في بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت الدولة العثمانية بتنفيذ مشروع يقضي بتهجير عدد من العائلات الكردية من مواطنها الأصلية، وتوطينها في مناطق ليبية، لتأمن ثوراتهم وتُحكم سيطرتها على مناطقهم.
ومصطلح كردستان يعني ديار الكرد بوصفهم مجتمعاً ذا وحدة قومية متجانسة، ولكن المنطقة الكردية حالياً لا حدود سياسية لها، وهي مجزأة بين تركيا والعراق وإيران وسوريا.
ثورات ضد السلطة
في كتابه "المشكلة الكردية في الشرق الأوسط منذ بدايتها حتى عام 1991"، يروي الدكتور حامد محمود عيسى أن الزحف الذي قام به إبراهيم باشا عام 1832 عبر آسيا الصغرى حتى أبواب القسطنطينية ضد العثمانيين على رأس الجيش المصري، أضرم في نفوس بعض الزعماء الأكراد الرغبة في الاستقلال التام، فراحوا يتساءلون: "اذا كان اليونانيون والمصريون الذين كانوا سابقاً من رعايا الباب العالي استطاعوا دحر الجيش التركي وإلحاق الهزيمة به فحققوا استقلالهم، فلماذا لا يحق للأكراد إدارة أنفسهم بطريقتهم الخاصة؟".
هكذا، انتشر الشعور القومي بين المتعلمين والوطنيين من التجار ورجال الأعمال من مصدّرين ومستوردين، وهم الذين كانت السيطرة التركية تربك أعمالهم، كما نمت العاطفة القومية في مناطق بايزيد، و"وان" في تركيا، وخوي وتخجوان في أذربيجان، فقام الأكراد بثورات كثيرة ضد السلطة.
وفي تلك الفترة، ظهرت العشائر وكأنها إمارات مستقلة تتمتع بنفوذ تام في ديارها، فكانت تشن حروباً متواصلة ضد الأتراك وضد بعضها أيضاً، وكانت محاولات قيام حكم تركي مباشر في مناطق كردستان تؤدي دوماً إلى قيام انتفاضات جديدة، ولم تكد الدولة العثمانية تتغلب على إحداها حتى تنشب أخرى، حسبما روى عيسى.
استمرت الحال كذلك من عام إلى عام، وكان الأتراك يسجلون في هذا الصراع المضني بين حين وآخر ظفراً عابراً، إلا أن سلطتهم الفعلية على أرض الأكراد بقيت منقوصة.
تهجير الهماوند
إزاء ذلك، يروي عيسى أن السلطات العثمانية حاولت أن تجد حلاً للمتاعب التي كانت تسببها القبائل الكردية، وذلك بنقلها من وطنها الأصلي إلى جهات أخرى بعيدة، وكانت ليبيا من الأماكن التي وقع عليها الاختيار لتوطين الأكراد بهدف كسر حدة ثوراتهم.
كانت على رأس القبائل المرشحة للتوطين والنفي قبيلة الهماوند. يذكر الباحث الكردي برادوست ميتاني لرصيف22 أن هذه القبيلة كانت تعيش حول مدينة السليمانية العراقية، وكانت دائمة الثورة على الحكم العثماني، ما اضطر العثمانيين إلى إرسال قوات عسكرية للقضاء على ثورتها عام 1890.
لم يكن ذلك حلاً جذرياً، لأن ثورات الهماونديين كانت لا تلبث أن تهدأ حتى تندلع، لذا بدأت السلطات العثمانية تفكر في مقترح آخر طرحه الوالي العثماني على ليبيا أحمد راسم باشا.
وبحسب ميتاني، تضمّن المقترح تهجير ما بين مئة ومئتي عائلة من القبيلة من مناطقها، وتوطينهم في ليبيا عنوة، على أن يكون من بينها تلك التي تتزعم الحركة الثورية ضد العثمانيين.
وشمل المقترح تهجير العائلات الكردية على شكل جماعات إلى بنغازي والجبل الأخضر وطرابلس الغرب للعمل في الزراعة، على أن تقدم لهم الحكومة العثمانية الدعم اللازم لتوطينهم في المجتمع الجديد، "مثل بذور الزراعة وغيرها من المؤن المختلفة"، ذكر ميتاني.
تمرد المهجّرين
لاقت اقتراحات راسم باشا قبولاً من الحكومة العثمانية، فأرسلت بعض الأسر الكردية من قبيلة الهماوند إلى مدينة طرابلس، كما أرسلت مجموعة من الأكراد الذين كانوا يمثلون خطورة على الدولة وسبق وأن رحّلتهم إلى منطقة إزمير على ساحل الأناضول المطل على البحر المتوسط، إلى مدينة بنغازي لتوطينهم في الجبل الأخضر، وأخرى إلى طرابلس الغرب.
ويذكر مصطفى عبد الله بعيو في كتابه "المشروع الصهيوني لتوطين اليهود في ليبيا" أن المجموعة الأخيرة التي اتجهت إلى طرابلس الغرب حاولت الانضمام إلى الجماعات التي انتقلت إلى بنغازي، للعيش معها في الجبل الأخضر، ولكنها لم توفق في مسعاها.
