أنه لم يكن غافلاً عن موقف بعض الطبقات من الفن، لذا ركّز في عددٍ من أفلامه على أزمة زواج أحد الارستقراطيين من فنانة، مثل (انتصار الشباب) و(قبلني يا أبي) و(عايزة أتجوز)، منتصراً في كل مرة لأحقية الجميع في عيش حياة هانئة.


"الله معنا" أغضب "الضباط الأحرار"

بالرغم من ميل بدرخان إلى تقديم الأفلام الغنائية والاستعراضية، فإنه لم ينعزل عما يحدث على أرض الواقع. فبعد سنوات عايش خلالها الحربين العالميتين تحت حكم استعماري، رغب في أن يصنع أعمالاً ذات طابع سياسي، تعكس مواقفه وآراءه الخاصة دون النظر لأي اعتبارات أخرى.

فكر في صناعة فيلم يمجد مسيرة الزعيم المصري مصطفى كامل، الذي ترك أثراً كبيراً في نفوس جيل بدرخان. وأمام خذلان المنتجين الذين لم يتحمسوا لمشروع سينمائي لا يمتلك مقومات النجاح التقليدية، قرر أن ينتجه على نفقته الخاصة، مُصراً على إنجازه. لكن رقابة الحكم الملكي منعت عرضه، ولم يخرج للنور إلا بعد قيام ثورة يوليو عام 1952.

ومع أن الثورة أنقذت حلمه الأول، فيلم الزعيم، فإنها عطلت حلمه الثاني الذي حمل اسم (الله معنا). يحكى الفيلم قصة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، وصولاً إلى استيلاء تنظيم الضباط الأحرار على الحكم. وقد تم منعه من العرض لمدة 3 سنوات، خوفاً من تعاطف الجمهور مع الملك فاروق، إلى جانب الاعتراض على تعظيم دور اللواء محمد نجيب في الثورة. حتى شاهده الرئيس عبد الناصر، وصرح بعرضه عام 1955، بحسب ما ذكر الناقد السينمائي علي أبو شادي، في كتاب (وقائع السينما المصرية).

في النهاية، عاد المخرج إلى نوعه السينمائي المفضل، واستمر في عمله حتى رحل قبل مشاهدة فيلمه الأخير (نادية-1969)، تاركا خلفه بصمات لا تخطئها العين محفورة في ذاكرة السينما العربية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image