أقبل شهر أيلول/ سبتمبر ومعه كابوس الميمات الثلاث: المدارس، والمحروقات، والمؤونة. "هل أنتم مستعدون؟"، سؤال بات السوريون يطرحونه على أنفسهم وعلى بعضهم بعضاً مع بداية كل فصل شتاء، إذ صاروا يجدون أنفسهم مضطرين للاستعداد مادياً للعام الدراسي الجديد، والبرد القارس المتوقع، إضافة إلى تجهيز الأطعمة التي ستكون "مؤونتهم" خلال الأشهر المقبلة، أي "المونة" بالعامية السورية.
خلال أشهر الصيف ووصولاً بشكل خاص إلى أيلول/ سبتمبر، تعمل العائلات السورية على تخزين مختلف أنواع الأطعمة لاستخدامها خلال فصل الشتاء، وذلك إما عن طريق التجفيف، كما هو الحال مع الطماطم والملوخية والنعناع، أو الحفظ في الثلاجات، كما البازلاء والفول والفاصولياء، أو التحضير بطرق خاصة، ونتحدث هنا مثلاً عن المكدوس المُعَدّ من الباذنجان والجوز والفليفلة، والكشك الذي يُحضَّر من البرغل والحليب.
"ملوخية؟ ما إلها داعي"
"مونة؟ كانت أيام زمان". هكذا تقول أم تامر وهي تتجول في أحد أسواق الخضروات وسط العاصمة دمشق، باحثةً عن أفضل سعر للطماطم والفليفلة، المكوِّنين الوحيدين اللذين قررت هذا العام استخدامهما لإعداد المؤونة. "طماطم مجففة ودبس الفليفلة، فقط"، تشرح السيدة الخمسينية بحسرة.
مع فقدانها زوجها ومنزل العائلة في ضواحي المدينة الشرقية التي كانت "ساخنة" على مدار الأعوام الفائتة، تحكي أم تامر لرصيف22 عن تغيُّر معنى وطعم المؤونة نتيجة الأحوال المادية المتدهورة عاماً بعد آخر. انتقلت من تخزين معظم الأصناف، وهي عادتها قبل سنوات الحرب، إلى الاقتصار على صنفين أو ثلاثة من تلك الأقل تكلفة، وزاد الوضع سوءاً في هذا الموسم الذي يشهد تراجعاً غير مسبوق لقيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، إذ بات يساوي 700 ليرة مقارنةً بـ50 ليرة قبل عام 2011.
"شو بدك أحكيلك؟"، تهمس أم تامر بخجل وأنا أرافقها داخل السوق لأرى ما ستشتري. تنتقل عيناها بين البضائع المعروضة، وتودُّ السؤال بشكل خاص عن مكوّنات المكدوس الذي يعتبره السوريون ملك مائدتي الفطور والعشاء وطبقاً لا بد منه، لكنها تُحجم عن ذلك.
"كل 10 كيلو باذنجان للمكدوس تحتاج ما لا يقل عن 2 كيلو فليفلة ونصف كيلو جوز، وحوالي لتر زيت زيتون، إضافة إلى الثوم. بحساب بسيط، ستكلف هذه الكمية تقريباً ثمانية آلاف ليرة سورية (14 دولاراً)، ولن تكفي شيئاً، فنحن اعتدنا تحضير 50 كيلو باذنجان في ما مضى".
الحسابات نفسها تتكرر مع الفاصولياء والملوخية وورق العنب، المأكولات التي كانت تُخزّنها أم تامر في ثلاجتها بعشرات الكيلوغرامات لكلٍّ منها. واليوم، لا يقل سعر كيلو أي صنف منها عن 800 ليرة (دولار وثلث تقريباً). "ما في داعي إلها هي السنة"، تشرح السيدة، مشيرةً إلى أنها تفضل استغلال مردودها المادي المتواضع الذي تجنيه، من عملها في ورشة حياكة، في توفير مستلزمات الدراسة والطبابة لأبنائها الأربعة.
"لا تعطني هدية، بل مرطبان مربى"
لم تميز الحرب بين سوري وآخر، والأحوال المادية المتدهورة وضع عام يعيشه جميع السوريين اليوم في مختلف بقاع البلاد. هذا ما تعتقده سلوى زكزك، وهي ربة منزل تقطن في دمشق، وتتحدث لرصيف22 عن تغيُّر عادات المؤونة في منزلها كما في منازل معظم مَن تعرفهم.
"بعد سفر أولادي، تضاءلت كمية المؤونة بطبيعة الحال، واختلفت مكوناتها، فحلّت مواد أقل سعراً مكان المواد المكلفة، وكذلك تغيّرت طرق التحضير التي توجهت لتكون أقل إهداراً وأكثر تناسباً مع عدد أفراد العائلة"، تشرح السيدة الخمسينية.
من عناصر المؤونة التي اختفت من منزل زكزك، تذكر الأجبان التي ارتفع ثمنها بشكل كبير، وكذلك بعض أنواع المربَّيات ، نتيجة زيادة سعر السكر والغاز اللازم للتحضير.
تشير السيدة سلوى كذلك إلى ظهور عادات جديدة، وعودة أخرى قديمة إلى الحياة في ما يخص حفظ المؤونة داخل منازل السوريين، مثل تجفيف الباذنجان والكوسا لعدم توافر الكهرباء بشكل منتظم في كثير من الأحياء الشعبية، والاعتماد على تموين الذرة التي صارت من مكونات المائدة الأساسية نظراً لانخفاض سعرها، واللجوء إلى الزراعات المنزلية لبعض أنواع الخضروات والحشائش، كالبقدونس والنعناع، نظراً لغلاء أسعارها في الأسواق بسبب ارتفاع تكاليف الوقود اللازم لزراعتها.
تتنقل عينا أم تامر بين البضائع المعروضة، وتودُّ السؤال عن مكونات المكدوس "مَلِك الفطور والعشاء"، لكنها تخجل، وتُحجِم عن ذلك... تغيرات في ثقافة "المونة" عند السوريين بسبب أوضاعهم الصعبة
"يراودنا شعور طاغٍ بعدم الثقة في مبدأ تخزين المؤونة أصلاً، صار لدينا تخوُّف حقيقي من أي احتمال لنزوح جديد"... أمور كثيرة تغيّرت في سوريا بسبب الحرب، حتى ثقافة المؤونة
ومن أجل تحمُّل أعباء مؤونة الشتاء، توضح زكزك أن كثيراً من العائلات تعتمد على الحوالات الخارجية من أفرادها الذين يسكنون خارج سوريا. "هي حوالة الموسم، يخصصها الأبناء فقط للمؤونة، يرسلون مئتي يورو مثلاً ليتمكن أهلهم من شراء ما يحتاجونه في هذا الشهر"، تقول سلوى، وتضيف بابتسامة: "وإنْ أردنا أن نذكر عادات مجتمعية جديدة، يمكنني الحديث عن توقفي عن شراء الهدايا في المناسبات. بدلاً منها نهدي أوعية من المربَّيات أو المخللات، فهي الهدية الأفضل اليوم".
"يكاد أولادي ينسون الثرود"
ليست تقلبات الليرة وحدها ما أسهم في تغيير عادات المؤونة لدى السوريين خلال سنوات الحرب، بل كان للنزوح الداخلي، الذي أُجبِر عليه أكثر من ستة ملايين شخص وفق أرقام الأمم المتحدة، أثر كبير في تحوّل أصاب بعضاً من تلك العادات، واندثار طال أخرى.
في مدينة جرمانا في ريف دمشق الشرقي، تعيش ماجدة، وهي مُدرسة لها من العمر 55 عاماً، مع زوجها وأبنائها الثلاثة، بعد نزوحهم من مدينتهم دير الزور قبل عدة أعوام حين اشتدت وتيرة المعارك.
تمكنت ماجدة هذا الشهر من تمويل بعض الأساسيات كالخضروات والمكدوس، مع تقليل الكميات إلى الحد الأدنى، وإحلال بعض المكونات بدلاً من أخرى: الزيت النباتي بدل زيت الزيتون، والفستق السوداني عوضاً عن الجوز. ورغم ذلك، جاءت المؤونة كما تقول السيدة على حساب مستلزمات منزلية أخرى، اضطرت لإرجائها إلى وقت لاحق.
حال ماجدة كحال معظم النازحين من أبناء دير الزور، الذين لجأوا إلى إعداد كميات محدودة من المؤونة (خاصة تلك المكلفة) لتناولها بشكل متقطع خلال الشتاء، أو لإكرام أي ضيوف يُحتمل قدومهم.
لجأ معظم الأهالي كذلك إلى تجفيف الخضروات، مثل الباذنجان والطماطم والفليفلة، الأمر الذي تعلموه بشكل خاص أيام حصار المدينة وانقطاع التيار الكهربائي والمحروقات. "كل هذا مع وجود شعور طاغٍ بعدم الثقة في مبدأ تخزين المؤونة بغض النظر عن شكلها، إذ صار لدينا تخوُّف حقيقي من أي احتمال لنزوح جديد، خاصة لدى مَن تكرر نزوحهم لمرات عدة خلال السنوات الفائتة"، تضيف لرصيف22.
تشرح ماجدة التي فضلت ذكر اسمها الأول فقط، أن المشكلة لا تكمن هنا وحسب، فكثير من عناصر المؤونة الأساسية لدى أهالي دير الزور باتت اليوم طي النسيان، ومنها الجبن، والكمأة التي تُجفف خلال فصل الصيف على شكل قلائد، والسمن العربي، وحتى جلد الخروف الذي كان يُجفف ويُستخدم كحافظة للبُن أو السمن أو الحليب.
يبدو هذا محزناً بالنسبة إلى السيدة ماجدة، فزوال تلك المكونات لا يعني اختفاء بعض الأطعمة فحسب، وإنما ابتعاد أبنائها وكثيرين من أولاد دير الزور الذين عاشوا طفولتهم وشبابهم خارج المدينة، بسبب النزوح، عن العادات والثقافة المتوارَثة منذ عقود.
"يكاد أولادي ينسون الثرود، وهو طعام ديري يدخل لحم الضأن في تحضيره بوفرة، ولم يعد أحد قادراً على إعداده اليوم بسبب تكلفته العالية. وهم لن يعرفوا يوماً معاني الكثير من الأمثال الشعبية الديرية التي تتحدث عن الأطعمة والمؤونة، والتي تمثل روح المدينة، ويحلو لنا الحديث عنها في كل مناسبة". اليوم، تتجه المؤونة إلى الاختفاء من سوريا، ومعها تتجه مفردات وثقافة بأكملها نحو الاندثار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...