عائلات كردية بارزة لا تزال تسكن ليبيا، منها الأورفلي والكردي، وفي ضواحي بنغازي يوجد حي "الكردية"... ففي نهاية القرن التاسع عشر، رحّلت السلطات العثمانية قبائل كردية من مناطقها لكسر حدة ثوراتهم
الزحف الذي قام به إبراهيم باشا عام 1832 عبر آسيا الصغرى ضد العثمانيين على رأس الجيش المصري، دفع بعض الزعماء الأكراد إلى التساؤل: "لماذا لا يحق للأكراد إدارة أنفسهم بطريقتهم الخاصة؟"
على كل حالٍ، وصلت المجموعة المتجهة إلى طرابلس، وهنالك عرضت عليها حكومة الولاية توطينها في منطقة سرت على أن تقوم بفلاحة الأرض هناك وزراعتها.
بحسب بعيو، تعهدت حكومة الولاية لهم بتقديم كل ما يلزم من بذور بعد أن صرفت لهم الأموال اللازمة لتسهيل فرص الحياة الجديدة أمامهم، فخصصت قرشاً ونصف صاغ تركي يومياً لكل فرد من الأسر الكردية المهجرة.
لكن الأكراد الوافدين لم يقبلوا كل هذه التسهيلات وفضلوا العودة إلى بلادهم بإصرار، ما دفع الوالي إلى أن يكتب لحكومته في إسطنبول ليخبرها بفشل كل المحاولات التي بذلتها حكومة الولاية لإقناع الأكراد بقبول الحياة الجديدة.
ويذكر بعيو أن الوالي علل عدم نجاح خطة توطين الأكراد في منطقة سرت وفشل المساعي التي بُذلت معهم بأن "جماعات الأكراد الذين جاؤوا إلى سرت لم تكن من الفلاحين الذين يعتمدون على الزراعة في حياتهم العامة، وهي التي تعوّدت على التنقل والرحيل وما يصاحب ذلك هذه الحياة من مظاهر اجتماعية خاصة اشتهرت بها القبائل التي احترفت التنقل والغزو، وعدم الارتباط المطلق بالأرض المحدودة المعالم".
لكن ذلك لم يُثنِ راسم باشا عن مخططه، فحاول أن يجد حلاً لمشكلة هؤلاء الأكراد بعد أن رفضوا قبول المشروع الزراعي لاستيطانهم، لذا سعى إلى إلحاق العُزّاب منهم بالقوات المسلحة النظامية العاملة في البلاد، وكذلك القوات البحرية التي كانت تحتاجها السفن الحربية العثمانية في الموانئ الليبية، كما ألحق بعضهم بقوة الحراسة والأمن في البلاد. غير أن المحاولة الجديدة لم يكتب لها النجاح أيضاً، بحسب بعيو.
هروب ثم عودة
مني مشروع التوطين بفشل بعد آخر، ولم ينسَ الأكراد في طرابلس وطنهم الأصلي، وزاد حنينهم إلى بلادهم، ما دفع ببعضهم إلى محاولة الهرب.
ذكر عيسى أن بعض الأكراد بزعامة "حسن بك"، وعلى رأسهم زعماء الهماوند محمد أغابي سليمان، ورشيد بن فتاح، وعبد القادر بن حسين بك، وحسين بن علي، ومصطفى بن كامل، وكريم بن فتاح، اتجهوا ناحية الشرق للعودة إلى بلادهم.
لكن سلطات الولاية تتبعتهم وتبادلت معهم إطلاق النيران، وقبضت عليهم وصادرت أسلحتهم بعد أن قتلت زعيمهم حسن بك في أغسطس 1891، روى عيسى.
ورغم ذلك، ظل زعماء الهماوند الأكراد على إصرارهم في عدم قبول الاندماج في المجتمع الجديد والرضا بالأمر الواقع، ما اضطر أحمد راسم باشا، سنة 1893، إلى أن يحصل على موافقة الحكومة العثمانية على عودتهم إلى أزمير. وصادف وقت وصولهم إليها انتشار وباء الكوليرا الذي أنزل بأهلها خسائر كبيرة في الأرواح، ذكر بعيو.
وبحسب ميتاني، عاد أكراد آخرون إلى كردستان مشياً، واستغرق ذلك ستة أشهر.
وإذا كانت محاولة توطين الأكراد في سرت قد فشلت لأنها منطقة سهلة صحراوية وقد تعوّد الأكراد على حياة الجبال، فإن محاولة توطينهم في منطقة الجبل الأخضر في برقة لم تنجح هي الأخرى رغم أن طبيعة المنطقة أقرب ما تكون إلى منطقة كردستان.
ويفسّر بعيو الأمر بأن الأكراد لم يتعودوا على الاستسلام لأي عدوان مع ما عُرفوا به من حب لوطنهم إلى درجة الاستماتة في مقاومة السلطات العثمانية وغيرها أمام أيّة محاولة لكسر شوكتهم.
ورغم ذلك، يذكر ميتاني أن عائلات كردية بارزة لا تزال تسكن ليبيا، منها عائلة الأورفلي، وعائلة الكردي التي ينتمي إليها الفنان سمير الكردي. وفي الضواحي الشرقية من بنغازي يوجد حي يحمل اسم "الكردية" يضم مئات الأسر الكردية التي تعيش حياة الفقر والبؤس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت