"إنما ينهض بالشرق مستبد عادل" أطلق الإمام محمد عبده هذه المقولة قبل قرن من الزمان، ويبدو أنها لا تزال حية تنبض في العقل العربي حتى الآن.
هذه المدرسة في التفكير التي تقول إن الفرد العربي لا يصلح للديمقراطية، وإن خامته الفكرية لا تتسق إلا مع سلطة مستبد عادل يقود الجموع المذعنة إلى ما يراه هو صحيحاً لمستقبلها بلا نقاش، ازدهرت ووجدت نموذجها الأمثل في شخص الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
أضحى النموذج الناصري بعد ذلك ملهماً لتجارب مماثلة أنجبت صدام حسين، وحافظ الأسد والقذافي وغيرهم من زعماء الأمة الذين لم يتركوا بلادهم بحال أفضل مما وجدوه عليها حين تولوا الحكم.
المثير للاهتمام هنا هو ليس ما يقوله المنظرون من كتّاب أو مفكرين في ترويج هذه النظرية، ولكن في القناعة الشعبية الواسعة بها عند عموم أبناء العالم العربي الذين يجزمون بعدم استعداد الشعوب العربية للتجارب الديمقراطية، وبالتالي يبررون عن قناعة النظام الأبوي/الديكتاتوري باعتباره حاجة ماسة لشعوب لم تبلغ بعد سن الرشد.
يمكن أن نعتبر تجربة جمال عبد الناصر أوضح وأقوى مثل في التاريخ العربي الحديث على نموذج الزعامة الأبوية التي اختصرت الممارسة الديمقراطية في نظرة الأب، فيما يجب أن تكون عليه المشاركة الشعبية/العائلية في اتخاذ القرارات.
الأب/الزعيم كان يرى أن بلده في مرحلة ثورية تتطلب حسماً في تنفيذ الأهداف التي من أجلها أطيح بالنظام الملكي السابق وسيطرة رأس المال والاقطاع. وبالتالي، فقد كان تنفيذ تلك المبادئ مقدماً بشكل كامل على أي مطالب شعبية بالمشاركة في صنع القرار.
فنحن في مرحلة تأميم وإصلاح زراعي ومواجهة مع إسرائيل والاستعمار، وهذه كلها قضايا تطلب حسماً وحزماً قيادياً لا توفره الممارسة الديمقراطية الناعمة.
القبضة القوية على مفاصل الدولة من أجل تحقيق مصالح الشعب العامل كانت هي المطلوبة لضمان مصلحة الأبناء العاملين، وبالتالي فلا بد من تفويضها للأب.
يمكننا أن نرى بوضوح كيف أن الصورة الأبوية للقائد هي انعكاس فعلي لما كان يعتمل في نفوس الشعب منذ اللحظات الأولى لثورة يوليو، وهو ما يؤكد أنها موروث فكري متراكم لم يظهر بين ليلة وضحاها، بل تم استغلاله لبناء نظام فردي يستلهم فكرة المستبد العادل.
وحين وصل عبد الناصر إلى سدة الرئاسة، بدا كشاب طموح يود تحقيق أجندة ثورية تخرج الإنجليز من مصر، وتوزع الأراضي على الفلاحين وتعنى بتحقيق شيء من العدل الاجتماعي، ولهذا كان تأجيل الديمقراطية أمراً مفروغاً منه.
لقد تجاوز النموذج الناصري صورة الزعيم إلى مرتبة الأب بكل ما فيها من ارتباط عاطفي ووجداني
تجربة عبد الناصر وزعامته الأبوية ألهمت تجارب أخرى مثل صدام حسين، وحافظ الأسد والقذافي وغيرهم من الزعماء العربتم إقناع جموع الشعب أن الديمقراطية بشكلها البرلماني السابق ستعيد الاقطاعيين والرجعيين وتطيح بمكاسب الفقراء. لذلك كان لا بد من وجود حامٍ لعائلة القوى العاملة من المستغلين، فظهرت هنا شيئاً فشيئاً صورة عبد الناصر حامي الحقوق والمنجزات الثورية. جاءت المواجهة الكبرى مع قوى الاستعمار في تأميم قناة السويس عام 1956. هذا القرار الذي اتخذ بشكل فوقي ودون أية مشاركة شعبية استقبله الشعب بحماس منقطع النظير، وربما كان بالفعل تعبيراً عن رغبة لدى الشعب في الوقوف بوجه المحتل السابق ورد كرامته. وقد رسخت هذه الخطوة، وما تلاها من حرب السويس، صورة راعي الشعب الذي يعرف مصلحته ويستطيع أن يأخذ القرارات نيابة عنه. أصبحت القاعدة هي قرارات بالوصاية يأخذها الأب الزعيم بالنيابة عن الشعب من وحدة فورية مرتجلة مع سوريا، إلى تدخل عسكري متسرع في اليمن، إلى مواجهة غير محسوبة النتائج عام 1967 كانت أشبه بمقامرة رب أسرة بكل مدخرات العائلة. كانت نتيجة هذه المقامرة كارثية لأمّة فوضت كل شؤونها إلى أب متفرد يعتقل صوت زوجته وأولاده ولا يمنحهم إلا ما يعتقد أنهم يستحقونه من "ديمقراطية سليمة". وربما لهذا وجدنا الجموع تنتحب في حالة من الكآبة والحزن الجارف في جنازة عبد الناصر، بل وحتى في كلمات الرثاء التي كتبها كبار الشعراء والمثقفين ومنها على سبيل المثال قصيدة نزار قباني "قتلناك يا آخر الأنبياء". لقد تجاوز النموذج الناصري صورة الزعيم إلى مرتبة الأب بكل ما فيها من ارتباط عاطفي ووجداني. يمكن أن نرجع نشأة واستمرار نموذج الحاكم الأب في مجتمعاتنا لعدة أسباب:
