وُلدت في منزل يقع على طريق المطار في ضواحي بيروت، ويسبب عمليات التهجير انتقلتْ عائلتي إلى منطقة "الناعمة" في جنوب بيروت، حيث سكنتُ في بيت مهجور حتى عام 1992 أي بعد انتهاء الحرب الأهلية.
بعد انتهاء الحرب، عدنا إلى بيتنا في حيّ المصيطبة في غرب بيروت، والذي كان بيت جدّي (والد والدي). البيت كان شبه مهجور أثناء الحرب. وفي هذا الحي، يوجد كثير من المنازل المدمرة والمهجورة. هذه البيوت تحولت إلى ساحة للعب والاستكشاف عندما كنتُ صغيراً.
كنت أمضي الكثير من الوقت فيها، أبحث حيناً عن صور قديمة تعود إلى أصحاب المنزل المهجور، وأحياناً ابحث عن قصاصات مجلات قديمة.
اهتمامي بالابنية المهجورة لاحقني حتى اليوم. في السنوات اللاحقة، كنت أجوب بيروت سيراً على الأقدام، وأدخل الأبنية التي كان بإمكاني دخولها.
بين جدران المنزل المهجور دفءٌ وقصص لأناس غلبتهم الصراعات، وقصص لأحلام كانت حيّة. هذه الأماكن تحفّز المخيّلة. تدفعها للخوض في أسئلة لن تُعرف إجاباتها. بصريّاً، تذهب المخيّلة لتركيب مشاهد مختلفة عن حياة القاطنين في هذا المكان قبل رحيلهم، واللحظات الأخيرة لمغادرتهم مساحتهم الخاصة. عادة، عندما يتهجّر أحدهم من بيته، فهو لا يعرف متى سيعود إليه؛ هذا في حال عاد إليه.
الأبنية المهجورة عادة ما تكون مخرّبة من الداخل. وفي غرفها ركام، وهذا تجسيد بصري للألم والخيبة التي عاشها أهل المكان.
هذه الأبنية تجسّد أحلاماً كانت في طريقها إلى الحياة، ولم تكتمل لتصبح أماكن قادرة على تشكيل الذكريات؛ فهي أماكن باردة بلا ذكريات
أثناء سفري حول العالم، من برلين إلى إسطنبول مروراً بكتمندو، أدخل الأبنية المهجورة التي أمرّ بها. ألتقط صوراً لها لأضمها إلى الأرشيف الفوتوغرافي الذي أجمعه على مرور السنوات. هذه الزوايا عادة ما تصبح مساحات تعبيرية لفناني الغرافيتي الذين يُضيفون بعضاً من الحياة إليها.
الجانب الآخر للحرب، هو ورشات البناء وإعادة الأعمار التي امتدت في أنحاء بيروت طيلة فترة التسعينات وبشكل أقل بعد عام 2000.
ليش كلّ من بدأ بناء منزل استطاع انهاءه. عند المرور في بيروت ومناطق ريفيّة في البلاد، نرى الكثير من المنازل غير مكتملة البناء، توقف البناء في المرحلة الثانية أم الثالثة قبل أن تصبح جاهزة للسكن.
هذه الأبنية تجسّد أحلاماً كانت في طريقها إلى الحياة، ولم تكتمل لتصبح أماكن قادرة على تشكيل الذكريات؛ فهي أماكن باردة بلا ذكريات.
وإذا كانت الحرب المباشرة أدّت إلى الأبنية المهجورة، فإنّ الأزمات الاقتصادية والحرب الصامتة أدّت إلى وقف عملية البناء. هذه الأبنية تُخبر قصة أناس لم يعد باستطاعتهم إكمال بناء منازل أحلامهم.
وإذا كانت الحرب المباشرة أدّت إلى الأبنية المهجورة، فإنّ الأزمات الاقتصادية والحرب الصامتة أدّت إلى وقف عملية البناء. هذه الأبنية تُخبر قصة أناس لم يعد باستطاعتهم إكمال بناء منازل أحلامهم
ولأن بيروت عاشت وتعيش حروباً وأزمات متقطعة، فإن الأبنية المهجورة وغير مكتملة البناء تتجاور جنباً إلى جنب داخل الحيّ الواحد، وكذلك الحال في المحافظات الأخرى.
برج المر: رمز للحرب المستمرة
أرى برج المرّ منذ أن كنت في الخامسة عندما كانت مدرستي في أحد الأحياء المجاورة للبرج. هو البرج غير مكتمل البناء والمهجور في الوقت عينه.
في عام 1970، بدأ العمل على بنائه في وسط بيروت. حينها كان البرج الأطول في البلاد التي كانت تعيش نهضة اقتصادية وثقافية وفنية. ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، توقفت عملية العماره.
تحوّل البرج إلى ساحة اقتتال بين مختلف الميليشيات المحلية للسيطرة عليه، وأصبح نقطة للقناصين طيلة 15 عاماً.
بعد انتهاء الحرب لم تُكمل عملية إعماره، فأصبح ثكنة عسكرية لجيش البعث السوري. وبعد خروجه من لبنان، تحول البرج إلى ثكنة عسكرية للجيش اللبناني حتى اليوم. وهكذا تحوّل البرج من رمز للنهضة إلى مقر للميليشيات والجيش.
ناطحات السحاب: شرشبيل في قرية السنافر
عام 2011، غادرتُ لبنان وانتقلت للعمل في مدينة الرمل والزجاج، دبي. كنتُ أذهب إلى لبنان مرة أو مرتين في العام، وهذا ما ساعدني على ملاحظة التغيرات التي تطرأ على العاصمة.
أكثر التغيرات البصرية هي اختفاء الأبنية القديمة التراثية وحلول الأبراج الزجاجية الشاهقة مكانها.
هذه العملية غيّرت من الهوية الاجتماعية والعمرانية للمدينة، إذ أنّ ارتفاع ناطحات السحاب جاء على حساب الطبقات الفقيرة التي لم تعد قادرة على العيش في العاصمة، فانتقلت إلى ضواحي بيروت والتلال المحيطة بها. تحوّلت علاقة الفقراء بالعاصمة إلى علاقة عمل فقط. أما السكن فقد أصبح محصوراً بأصحاب القدرة الشرائية العالية.
ومن ناحية أخرى انتشار الأبراج وسط الأبنية الصغيرة جعلها تبدو وكأنها شرشبيل في قرية السنافر؛ شكلها يأتي خارج السياق العمراني المحلي، وكأنها معدّلة على برنامج "فوتوشوب".
هذه الابراج لا تشبه المدينة أبداً، وقد حوّلتها إلى نسخة كاريكاتورية عن مدينة دبي، وهذا ما يُفسّر ظهور غرافيتي "بيروت ليست دبي" على الجدران البيروتية، كاعتراض على التحولات التي تغير ملامح المدينة.
هذه الأبراج ليست مسكونة بالكامل والكثير من شققها مازالت فارغة إذ أن قلة من المواطنين قادرين على شرائها وحتى استئجارها. وهذا ما يجعلها النسخة الحديثة من برج المرّ مع فارق نصف قرن تقريباً. وإذا كان بناء برج المر قد أتى في سياق نهضة اقتصادية في حينها، فإن الأبراج الحديثة قصتها مختلفة. يعتقد القادم إلى بيروت بأن البلاد تشهد نمواً اقتصادياً، بينما في الواقع، هذه الأبراج تشكّل تضليلاً بصرياً.
إذا كانت الأبنية المهجورة تمثّل الماضي بحروبه والأبنية غير مكتملة البناء تمثّل الحاضر بأزماته الاقتصادية، فإن الابراج غير المسكونة هي تمثل طموحات غير واقعية لمدينة تنازع باحثة عن موقع لها في مستقبل لا يبدو مشرقاً كما قد يتخيله البعض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...