شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أهواك بلا أمل.. يا بيروت!

أهواك بلا أمل.. يا بيروت!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 20 ديسمبر 201801:13 م
تراجع، تقهقر، تآكل في كلّ شيء، ألاحظه في كل مرةٍ أعود فيها إلى بيروت. في كلّ مرّة، أرى والديّ قد شاخا قليلاً، وكبرا. استيقظت صباح اليوم صباحاً على شعور غريب أشعر به لأوّل مرّة منذ تركت بيروت؛ شعور يقول إنّها لم تعد بيتي، بل بيتي هو هنا، وبأنني أفضّل أن أبقى فيه، رغم الغربة الباردة والوحدة. أسأل نفسي: ترى لو لم يكن والداي وصديقاي الأقرب إلى قلبي في بيروت، هل كنت سأشعر بنفس الحنين إلى هذه المدينة المتفسخة، والتي بالكادّ تشبه نفسها منذ عشر سنوات خلت؟ هل ستبقى لي بيروت الخيال، بيروت الجميلة، بيروت طفولتي وصباي، وأيام الجامعة؟ لكم أحسد الألمان الذين تبقى ذكرياتهم وتواريخهم الشخصية محفوظة في زوايا مدنِهم! يمتلكون تاريخَهم ويتّكئون عليه… أما أنا فأتّكئ على بيروت المترنحة. تعتريني رجفةٌ حين يمرّ ببالي أنه ذات يوم، لن يكون أبواي في انتظاري بالمطار، ولن يردّ أحدٌ على الهاتف في المنزل، ولن يكون أصدقائي في شوارعها. أعرف أن ذلك اليوم آتٍ لا محالة، ولكنني أصرف هذه الفكرة سريعاً من رأسي، تماماً كما أصرفها حين أفكّر باحتمال الإصابة بمرض السرطان. هل أحبّ بيروت لذاتها؟ أم أنني أنانيةُ في حبّي لها، لأنها لا زالت كرحِمِ أمّي حنونةُ عليّ؟ في بيروت، أجد دائماً من يحبّني ويلمّني؛ فيها من يشدّ عزيمتي، ويرسم ضحكة على وجهي،  ومن يفهم دموعي ويسمع شكواي بلا ملل؛ أصدقاء يحتضنون أطفالي، كما لو كانوا أطفالهم؛ يقبّلونهم بتلقائية مشرقية، وبحنانٍ يفيض بسلاسةٍ دون اعتبارات وحساباتٍ كثيرة كدَرجة الصداقة مع الأمّ، والاضطراب النفسيّ الذي قد يسبّبه لمسُ شخصٍ لطفلِها، ودون الاعتقاد بأن السّلام الدافئ على طفلٍ لا يتذكرهم جيّدا، سيتسبب له بـ"تروما" ما.
يتّهمني أصدقائي، محقّين على الأرجح، بأنّني أرى بيروت من خلال نظّارةٍ زهرية، لأنني ما عدت أعيش فيها. ترى هل يلوّن الحنين كلّ شيءٍ باللون الزهريّ؟
حتى العلاقات الخاصة والعاطفية تنسحق تحت ضغط الواقع المرير في لبنان. تقول لي أختي التي تعيش في بلدٍ آخر دافئ بأنني نسيتُ كلَّ ذلك، وأصبحت أعتبر المكاسب والنِّعم التي نتمتع بها في أوروبا الغربية تحصيلاً حاصلاً.
فيكِ يا بيروت، أجد دائماً سبباً للرقص الذي أفتقد؛ تمدّينني بالشّمس والطاقة والقوّة والنّفس بين حربيْن، لأتابعَ ما قد بدأتُه بعيداً عنك. أنت ذراعان تغمرانني بحنوّ الأمّ على طفلتِها المدلّلة؛ ألقي في بحرِكِ كلّ تعبي وسَأمي، وأعيد برمجة نفسي. هل علاقتي بك نفعيّة؟ أنت دائماً سموحة معي، كقلبِ أمّي، تغفرين اندفاعي وهفواتي. ولكن، أنا أيضاً أعرف وجهَك الآخر! أعرف عيوبَك عن ظهر قلبٍ، ولكنني لا أتحدّث عنها أمام الغرباء. أقدّمك كاذبةً للغير على أنك مازلتِ لؤلؤة هذا الشّرق. أنا أعرف أنك أيضاً قاسية، ولكِ وجهٌ آخر تُرينه للّاجئ والفقير والغريب. أعرف أنّك تخذلين الأحباب والأصدقاء مراراً، وأعرف عاداتِك السيئة جميعها، وأخطاءكِ، كبيرَها وصغيرها، ولكنني أختار أن أغفرها لك جميعاً، وأن أشيح بنظري عن معظمها كما تفعل أمُّ مع طفلها المدلّل. أعاملك بالتسامح المبالغ فيه للأمّ التي تشعر بالذنب لأنها لا تقضي وقتاً كافياً مع طفلها، فتُسرف في دلالِه، ولا تضع حدّاً لنزقِه. يتّهمني أصدقائي، محقّين على الأرجح، بأنّني أرى بيروت من خلال نظّارةٍ زهرية، لأنني ما عدت أعيش فيها. ترى هل يلوّن الحنين كلّ شيءٍ باللون الزهريّ؟ يقولون: أنت تأتين في عطلة، وليس عليك مواجهة صعوبات الحياة اليومية هنا. أنت لا تحرقين أعصابك في زحمة السير يومياً، للوصول إلى عملِك. أعبث بفكرة الانتقال للعيش هنا مع أطفالي، حتى يتمكّن أهلي من رؤيتهم وهم يكبرون، فتنهرني أمّي سريعاً مذكرةً إياي بالأسباب العديدة التي دفعتني لمغادرة بيروت منذ عشر سنوات. يضيف أصدقائي بأنني مجنونة، وأنهم ينتظرون أقرب فرصة لمغادرةِ البلد، وهم الأطباء والإداريون؛ جميعهم أكاديميون طموحون وناجحون، لا يتأخرون ثانية عن تذكيري بكيفية اصطدامِهم بسقفِ أحلامهم سريعاً. حتى العلاقات الخاصة والعاطفية تنسحق تحت ضغط الواقع المرير في لبنان. تقول لي أختي التي تعيش في بلدٍ آخر دافئ بأنني نسيتُ كلَّ ذلك، وأصبحت أعتبر المكاسب والنِّعم التي نتمتع بها في أوروبا الغربية تحصيلاً حاصلاً. ـ انتي كنتي متّي لو بقيتي بلبنان. بتعرفي شو يعني كنتي متّي؟! أعرف أنك ظالمة مع البعض يا بيروت، ولكنني كنتُ ولا زلت طفلتك المدلّلة؛ كريمة دائماً معي، ترحبين بي، تغسلين تعبي، بينما لكِ أنتِ لونُ الغبار؛ تقبّلين جبيني بحنوٍّ أموميّ في حين تتلقّفك القسوةُ من كلّ جوانبِك. أعرف أنّ فيك أناساً لا يشعرون بأنهم مرحبٌ بهم؛ وهناك أناس يعذّبون فيك ويُضطهدون. وأعرف أنّ الفوضى أكلتك والقمامة ملأتْ شوارعَك، وأنه في كلّ زيارة لك أجدك أكثر هرماً، وقد رجعت سنواتٍ إلى الوراء. لكنك تبقين لي نقطة خضراء مشمسة كحدائق جامعتي؛ تطلّين على الأزرق الكبير الذي يشفي كلّ شيءٍ فيّ. أدرك أن الاقتراب أكثر من الماء سيكشف كوارث بيئية مخيفة، وبأنه لا يُنصح بالاقتراب منه صحيّاً؛ لا شجر كثير ٌ فيك، غير أنك تبقين الأصلَ والجذور. لم أولد فيك، كذلك أختي وكذا ابني؛ لذلك اخترتُ أن أنجب طفلتي فيك رغم دهشة الجميع، وجميع الاعتبارات القانونية والسياسية التي تدعو لعكس ذلك. أردتُ لطفلتي أن تولد فيكِ، كما أمّي، عسى أن يذكّرها اسم المكان بنهر الدم اللبناني الذي يجري في عروقها. أنتِ لا تعترفين بانتماء أطفالي إليكِ، وتلك قمّة الخذلان. كلّما رجعت، رأيتك تتجعدين وتختبئين خلف غلالةٍ من الحزن، لكنني أحبّكِ أكثر، لأنك كالأمّهات، كلّما كبرْنَ زاد خوفنا من فقدانهنّ. لكم أخاف أن أعودَ فلا أجدكِ، يا بيروت!  
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image