"نخشى التغيير الديموغرافي وتذويب هويتنا". هذه الجملة يرددها أبناء كل المكونات التي تعيش في سهل نينوى التابع إدارياً لمحافظة نينوى العراقية.
يشهد "السهل" صراعاً كبيراً، منذ أكثر من عقد، على رسم حدوده الإدارية، ويتكون من ثلاثة أقضية هي الحمدانية ذو الغالبية السريانية، وفيه قرى للشبك والإيزيديين، وشيخان، موطن الآشوريين والإيزيديين، وتلكيف، وغالبية سكانه من الكلدان وفيه عرب سنّة وإيزيديون.
حالياً، الصراع محتدم بين عدة مكونات. يتحدث الخبير في شؤون التنوّع سعد سلوم لرصيف22 عن وجود "خطاب كراهية" في مناطق سهل نينوى بين المسيحيين والشبك، ويُحذّر من تفاقم هذا الخطاب واستغلاله سياسياً لخلق صراع بين مجتمعات السهل المتنوعة.
من جانبه، اعتبر الكردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، في بيان صحافي، أن "الصراع في بلدات سهل نينوى صراع سياسي"، ودعا إلى الحفاظ على وجود المسيحيين وعدم هجرتهم من المنطقة.
مثل مخاوف ساكو، هناك مخاوف لبقية المكونات. فمحافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي يرى أن إيران تدير الصراع في سهل نينوى من خلال الحشد الشعبي، على عكس ما يقوله الشبك (الحشد الشبكي) من أن وجودهم المسلح هو لحماية منطقتهم من "أطماع" القائد الكردي مسعود بارزاني التوسعية.
الإيزيديون بدورهم أيضاً لديهم مخاوفهم، خاصة في ما خص طروحات التحديث الإداري وتحويل بعض النواحي إلى أقضية أو تحويل السهل بأكمله إلى محافظة. يخشون بشكل أساسي من ذوبانهن في مجتمعات وهويات أخرى.
بعد تحرير نينوى من تنظيم داعش، نهاية عام 2017، بدأت العودة التدريجية الخجولة لأبناء هذه المكونات. ولا يخلو الأمر من خوف وقلق وعدم ثقة بالآخر، وحتى اللحظة، لم تعد آلاف الأسر، إما بسبب مخاوفها أو لعدم وجود فرص عمل أو لغياب سلطة القانون هناك.
وظهرت الكثير من الحساسيات نتيجة تبعات الأحداث التي عاشتها المحافظة، وعودة المكون الشبكي كقوة عسكرية وأمنية مدعومة من السلطة المركزية، خصوصاً بعد انسحاب قوات البيشمركة من تلك المناطق.
جميع مكونات سهل نينوى تشعر بالغبن والتهميش، في ظل الهيمنة الأمنية والعسكرية لأبناء المكون الشبكي، الشيعة منهم بالذات، والذين يسيطرون على زمام الأمور على الأرض عبر اللواء 30 في الحشد الشعبي.
الشبك... العيش في حيرة
يعيش الشبك في حيرة من أمرهم، فهم مُتنازع عليهم مثل التنازع على منطقة تواجدهم. يقول العرب إنهم عرب، بينما يحسبهم الأكراد منهم، فهم يتحدثون لغة قريبة من اللغة الكردية.
والشيعة أيضاً يعتبرون الشبك شيعة، وتمكّنوا من التغلب على الأكراد والعرب السنّة منذ عام 2014، عندما ضموا الشبك في الحشد الشعبي عبر "لواء 30 - الحشد الشبكي"، ما يشكّل أبرز عوامل الصراع الحالي.
بعد عام 2003، تعرّض الشبك لحملات تعريب وتهجير وحتى تكريد، وتوزّع تمثيلهم البرلماني على نائب يتبع الأحزاب الشيعية وآخر الكردية، ويُقدَّر عددهم بـ200 ألف نسمة.
مثل غيرهم من المكونات أو ما يُطلق عليها بـ"الأقليات"، تعرّض الشبك للنزوح عام 2014 بعد سيطرة داعش على أجزاء واسعة من العراق.
وفقاً لمقال نشره الباحث سعد سلوم في موقع "تعددية"، فإن "الشبك، أقلية مسلمة بهوية مركبة. غالبيتهم اليوم (حوالي 70%) من الشيعة الإمامية (الاثني عشرية)، والباقون من السنّة. ولكن، مع انقسامهم المذهبي، يشتركون في ميراث عقائدي طقسي خاص من العِرفان والتصوف، وهو ما يميّز هويتهم الثقافية والدينية، ويتحدثون بلغة تتميز عن العربية والكردية. وللشبك تاريخ من التعايش المشترك عمره قرون، مع بقية الأقليات الدينية كالمسيحيين والإيزيديين والكاكائيين، في منطقة سهل نينوى".
قبل عام 2014، كان الشبك القوة الأضعف في معادلة سهل نينوى. كانوا يعانون من "تهميش" المحافظ الأسبق أثيل النجيفي ومحاولات رئيس إقليم كردستان العراق السابق مسعود بارزاني للسيطرة على قراهم. لكنهم اليوم صاروا الأقوى.
يسيطر اللواء 30 المرتبط بالحشد الشعبي على الأرض في سهل نينوى، ويمتلك آلاف المقاتلين. ورغم أن رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي أمر بانسحاب هذه القوة من السهل، إلا أنها بقيت هناك، وحظيت بدعم مباشر من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي المقرّب من إيران، أبو مهدي المهندس الذي سلمهم ثلاث دبابات بعد أيام على قرار عبد المهدي الذي صدر قبل شهرين تقريباً.
يقول محمد الشبكي وهو سياسي شبكي لرصيف22: "هناك سعي كردي من أجل العودة إلى سهل نينوى وإعادة رسم خارطة السيطرة عليه، والحشد يقف بالضد من هذه المساعي. هذا المشروع الكردي حظي برعاية وموافقة الأمريكيين من خلال استهداف قادة الحشد وفق قرار الخزانة الأمريكية الذي شمل مؤخراً آمر اللواء 30 في الحشد الشعبي وعد القدو".
ويضيف أن "الأكراد يريدون سحب الحشد الشعبي من سهل نينوى حتى يسيطروا عليه بشكل كامل، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، يخطط لتنفيذ هذا المشروع، لأنهم يريدون تهيئة الأجواء لإعادة البيمشركة إلى هذه المناطق من أجل السيطرة عليها".
ويتحدث الشبكي عن وجود "أجندات للتلاعب بالأوزان الديموغرافية في سهل نينوى، والحزب الديمقراطي يسيطر عل مناطق في سهل نينوى حتى اللحظة".
لكن رئيسة كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني فيان صبري تنفي الاتهامات التي يوجهها البعض لبارزاني حول "أطماعه التوسعية"، وتقول لرصيف22: "البيشمركة قاتلت ضد الإرهاب، وساهمت في عمليات التحرير وساعدت الأسر على العودة إلى مناطقها، وكل ما تريده اليوم هو إبقاء الأمن في تلك المناطق والحفاظ عليها، وليس لديها أي مخطط حول التغيير الديموغرافي، ومَن يتحدث بهذا الأمر يريد إبعاد البيمشركة فقط عن تلك المناطق حتى يسيطر على الأرض هناك".
الإيزيديون... مخاوف لا تهدأ
يعيش الإيزيديون في مناطق مختلفة من العراق، لكن معاقلهم الأساسية في شماله، وتحديداً في محافظة نينوى، حيث قضائي سنجار وشيخان. قبل عام 2014، كان عددهم يُقدَّر بأكثر من 550 ألف نسمة، نزح 350 ألفاً منهم داخل العراق، وهاجر حوالي 100 ألف إلى أوروبا ودول أخرى، وأغلبهم الآن في ألمانيا.
يشير الناشط الإيزيدي فارس كتي إلى أن معلومات المجلس الروحاني الإيزيدي تقول إن الإيزيديين يشكلون 70-80% من سكان قضاء شيخان الذي لا يتجاوز عدد المقيمين فيه 50 ألف نسمة، لكنه يضيف أنهم الآن لا يشكلون سوى أقل من 30%.
رغم عودة عدد غير معلوم من الأسر الإيزيدية إلى قضاء شيخان، إلا أن المخاوف من عودة الصراع أو تعرضهم لإبادات جديدة، ما زالت شاخصة، إذ يخشون من جرائم جديدة قد تُرتكب ضدهم.
يعتقد الإيزيديون أن البيئة المجتمعية التي تحيط بهم من الممكن أن تولد داعش جديد، ولا يستبعدون بكل الأحوال أن يتعرضوا على الأقل لخطاب كراهية يكفرهم. ليس هذا فحسب، بل لديهم مخاوف من تجريف قراهم وإحداث تغيير ديموغرافي فيها.
الإيزيديون مثل الشبك تقريباً، بعضهم يحاول الاعتماد على هويته فقط وعلى الدعم الدولي، وآخرون يرون في الانضمام والتقرب من إقليم كردستان العراق درعاً حصيناً يحميهم من الاضطهاد، لذا انضم أبرز ساستهم مثل فيان الشيخ ومحما خليل وغيرهما إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
يقول كتي لرصيف22 إن "التخوف الإيزيدي يشمل أيضاً خسارة مناطقهم التاريخية، والخوف مستمر وعدم الشعور بالأمان والاستقرار وعدم الشعور بوجود سلام شامل، كله موجود".
ويضيف أن الإيزيديين يخشون الانضمام إلى دعاة مشروع محافظة سهل نينوى، فهم يعتقدون أن المشروع مدفوع من جهات دولية ومرجعيات مسيحية مثل الفاتيكان، وخشيتهم الكبيرة تتعلق بـ"سيطرة" طرف واحد على القرار في المحافظة في حال استُحدثت.
"نخشى التغيير الديموغرافي وتذويب هويتنا". هذه الجملة يرددها أبناء كل المكونات التي تعيش في سهل نينوى التابع إدارياً لمحافظة نينوى العراقية، أي الشبك والإيزيديين والمسيحيين... عن صراع العراقيين والقوى الإقليمية المعقّد على الأقليات
"الأكراد يريدون بسط السيطرة على سهل نينوى"؛ "الشبك يستقوون بإيران"؛ "المسيحيون اعتمدوا على أمريكا والغرب في توفير الحماية لهم"... مقولات تلخّص تعقيدات المشهد في سهل نينوى العراقي حيث تتصارع الأقليات
وبدأت الانقسامات داخل المكون الإيزيدي تظهر بعد أشهر على وفاة أميرهم (مرجعهم) تحسين بك، في كانون الثاني/ يناير 2019، بعد 75 عاماً على تنصيبه أميراً عليهم، ليخلفه نجله حازم تحسين بك بعد تنصيبه في تموز/ يوليو الماضي، لكن هذا لم يرُق للجميع، فهناك من الأمراء مَن اعتبر نفسه أميراً خلفاً لتحسين بك.
ولأن وجود الإيزيديين يتركز في سنجار وشيخان وفي ألمانيا خارج العراق، فإن تنصيب حازم تحسين بك اعتبرته بعض الشخصيات الإيزيدية الكبيرة "مخالفاً" لوصية والده الذي "أوصى بأن يأتي الأمير من بعده بموافقة جميع الإيزيديين". لذا، نصّب الأمير نايف بن داود نفسه أميراً على سنجار، بينما نصب أمية معاوية نفسه أميراً في المهجر.
المسيحيون... قلق "أصحاب الأرض"
الصراع الأكبر حالياً هو بين المسيحيين والشبك. فالمسيحيون يعتبرون أنفسهم أصحاب الأرض ويرون أن السهل موطنهم الأصلي الذي لا يمكن التخلي عنه، ويحاولون قدر الإمكان الحد من عمليات الهجرة خارج البلاد. وفي المقابل، يرى الشبك أنهم جزء من صناعة النصر وتحرير السهل وأنهم أصحاب قرى وأراضٍ في السهل لا يمكن تركها.
يقول الكردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، إن "سهل نينوى هو المنطقة الوحيدة الخاصة بالمسيحيين، وإن الواجب الإنساني والأخلاقي والوطني يتطلب من الحكومة العراقية صاحبة القرار، وحتى من المواطنين، التمسك ببقاء المسيحيين كجزء أساسي من النسيج العراقي، واحتضانهم ورفع الغبن عنهم، وانصافهم، وتثبيت حقوقهم".
ويضيف أن "وجود المسيحيين ثروة تاريخية حضارية ومعاصرة، وهجرتهم خسارة فادحة للمجتمع العراقي"، وأنهم "لا يبحثون عن الامتيازات، بل عن المساواة وفق معيار الانتماء الحقيقي إلى الوطن والعطاء، وليس وفق معيار آخر".
يتحدث النائب المسيحي السابق جوزيف صليوا عن وجود أطراف تعيش في سهل نينوى وتدّعي الخوف، لكنه يقول لرصيف22: "خوفهم غير حقيقي"، ثم يُضيف: "الأكراد يريدون بسط السيطرة على السهل، والشبك يستقوون بإيران والحشد الشعبي، فلماذا يخافون؟".
ويُشير صليوا إلى أن "الشبك يُريدون أن يجعلوا من سهل نينوى بقعة تابعة للنظام الإيراني من خلال عائلة القدو (عائلة النائب الشبكي حنين قدو وشقيقه القيادي في الحشد الشعبي وعد قدو)". ويتفق معه محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي، الذي يرى أن "الشبك هم القوة الوحيدة المسلحة المسيطرة على السهل، رغم أنهم لا يشكلون 0.5% من سكان محافظة نينوى".
ويقول النجيفي لرصيف22 إن "الشبك اعتمدوا على إيران وشكلوا فوج حماية تابع لمنظمة بدر بزعامة هادي العامري، وبعض المسيحيين شكلوا أيضاً قوة مسلحة تابعة للحشد الشعبي بقيادة ريان الكلداني رغم رفض المسيحيين لها"، مبيناً أن "بقية المسيحيين اعتمدوا على أمريكا والغرب في توفير الحماية لهم".
ويتهم السياسي المسيحي الشبك بـ"ممارسة شعائر دينية فيها غلو"، ويقول "ليس لدينا أي مشكلة مع هذه الممارسات، فهي حق مشروع، لكن لدينا مشكلة في فرض هذه الشعائر على الجميع، فليس من المعقول أن يُفرض حظر للتجوال في مناطق سهل نينوى بمناسبة العاشر من محرم، رغم أن غالبية سكان سهل نينوى من غير المسلمين".
يمتلك المسيحيون فصيلين مسلحين، أحدهما يقوده ريان الكلداني واسمه "فصيل بابليون"، وينضوي تحت لواء الحشد الشعبي، وهو من الفصائل المقربة من إيران، ويُسيطر على أجزاء من سهل نينوى، لكن الكنيسة أعلنت في وقت سابق براءتها من قائده وأكدت أنه "لا يمثل المسيحيين". ويقول النائب جوزيف صليوا إن "أغلب مقاتلي الفصيل ليسوا من المسيحيين".
والفصيل الثاني هو "NPU"، ويقوده النائب في البرلمان العراقي عن المكون المسيحي، يونادم كنا، الذي لا يرتبط بعلاقة إيجابية مع الكلداني، ويرى فيه "خارجاً" عن الملة المسيحية ومبادئها. فصيل كنا يرتبط تقريباً بحكومة إقليم كردستان العراق، تبعاً لارتباط كنا بشكل مباشر أو غير مباشر بمسعود بارزاني.
وفي محاولة منها لإنهاء الصراع في سهل نينوى، عملت الحكومة العراقية على تقديم حل لـ"إنهاء للمشكلة"، عندما أصدرت قراراً يستحدث وحدات إدارية للشبك، بغية عزلهم عن المسيحيين لمنع حدوث أي احتكاك بينهم. لكن الباحث في شؤون التنوع الديني سعد سلوم اعتبر هذه الخطوة "التي جاءت على أساس إثني وطائفي لا على أساس إداري، هي ضربة للتعايش السلمي في السهل".
يقول سلوم لرصيف22 إنه "فضلاً عن تمسك المسيحيين بسهل نينوى بوصفها منطقة مسيحية الطابع والهوية، فإن للشبك ارتباطاً وجودياً بأراضيهم الخصبة في سهل نينوى أيضاً"، وللشبك "تاريخ من التعايش المشترك مع بقية الأقليات الدينية كالمسيحيين والإيزيديين والكاكائيين في منطقة سهل نينوى التي يتواجدون فيها منذ خمسة قرون".
ويضيف: "يهدد الصراع المسيحي الشبكي في سهل نينوى القضاء على ميراث من التعايش، والخطير أنه ينقل النزاع إلى داخل الأقليات نفسها، بين أقليات تتحول إلى أغلبيات وأخرى تجد نفسها بوضع الأقلية المهمشة داخل المنطقة، مع انفتاح صراع على النفوذ والأرض على نحو يهدد بمزيد من تفتيت المنطقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...