كان همي في الطريق من الفلوجة إلى بغداد اجتياز سيطرة الرزازة التي كانت تابعة للحشد الشعبي. كنت خائفاً لأن الفترة التي يجب أن أؤدي فيها امتحاناتي في بغداد، كانت تشهد اعتقالات وعمليات إخفاء قسري وتعذيب.
استقليت مع ثلاثة من أصدقائي سيارة تاكسي إلى بغداد. على الطريق، كان القلق ينتابني، والخوف يسيطر عليّ، وكل أعضاء جسدي ترتجف، وكل هذا بسبب سيطرة (نقطة تفتيش) الرزازة التي تقع في محافظة الأنبار.
كان يُفترض أن نضحك ونمزح بيننا كأصدقاء حتى يمر الوقت، ولكن كنا صامتين ولا أحد يتحدث إلى الآخر. أعيننا تحسب مسافات الطريق نحو سيطرة الرزازة.
قبل أن نصل إليها بعشرات الأمتار، وكنت أنظر إليها، قلت لأصدقائي: إذا اجتزنا هذه السيطرة، فنحن بخير.
ضحكنا بصوت عال عندما أعاد إلينا الشاب المسلح هوياتنا وهو يقول "اطلع". هل اجتزنا سيطرة الإخفاء القسري؟ هل اجتزنا سيطرة غاب عليها المئات من سكان محافظة الأنبار؟ إنه أمر لا يصدق!
عادت الدماء إلى عروقنا. أخرجت عبوات مياه كنت أحملها ووزعتها على أصدقائي والسائق. ارتحت كثيراً لأن تلك السيطرة المخيفة لم تعد في طريقي.
"التأكد من التدقيق"
بينما توقفنا بعد عدة كيلومترات على سيطرة المتين التابعة لقضاء عامرية الفلوجة، كنت أقول لأصدقائي "هذه السيطرة سهلة، سنجتازها ونصل إلى بغداد، فهؤلاء الجنود معروفون بلطفهم وتعاملهم الإيجابي". وفعلاً، أعادوا إلينا بطاقاتنا الشخصية بعد أن دققوا فيها. سرنا باتجاه السيارة لنكمل طريقنا، لكن شرطياً نادى عليّ.
كنت أبتسم وأنا أتحدث مع الشرطي الذي قال لي "ليس لدينا أي شيء، فقط التأكد من التدقيق".
دخلت إلى مكان صغير فيه كومبيوتر محمول ويجلس خلفه عسكري في العقد الرابع من عمره تقريباً. سألني عن اسمي من جديد وطلب بطاقتي الشخصية. كان عنصراً من الشرطة المحلية يدقق في هويات أصدقائي بشكل يدوي وهو ينظر إليها ويخشى أن تكون مزورة.
سألني العسكري الذي يجلس خلف الكومبيوتر "ما هي صلة القرابة بينك وبين علي حاتم السليمان؟". ذكر اسم علي حاتم السليمان وهو يشتمه. قلت له "مجرد تشابه أسماء".
وعلي حاتم السليمان الذي يحمل نفس اسمي هو أحد شيوخ عشائر الأنبار ويزعم أنه شيخ عشائر الدليم. كانت تربطه علاقة إيجابية برئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي ثم تمرّد عليه وقاد وحث على تظاهرات ساحات الاعتصام في الأنبار قبيل دخول داعش بأسابيع.
قالوا لي "ستأتي معنا للتحقيق في المعسكر". لم أعترض ولم أوافق. كُنت خائفاً لدرجة كبيرة، لكن لا حول لي ولا قوة. بقيت صامتاً. هل أستفسر عن سبب ذلك وأستفزهم فيغضبون مني؟ أم أبقى هكذا ورُبما أُزيد الشكوك التي رُسمت في ذهنهم حولي؟
جرى هذا في الثالث والعشرين من يوليو 2015 عندما كان عمري 23 عاماً. أصدقائي الثلاثة الذين كانوا معي، أخذوهم إلى مركز الشرطة المحلية، أما أنا فبدا أن قصتي أكبر لذا أخذوني إلى معسكر اللواء الثامن في الجيش العراقي، والذي بدوره سلمني إلى استخبارات الفوج الأول في الفرقة الثامنة في الجيش العراقي.
نقلوني من سيطرة المتين إلى مقر الجيش. كنت أتوقع أن يطلقوا سراحي بعد دقائق، فشكلي يختلف عن شكل علي حاتم السليمان المطلوب للقضاء والمتهم بـ"الإرهاب". قلت في نفسي، حتى وإنْ افترضوا أنني قريبه فسيُطلقون سراحي، لأنني لست المطلوب.
أدخلت إلى المعسكر. سُجنت فيه في غرفة صغيرة. لم يتحدث إلي أي أحد، لكنهم كانوا يضربونني بقسوة. كانوا يقدّمون الماء لي بالقطارة (كل عدة ساعات يأتون إلي بنصف كوب) ويُعطوني وجبة واحدة في اليوم.
تعذيب على يد عناصر الجيش
انتهى اليوم الأول، فالثاني، فالثالث، فالرابع ولا شيء تغير، لكن الضرب الذي أتلقاه يومياً بقي مستمراً، بقيت في الغرفة لا أحد يتحدث معي ولا أتحدث مع أحد.
كُنت أُفكر بأهلي الذين كانوا ينتظرون اتصالاً مني، بأبي الذي وعدته بأداء جيّد في الامتحان، وبأمي التي بقيت تدعو لي عند خروجي من المنزل، هي الحاضرة في ذهني في كل لحظة.
في السابعة صباحاً من اليوم الخامس، أخرجوني من السجن. جعلوني أنزع كل ملابسي وبقيت باللباس الداخلي الذي يغطي عورتي فقط. كان أحدهم يجرني من يدي ويضربني ويشتمني. كان يشتم يزيد ومعاوية أيضاً، لا أعرف لماذا، ربما لأسباب تتعلق بعُقد طائفية.
"جعلوني أنزع كل ملابسي وبقيت باللباس الداخلي. كان أحدهم يجرني من يدي ويضربني ويشتمني. كان يشتم يزيد ومعاوية أيضاً. لا أعرف لماذا، ربما لأسباب تتعلق بعُقد طائفية"... قصة تعذيب علي حاتم السليمان في معتقل للجيش العراقي
"حرقوا كفي فصارا أسودين وأصيبا بالغنغرينا، وكسروا عظام أصابعي، ولم أعد أقوى على تحريك كفي ولا أشعر بهما أساساً، لذا لم يتمكنوا من علاجي"... قصة تعذيب علي حاتم السليمان في معتقل للجيش العراقي
أصعدوني على شيء يشبه الطاولة داخل قفص حديدي، ثم طلبوا مني أن أضع يدي على ظهري من الخلف، ثم جاؤوا بحجر كبير وأحموه بالنار، ثم وضعوا الحجر على يدي.
في فمي وضعوا حصى صغيرة حتى لا أصرخ، هذه الحصى كانت درجة حرارتها عالية أيضاً، ثم سحبوا الطاولة من تحت قدمي. كُنت أعتقد بأنهم يُريدون إعدامي بطريقة ما، لكن تبين عكس ذلك. أثقلوا يداي بالحجر بعد أن سحبوها إلى الأعلى من الخلف، وبقي الحجر مُعلقاً بحبل بكفي.
بقيت معلقاً من السابعة والنصف صباحاً حتى الرابعة عصراً. لم أكن أعرف الوقت لولا أن أحدهم سأل الآخر "كم بقي مُعلقاً هذا القواد؟".
عندما جاؤوا ليفكوني كان مُغمى عليّ، أتذكر أنهم قالوا إنهم حقنوني بإبر لأصحى. أحدهم أراد أن يُعطيني الماء لأشرب فرفض بعضهم بادرته حتى وصل الحال إلى شجار بينهم. هذا الشجار حدث صباحاً عندما رفضت مجموعة من الجنود تعذيبي. عندما أوقفوا تعذيبي قدّموا إلي ماءً حاراً جداً، بحرارة شهر تموز في منطقة صحراوية ذقت شمسها وتُرابها لعشر ساعات تقريباً.
اتفقوا في ما بينهم على أخذي إلى مستشفى لا أتذكر هل هو عسكري أم مدني بعد أن رأوا أن كفيّ صارا أسودين ولا أستطيع تحريكهما، وأن وضعي الصحي تدهور ولم أعد أقوى حتى على الحديث معهم. بقيت في المستشفى ثلاثة أيام، بعدها أبلغهم الأطباء أن لا فائدة من استمرار بقائي فيه لنقص في الخدمات وعدم قدرة الكادر على التعامل مع حالتي، فسلموني إلى الشرطة المحلية في بغداد.
كان تعامل وتعاون عناصر الشرطة معي إيجابياً فحرصوا على الإسراع في نقلي إلى مستشفى اليرموك في بغداد حيث لم يجد الأطباء حلاً لي، فكفي أسودان أصيبا بالغنغرينا لعدم وصول الدماء إليهما، وعظام أصابعي مكسورة ولا أقوى على تحريك يدي ولا أشعر بهما أساساً، لذا لم يتمكنوا من علاجي. كان قد مرّ على اختفائي عشرة أيام.
اتصل أحد الضباط بعائلتي وأبلغهم بما حدث معي وقال لهم "تعالوا واصطحبوه إلى مستشفى آخر". كان الحل الأخير بالنسبة إلينا هو مستشفيات محافظة أربيل، مستشفيات أكثر تطوراً واعتناءً بالمرضى وفيها خبرات ذهبت من بغداد إلى هناك، عسى أن يتمكنوا من إنهاء معاناتي.
لم تتكفل الدولة بعلاجي، ولم يكن لدينا ما يكفينا لذلك، فتبرع لنا أحد شيوخ عشائر الأنبار بكل تكاليف العلاج في أربيل.
في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، شعرت بشيء من الأمل في اليومين الأولين. اهتمام وعلاج وراحة تفوق ما هو موجود في مستشفيات بغداد التي تُعاني نقصاً كبيراً في الخدمات، لكنني بقيت أعاني من وجع كبير حتى جاء خبر الطبيب المختص بأن لا مجال أمامي سوى بتر الكفين.
في بداية الأمر حزنت وانزعجت، ثم طلبت منهم الإسراع بذلك للتخلص من الآلام.
عُرضت قضيتي في وسائل الإعلام، وتحدثت لقنوات أجنبية عما تعرضت له، وفي ذات الوقت أقمت دعوى قضائية في محاكم محافظة الأنبار. الخطوتان كانتا كفيلتان بتحشيد بعض الجنود والضباط إلى جانبي، فحقق القضاء بما حصل معي، وحضرت إلى وزارة الدفاع أكثر من مرة لمقابلة قيادات عسكرية هناك على أمل نيل تعويض، لكن لا شيء.
خضع الجنود للتحقيق لكن هناك مَن أراد أن يُساعدهم على الإفلات من العقاب بحجة قدومي للسيطرة وأنا أعاني من التعذيب بسبب داعش، لكن جنوداً آخرين كانوا معي شهدوا على حقيقة ما حصل، لكن لم يصدر أي حكم بحق المعذبين حتى الآن. بعضهم دخل السجن إلى حين إصدار حُكم، وبعضهم خرج بكفالة، أما أنا فما زلت أعاني، لا دراسة ولا وظيفة ولا فرصة عمل. صرت عالة على أهلي بسبب حب جنود للتعذيب.
هذه الشهادة كتبها مصطفى سعدون بناءً على مقابلة أجراها مع علي حاتم السليمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...