السلطة الأبوية العائلية
لا يزال الأب نسبياً في مجتمعاتنا العربية يلعب دور السلطة الطاغية التي يحق لها أن تدير شؤون المنزل والأولاد بشكل مطلق، وبتأييد مجتمعي كامل. فللأب حقوق عديدة على زوجته وأولاده، حتى بعد أن يدخلوا الجامعة ويتخرجوا، تمس قدرتهم وحقهم في تشكيل حياتهم واتخاذ قراراتهم.التلقين التعليمي
المنظومة التعليمية العربية لا تزال تعتمد على التلقين والتسليم بما يقوله الأستاذ. لا توجد لدى المؤسسات التعليمية العربية ما لدى الأمم الأخرى التي تعتمد الليبرالية السياسية من تدريب وتعليم على العقل الحر والنقاش المفتوح والتساؤل والشك. هذا الأسلوب يرسخ في ذهن الطالب منذ طفولته إحساسه بعدم قدرته على الخروج من دائرة ما يلقى إليه من معلومات، وبالتالي حاجته الدائمة إلى مرجع يصوب خطأه ويعلمه مما يحوله إلى متلقٍ عاجز لا يشعر بقدرة على الانتفاض على قدميه والانطلاق في العالم الرحب للتفكير العلمي الحر. هذه الأجيال من الشباب تصبح تربة خصبة للقبول بسلطة عليا تحدد لها مسارها وما هو الأفضل لها وتكون امتداداً لما تربّت عليه في المنزل والمدرسة والجامعة من سلطات تأمر فتطاع.الموروث الديني
النماذج التي ندرّسها لأولادنا في المدارس تخدم تماماً فكرة الحاكم الراعي الذي يستلم تفويض الرعية ليعدل بينهم ويقيم شرع الله بين الجميع بلا تمييز. يتم تقديم النماذج المثالية للحكام مثل عمر بن الخطاب، أو القادة مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي على أنهم المثل الأسمى لتحقيق التطور السياسي الاجتماعي وفق الموروث الاسلامي. مدى تأثير هذه المدرسة الفكرية أنها تنجب أجيالاً تؤمن بوصاية حاكم عادل قوي وحازم يأخذ الأمة إلى طريق المجد والعزة بمواهبه القيادية الفذة. تتجاهل هذه المدرسة أن تلك النماذج من التاريخ هي حالات ارتبطت بحقب معينة لها ظروفها التاريخية والاجتماعية، ولا يصح أن تؤخذ كتبرير لمصادرة التجربة البشرية التي تقول إن المشاركة الشعبية المباشرة هي الطريق الأسلم للحكم، وليس التفويض المطلق لحاكم اياً تكن مواهبه القيادية.الديمقراطية ثقافة غربية غريبة
تم الترويج، وخصوصاً في زمن المد الثوري الناصري، لفكرة أن الديمقراطية بشكلها الليبرالي البرلماني هي ثقافة غربية وطريقة للنفاذ إلى حكم البلاد العربية والتسلط عليها عن طريق دعم النخب المرتبطة بالاستعمار ومصالحه الاقتصادية. وعوضاً عن بناء مؤسسات يمكنها على المدى البعيد أن تكون هي الضمانة الحقيقية، فقد تم الترويج لفكرة الأب الزعيم الذي سيمنع الرأسمالية المستغلة من المساس بأبنائه. ومع غياب دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني للتوعية والتثقيف، فقد كانت المرجعية الفكرية في الحكم بالنسبة للمجتمع هي التقاليد والموروث الديني مع تجاهل تام للتجارب البشرية في المجتمعات الأخرى.التبعية الاقتصادية
كان للتبعية الاقتصادية للشعب للحكومة في ظل القطاع العام وهيمنة الدولة على جميع قطاعات العمل دور كبير في الإحساس بالاعتماد الكلي على ما ستمنحه الدولة/ الزعامة الأبوية للأبناء من عمل ورواتب وحوافز ستحدد حياتهم المستقبلية.التخويف من الاستعمار سابقاً والإرهاب حالياً
رفع شعار "مواجهة الاستعمار" سابقاً، و"مواجهة الإرهاب" في الزمن الحاضر هو عامل آخر يسهم في إقناع الشعب أن الوقت ليس مناسباً للمطالبة بأي قدر من الحريات. بل إن مواجهة الإرهاب الديني الحالي تتطلب أباً حازماً يدرأ الخطر الداهم على باب البيت، فيهرع هو للمواجهة ملقياً بأبنائه وراء ظهره ليتلقى هو تحدي الأمن. وهذا كله يتم طبعاً بتسليم كامل من العائلة للأب الحامي. إن الإحساس بالقصور وعدم القدرة على التصدي لمسؤولية الحكم هو الأساس في قبول الشعوب العربية بالوصاية، بل والبحث عن أب متسلط تفوض إليه الأمور لأن شعوبنا لا تستحق، أو لا تفهم الديمقراطية. الأبوة هي الإحساس بالأمان للأطفال. وما لم تفهم الأجيال الجديدة أنها شبت عن الطوق ونضجت، وأن الشرق لن ينهض إلا بشعب واعٍ لا بمستبد عادل فستظل هذه الشعوب تتنقل من أب لآخر، وستبقى تحت الوصاية تسير خلف سراب الأبوة الحاكمة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع