سعياً لتحويل المناطق الحدودية في غزة، من مناطق ساخنة وخطرة عسكرياً، إلى مناطق تنبض بالحياة ومظاهرها، عبر كسر حاجز الخوف، والبدء بزراعتها ببعض المحاصيل التي استطاعت أن تكفي غزة، وتوقفت عن استيرادها من الاحتلال، بل وأصبحت تورّد له أيضاً.
زراعة أراض حدودية، خطوة انطلقت بمبادرة من خمس فتيات، ثم بدأت تتوسع حتى أصبح عدد المزارعات ثلاثين امرأة.
كانت الانطلاقة من شرق بلدة خزاعة، على الحدود الشرقية لمدينة خانيونس، جنوب قطاع غزة، وشهدت هذه البلدة عدة معارك، خاصة في مسيرات العودة الكبرى، استخدمت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي الأسلحة المحرمة دولياً ضد المتظاهرين السلميين، كالرصاص المتفجر والقنابل السامة.
"عائلتي محتاجة وعندي طاقة"
مي قديح (27 عاماً)، خريجة بكالوريوس علوم شرعية إسلامية، لم تحصل على فرصة عمل في قطاع غزة، فاتجهت للأراضي الحدودية التي هي مهجورة في الأساس، حيث أجبرتها الظروف المعيشية الصعبة للبحث عن عمل، وفكرت في استصلاح هذه الأراضي، فكانت البداية والانطلاقة الأولى، لتندمج معها أربع فتيات أخريات من زميلاتها.
تقول مي عن بداياتها لرصيف22: "لديّ طاقة يجب أن أفرغها، كما أنّ الظروف المعيشية للأهل متدنية للغاية، فنحن أسرة مكونة من 11 فرداً، نعيش من مخصصات الشؤون الاجتماعية بقيمة 300 دولار كل ثلاثة شهور أو أربعة، في حين أن الأسرة لا تكفيها ذلك المبلغ لأسبوع واحد، فوالدي عجوز لا يقوى على الحركة، ووالدتي مريضة ربو، وأخي مصاب بإعاقة جسدية دائمة، ما دفعني أنا ونساء الحارة لعقد اجتماع بالتعاون مع جمعية "المستقبل" التابعة لمحافظة خانيونس، للبحث عن دعم لمشروع نسوي، إذ تم عقد ندوة تعليمية في مجال الزراعة لستين امرأة على عدة حلقات، وتم إعداد كادر نسوي متخصص في الزراعة الأرضية حينها".
وتضيف قديح: "بعد التدريبات المكثفة تم إعداد خمس سيدات مؤهلات لسوق الزراعة، ما دعا منظمة (الأوكسفام) الدولية لمكافحة الفقر بدعم سويدي، لمساعدتنا على استئجار الأراضي الحدودية من أصحابها، سواء أكانت تتبع للجهات الحكومية أو للقطاع الخاص، فبدأنا بمجهودنا الخاص بزراعتها بالبطاطا، حيث أنتجنا 17 طن من البطاطا من هذه البقعة الصغيرة من الأرض، بمعدل 2 طن لكل دونم، ما أحدث سيولة في الكادر التشغيلي لدينا، وساعدنا على التجهيز للموسم الذي يليه، مع زيادة بقعة الأرض على حسابنا الخاص، وتشغيل عدد أكبر من نساء عوائلنا".
وتكمل قديح: "مع بداية الشهر التاسع لعام 2019 بدأنا بالموسم الثاني من الزراعة حسب الطقس المناسب، فكان اختيارنا لنبتة الفلفل، حيث يُنتج كل دونم حوالي 20 كيلو من الفلفل، كونه خفيف الوزن، ولكنه أكثر مبيعاً وسعراً مقارنة بالبطاطا، ويستمر هذا المشروع بزيادة على عدد النساء من 5 إلى 15 حتى شهر شباط من عام 2020، حيث سيتم البدء بموسم البازيلاء في شهر آذار من العام القادم، مع زيادة عدد النساء ليصل إلى 35 سيدة وهكذا".
فراولة على المناطق الحدودية
لا شك أن المناطق الحدودية تعتبر سلة الغذاء الفلسطيني إذا ما تم استصلاحها، وكما لوحظ مسبقاً في زراعة الفراولة على الحدود الشمالية لقطاع غزة مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ تم تصدير مئات الأطنان من الفراولة لعدة دول أوروبية وخليجية، منها 70 طن من الفراولة لدول الخليج، و24 طن لمناطق شرق أوروبا، و8 طن لروسيا، و14 طن داخل "الأرض الفلسطينية المحتلة"، كما يوضح أحمد الشافعي، رئيس الجمعية التعاونية لتصدير الفراولة، لرصيف22.
"والدتي مريضة ربو، ووالدي عجوز لا يقوى على الحركة، وأخي مصاب بإعاقة جسدية، مما دفعني ونساء الحارة للبحث عن دعم لمشروع نسوي في مجال الزراعة لستين امرأة"
"استصلاح الأراضي الحدودية والبدء بزراعتها سيساعدان على التنوع البيئي، والحفاظ عليه، وسيفتح المناطق الرعوية، وسيؤدي إلى توفير بيئة للمشاريع والمناطق الصناعية، التي تتوافر داخل المدن بين السكان، بشكل يؤدي إلى ضرر البيئة المحيطة"
وارتفع إثر ذلك العائد الاقتصادي العام لمزارعي التوت الأرضي بنسبة 24%، يضيف الشافعي، بحيث تبلغ طول الحدود الشمالية مع إسرائيل 7 كيلو متر، أما طول الحدود الشرقية مع قطاع غزة تبلغ 40 كيلو متر، أي ضعف الحدود الشمالية ستة مرات، فإذا كانت هذه المنطقة الضيقة في شمال قطاع غزة قد عادت بالعامل الإيجابي من ناحية الجودة في المنتج، والربح الوفير على مزارعي الشمال، فكيف سيعود على المناطق الشرقية التي تعادل أضعاف مساحة الشمال.
ويشير المهندس الزراعي الفلسطيني نزار الوحيدي، إلى أن المناطق الشرقية تساهم في اقتصاد الزراعة لقطاع غزة بنسبة 25%، بحيث تشكل هذه المناطق ربع المساحة الإجمالية لقطاع غزة، لافتاً إلى أنَّ هذه المناطق هي الأنسب للزراعة في ظل انعدام توفر الأراضي الزراعية في غزة، نظراً لضيق مساحتها واكتظاظها بالسكان، حيث تبلغ مساحة غزة 365 كيلو متر مربع شاملة معها الأراضي الحدودية، ويعيش فيها أكثر من 2 مليون فلسطيني، بمعدل 6000 شخص في كل كيلو متر مربع.
استصلاح زراعي يتحدى الخوف
يرى التوحيدي، في تصريحات لرصيف22، أن استصلاح الأراضي الحدودية والبدء بزراعتها سيساعدان على التنوع البيئي، والحفاظ عليه، وسيفتح المناطق الرعوية، وسيؤدي إلى توفير بيئة للمشاريع والمناطق الصناعية، التي تتوافر داخل المدن بين السكان، بشكل يؤدي إلى ضرر البيئة المحيطة، وذلك بسبب الخوف من المناطق الحدودية.
إذ يخشى أصحاب المشاريع الصناعية بنقل قواعدهم إلى المناطق الحدودية، لأنها معرضة لخطر الحرب، وسيساهم الاستصلاح الزراعي لهذه المناطق من قبل الفئة الفقيرة التي تسعى لجلب الرزق لنفسها مهما كانت الصعوبات، في إزالة الخوف والتوتر في هذه المناطق من خلال جعلها مناطق حيوية بالمزارعين والرعاة، بعد أن كانت خالية تماماً من أية وجود بشري فيها.
"يساهم استصلاح الأراضي في المناطق الحدودية في إزالة خوف أصحاب المشاريع الصناعية، ونقلها بعيدا عن الناس".
ومن أهم هذه الأضرار التي تشكلها المشاريع الصناعية كما بينها خبير العلوم البيئية الدكتور أحمد حلس، هو انتشار أكاسيد الحديد والألمنيوم والكبريت، التي تتأكسد مع مادة الزنك والنيكل والتنجيستون في الهواء، فتشكل خلايا سرطانية على الجلد، والرئة، والمعدة، بالإضافة إلى احتواء بعض الأحجار المستهدفة من قبل الكسارات على كمية إشعاعات كبيرة من غاز الفسفور واليورانيوم أحياناً.
وأشار حلس في تصريحات لرصيف22 إلى أن الحل الأنسب لتلك المصانع هو وجودها في المناطق الحدودية، لكون الرياح في قطاع غزة شرقية دائماً، فلا حل جذري لنقلها إلى المناطق الحدودية الشرقية إلا بإحيائها بالمشاريع الزراعية والمبادرين بهذا العمل أولاً، كخطوة أولية لإزالة التوتر القائم هناك، وكذلك لكسر حاجز الخوف لدى الكثير من سكان غزة، كما حصل مع الحدود الشمالية للقطاع مع حدود الاحتلال الإسرائيلي، إذ فرض مزارعو الفراولة أنفسهم على مدافع الاحتلال، وأصبحت هذه المنطقة سلة الغذاء الخليجي من ناحية الفراولة والطماطم وكذلك العديد من الورود التي تصدر لأوروبا منها وردة القرنفل.
ويعيش معظم ساكني قطاع غزة ظروفا حياتية صعبة، خاصَّة في ظل العجز الاقتصادي لدى الحكومة الفلسطينية التي أدّت لتقليص رواتب موظفيها في غزة إلى أقلّ من النصف، عدا عن ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، ومن يقعون تحت الفقر إلى أكثر من نصف عدد السكان.
كما أن تدني فرص العمل لدى المرأة الفلسطينية بشكل خاص جعل من هؤلاء الفتيات يتجهن نحو أفكار مختلفة، مثل الزراعة في المناطق الحدودية، وبحسب الدراسات الأخيرة لمركز الإحصاء الفلسطيني لعام 2018، فإن سبعة رجال من أصل عشرة ينخرطون في سوق العمل، مقابل امرأتين من كل عشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 6 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 16 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع