في التاريخ الإنساني، هنالك أحداث تصبغ حقبة معيّنة بلونها، وتغيّر مسارات الأمور وتفرض حقائق جديدة. هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر هي من هذا النوع إذ حوّلت القرن الحادي والعشرين إلى قرن الحرب العالمية على الإرهاب.
كان العرب في صلب تلك الأحداث، سواء بسبب جنسيات المنفّذين أو باعتبارهم من أكثر مَن تأثروا بردود الفعل الأمريكية، ولكن رغم ذلك، لا يزالون يعانون من ضبابية في رؤيتها وفهمها.
فالتصورات الشائعة بين كثيرين من العرب مشوّشة وليست مبنيّة على حقائق صلبة، وكثيراً ما تذهب باتجاه نظرية المؤامرة في تفسير الهجمات، وهي نظرية ليست حكراً على العرب، إذ يتبناها كثيرون من مختلف دول العالم، ومن ضمنها أمريكا وأوروبا.
ولكن الأرقام تقول لنا إن نسبة العرب الذين يعتنقون التفسير التآمري أكبر بكثير من نظرائهم في بقية دول العالم.
نظريات مؤامرة
يحيط بأحداث سبتمبر نوعان من نظرية المؤامرة: الأول يفترض أن الحكومة الأمريكية كانت متورطة فيها إلى درجة تدبير تفجير مبنى التجارة العالمي بقنابل من الداخل، وقصف مبنى البنتاغون بصارخ كروز، والثاني يعترف بأن تنظيم القاعدة هو مَن خطط ونفّذ العملية ولكنه يعتبر أن الحكومة الأمريكية غضت النظر عنه ولم توقفه كي تحصل على ذريعة لمهاجمة العالمين العربي والإسلامي وتسيطر على منابع النفط.
وقود الطائرات لا يصهر الفولاذ، فكيف سقط البرجان؟
صحيح أن ناطحات السحاب الحديثة ضخمة، ولكنها في الحقيقة ليست سوى هواء مغلف تبلغ كثافة البناء فيه ما بين 8 و9 باوند/ قدم مكعب، وهذا أقل من كثافة لوح خشب. وبالتالي فإن الأعمدة الفولاذية التي تحمل البناء الضخم لا تحتاج إلى الانصهار حتى يسقط المبنى، بل يكفي أن تتعرض لدرجة حرارة 538 مئوية لتبدأ بالليونة وضعف القدرة على تحمل الأثقال Strength. وشرح زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن بنفسه الأمر بنفسه في فيديو.
ينصهر الفولاذ مع درجة حرارة بحدود 1370 مئوية. وما حدث بالفعل هو أن وقود الطائرتين المرتطمتين بالبرجين اشتعل بدرجة حرارة تقرب من 1100 مئوية، وهو ما سبب ضرراً Creep في الأعمدة والأرضيات الفولاذية، إضافة إلى الضرر المادي المباشر الذي تسبب به فعل الارتطام.
هكذا، تحمّلت الأعمدة والأرضيات ثقلاً يزيد عن قابليتها التصميمية وهي 1300 طن لكل طابق. وعندما سقطت الطوابق العليا نتيجة التواء الأعمدة، ارتفع الثقل إلى 45 ألف طن (من الطوابق العشرة العليا)، وهو ما أدى إلى انهيار متسلسل للطوابق الأدنى على شكل دومينو.
سقوط يشبه الانفجار المسيطَر عليه
بدأ سقوط البرجين بميلان في الهيكل نتيجة الحريق وزيادة الثقل، ثم بدأت الطوابق العلوية بالانهيار وصولاً إلى الأرض. ولكن في حالة الانفجار المسيطَر عليه، فإن التدمير يبدأ من الأسفل فتنهار القاعدة وبالتالي تسقط الطوابق العليا وهذا معاكس لما حدث في هجمات سبتمبر.
كما أن حجم المواد المتفجرة المطلوب وضعها لإحداث انفجار داخلي يُسقط البرج بأكمله يحتاج إلى رافعات شوكية لنقله إلى داخل المبنى، ويجب أن يتم ربط المتفجرات في أماكن معيّنة من الهيكل الفولاذي في طوابق البرج الواقعة تحت الأرض وطابقه الأرضي لضمان الانهيار الكامل. وهكذا جهد لا يمكن له بأي حال أن يتم دون لفت الأنظار في منطقة مزدحمة ومكتظة.
ويتضح خطأ نظرية تفجير البرج من الداخل في هذا الفيديو لتغطية إعلامية تظهر لحظة سقوط الأبراج من أعلى وليس من أسفل.
فتحة جدار البنتاغون أصغر من حجم البوينغ 757
الفجوة في جدار مبنى البنتاغون الذي استُهدف هي بالفعل أصغر من حجم الطائرة الكلي إذ يبلغ عرضها 90 قدماً مقارنة مع عرض الطائرة الذي يبلغ 124 قدماً. ولكن إذا علمنا أن جناحي الطائرة انفصلا عن هيكلها قبل الارتطام بفعل اصطدام الأيمن منهما بمولّد كهربائي ضخم كان يستخدم في أعمال الترميم الجارية حينذاك في المبنى، والأيسر بأنبوب أرضي للتهوية، يصير مفهوماً أن حجم الفتحة في جدار البنتاغون مساوية لحجم الهيكل بدون الأجنحة.
أضف إلى هذا أن شهادات شهود العيان الذين رأوا الارتطام الفعلي للطائرة وثقها فيلم للبي بي سي بعنوان Truth, Lies and Conspiracies.
لماذا لم تمنع الوكالات الأمنية الهجمات؟
لم تكن التقارير الاستخبارية قبل الهجمات سوى تحذيرات عامة جاءت من تراكم معلوماتي منذ التسعينيات من القرن الماضي، ولكن وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) لم يكونا يمتلكان صورة تجمع كل تلك الشظايا في تصوّر واضح.
"الناس تعتنق نظرية المؤامرة حين لا تصدّق أن أجهزة ضخمة وقوية تفشل في أداء عملها لأسباب غبية"... التصورات الشائعة بين كثيرين من العرب حول هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 مشوّشة وليست مبنيّة على حقائق صلبة
يحيط بأحداث سبتمبر نوعان من نظرية المؤامرة: الأول يفترض أن الحكومة الأمريكية كانت متورطة فيها؛ والثاني يعتقد أنها غضت النظر عن مخططات تنظيم القاعدة ولم توقفه كي تحصل على ذريعة لمهاجمة دول عربية وإسلامية وتسيطر على منابع النفط
عانت السي آي إيه منذ التسعينيات من مشاكل تنظيمية أثّرت على أدائها. ومن المفيد هنا أن نتذكر فشلها في التنبؤ بالهجوم على المدمرة يو أس أس كول (12 تشرين الأول/ أكتوبر 2000)، وفشلها في التنبؤ بتفجيرات السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام (7 آب/ أغسطس 1998).
إضافة إلى ذلك، فإن الوكالات الأمنية الأمريكية كانت تعاني من مشكلة التبادل الأفقي للمعلومات بينها، وهو ما أخّر وصول الكثير من المعلومات السرية المهمة إلى مكتب التحقيقات الفدرالي.
وهناك سبب إضافي هو ضعف قدرات أجهزة الأمن عموماً في التعامل مع اللغات الأخرى، إذ كانت أقصى طاقة السي آي إيه في ترجمة المواد التي تم اعتراضها وتسجيلها لا تتجاوز نسبة الـ30%، وبالتالي تراكمت العديد من التقارير بدون ترجمة لفترة طويلة.
وهذا ما حدث أيضاً في وكالة الأمن القومي NSA التي لم تكتشف المكالمات التي تم تسجيلها لأفراد من القاعدة من أمريكا إلى أحد مراكز التنظيم في الشرق الأوسط إلا بعد الهجمات.
فرضية أن الحكومة غضّت النظر
فرضية أن الحكومة الأمريكية غضّت النظر عن الإرهابيين لتحقق هدفها بإيجاد ذرائع للحروب القادمة تبنّتها وسائل إعلام عربية مختلفة.
وإذا أخذنا مثال السلسلة الوثائقية التي أنتجتها قناة الجزيرة بعنوان "سري للغاية" وقام بها فريق يرأسه الصحافي يسري فودة، لرأينا أوضح نموذج على التعامل مع الحقائق وفق منظور مسبق.
يسرد فودة العديد من التفاصيل والتسلسل الزمني للأحداث بشكل جيّد يدل على عمل دؤوب في متابعة خيوط ما حدث منذ البداية. نعرف خلفيات الإرهابيين، وكيف تطرفوا، وتسلسل لقاءاتهم وتخطيطهم للهجمات وصولاً إلى يوم التنفيذ.
لكن المشكلة فيه هي الاعتماد على مصادر في التحليل أقل ما يقال عنها إنها تفتقر إلى المصداقية. فقد استضاف يسري فودة مايكل روبرت وهو شرطي سابق معروف بتبنيه لنظريات المؤامرة في تعليقاته على العديد من الأحداث. ألّف روبرت كتاباً بعنوان "عبور الحد" ضمّنه ادعاءات لا سند لها، ولكنه كان أهم وجوه وثائقي الجزيرة وردد مقولات خيالية مثل أن نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني أرسل إشارات للتشويش على رادارات حركة الطيران في يوم الهجوم. عاش روبرت حياة مضطربة، ودخل إلى مصحة علاج نفسي، وعانى من الإدمان على الكحول قبل أن ينتهي به المطاف منتحراً عام 2014.
كما استضاف فودة إدوارد إسبانوس، رئيس تحرير موقعExecutive Intelligence Review، هو موقع إخباري يساري محدود الانتشار يعتنق نظرية المؤامرة، وذو مصداقية مهتزة، وينشر مقالات من نوعية اتهام الملكة إليزابيث بإدارة منظمة عالمية لتهريب المخدرات.
ونرى أيضاً تيري ميسون، الصحافي الفرنسي الذي ألف كتاب "الخديعة الكبرى" وجنى من ورائه أموالاً طائلة فقط لأنه وضع عدة إدعاءات لا أساس لها مثل سماع رجال الإطفاء الأمريكيين أصوات انفجارات في الأبراج وهو ما يدل، حسب كلامه، على التفجير المعد مسبقاً.
كما استضاف فودة زغلول النجار، المنظّر في مسألة الإعجاز العلمي في القرآن ليقول لنا إن هناك لجنة أمريكية اجتمعت لسنوات واختارت الحرب على الإسلام، بدون تقديم أية تفاصيل عن هذه اللجنة الوهمية، بطبيعة الحال.
ووصل الأمر بالجزيرة وفريقها إلى الاستعانة بأفلام هوليوود المبنية على سيناريوهات الإثارة لادعاء فبركة أحداث سبتمبر. يستمع المشاهد العربي إلى هؤلاء وهو يظن أنه يستمع إلى خبراء موثوق بهم، ولا يعرف أنهم منعدمو المصداقية.
تحدث فودة عن تأخر ردود أفعال هيئة الطيران المدني الأمريكية وسلاح الجو بنبرة المتشكك. ولكن تسجيلات الاتصالات بين هيئة الطيران والجيش الأمريكي بل وحتى الخاطفين تعطي صورة مختلفة لأجهزة تفاجأت بما لم يكن في حسبانها، وهو ما سبب التأخر في إعطاء أوامر الاعتراض والإسقاط. فالأمر ليس مؤامرة كبرى اشترك فيها كل مراقبي الطيران في ولايات مختلفة ومسؤولو الجيش وعدد آخر لا يحصى من موظفي الحكومة الأمريكية.
أحد النماذج الأخرى على التشويش الذي تقوم به وسائل إعلام عربية ودولية على عقل المواطن العربي هو اللقاء الذي أجرته قناة روسيا اليوم مع "ضابطة الاتصال لدى المخابرات الأمريكية سوزان لينداور" في برنامج "رحلة في الذاكرة" للصحافي خالد الرشد.
تبدأ المشكلة منذ الدقيقة الأولى بتعريف سوزان لينداور. فهذه السيدة لم تعمل يوما للمخابرات الأمريكية ناهيك عن أنها ليست "ضابطة اتصال". سوزان كانت من الساعين إلى تحقيق الشهرة عن طريق توهم القيام بمهمات تحوّل العالم إلى مكان أفضل. عملت لينداور صحافية، ثم في فرق عمل بعض أعضاء الكونغرس.
اتصلت سوزان ببعض العاملين في المجال الاستخباري في واشنطن لتسمع منهم وتعرض تقديم خدماتها ولكن أحداً لم يأخذها بجدية. تواصلت مع البعثتين العراقية والليبية في الأمم المتحدة لتعرض التوسط ونقل الرسائل، وحصلت من حكومة صدام حسين على آلاف الدولارات واستضيفت في بغداد.
وعام 2005، اتُّهمت بالعمل لحكومات أجنبية بدون ترخيص رسمي خلافاً للقانون الأمريكي، وحبست تمهيداً لمحاكمتها، ثم أفرج عنها القضاء عام 2006 لأنها غير صالحة عقلياً للمثول لمحاكمة ويجب أن تعالج من مرض الذهان.
وأيدت قاضية أخرى الحكم عام 2008 وقالت إن لينداو غير مؤهلة عقلياً للمحاكمة لتوهمها صلات غير واقعية بأجهزة الاستخبارات. وعند الإفراج عنها كتبت كتاباً ضمنته ادعاءات لا يعرف مدى صحتها.
رغم كل ذلك، طرح اسمها على المشاهد العربي على أنها ضابطة في الاستخبارات تكشف خبايا المخابرات دونما تدقيق في خلفيتها المرتبكة.
يقول الدكتور ستيفن مارينStephen Marrin، الأستاذ المساعد في جامعة جيمس ماديسون والمتخصص في شؤون الأمن القومي، إن أحداث سبتمبر كانت فشلاً تكتيكياً استخبارياً، وفشلاً استراتيجياً سياسياً.
ويعتبر أن تعاملاً أمريكياً أكثر توازناً مع موضوع القوات الأمريكية في الخليج، والصراع العربي الإسرائيلي، والحصار على العراق كان يمكنه أن يمنع أو يقلل من فرصة حدوث الهجمات.
ويضيف لرصيف22 أن سوء إدارة ما قبل وبعد أحداث سبتمبر سياسياً أفسحت المجال لانتشار نظريات المؤامرة في الشرق الأوسط، ويضيف أن الفشل الاستخباري في حرب العراق لاحقاً أضاف زخماً لهذه النظريات لأن "الناس تعتنق نظرية المؤامرة حين لا تصدق أن أجهزة ضخمة وقوية تفشل في أداء عملها لأسباب غبية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون