شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أسامينا... رواية بشخصيات من دون أسماء

أسامينا... رواية بشخصيات من دون أسماء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 9 سبتمبر 201901:37 ص

لا أسماء في رواية الكاتبة العمانية "هدى حمد" الأخيرة "أسامينا"، فكل الشخصيات تحكي عنها باستخدام صفاتها أو ما يميّزها، فتقول على لسان راويتها: "أمي"، "خالتي صاحبة القطط"، "العمة صاحبة الفص"، "الرجل ذو الشعر الأحمر"، "الصديقة الممتنة"... إلى آخره من كلمات تميّز بها الشخصية عن الأخرى.

ونبقى حائرين أمام هذا في روايةٍ تحتفي في عنوانها بالأسماء، إلى أن يأتينا الردّ على شكل خرافةٍ أو معتقدٍ يؤمن به الناس الذين تحكي الرواية قصتهم، إذ يُعتبر منح المولود اسماً شؤمٌ يمكن أن يجلب له الموت.

"لم يكن لأمي اسم في حلّة خضراء السدر، الأمر الذي حماها من مصير إخوتها الذين ذهبوا جميعاً لمصائر غامضة. بعضهم أكله السحرة، وبعضهم مات بالأمراض. قال الشيوخ لجدتي: لا تسمّيها وإلا خطفها الموت. الموت يعرف الناس بأسمائهم. حصل ذلك حقاً، مات الذين سبقوا أمي والذين أتوا بعدها، وبقيت وحدها تدفع بلاء الموت بأن تكون نكرة".

الحكاية التي تبدأ بانتحار بطلتها، راميةً نفسها في بئرٍ قديمة، هرباً من سيلان الجمل التي تحدث طنيناً لا نهائياً في رأسها، ستعود إلى الماضي، القريب منه والبعيد، لتكشف أسباب هذا الانتحار (هل انتحرت حقاً؟)، وما كابدته تلك البطلة في حياتها حتى قادها إلى هذا المصير. هكذا، نقرأ في الماضي البعيد عن ولادتها في قرية "سيح الحيول"، هي وتوأمها الذكر، الذي أتى ضعيفاً عليلاً، فيما أتت هي قوية معافاة، وظلت طوال الوقت تحتمل نظرات أمها اللائمة التي آمنت أن البنت امتصّت وهي في بطنها عافيةَ أخيها، وقد رفضت الأم تسمية التوأم: "سيأكلهما السحرة ما إن نسمّيهما".

هناك في قرية "سيح الحيول" ستعيش الطفلة من دون اهتمام يذكر، بينما كان اهتمام الأم منصباً على الطفل العليل، ولكنها ستجد تعويضاً عند العمة صاحبة الفص، التي ستعتني بها وتعلّمها الكثير من الأشياء، قبل أن تموت وتهبها كل ثروتها.

وكأنها حياةٌ كل ما فيها فَقْد، أن تفقد حنان أمها وعطفها أولاً، ثم أن يموت توأمها، فالعمّة، ثم الأب وأختاها اللتان ستنجبهما الأم تعويضاً عن الذكر المفقود، إذ يموت الثلاثة في حادث سيارة نجت هي منه بمصادفةٍ غريبة، حين أصرّت على عدم الذهاب معهم، فأصبح بقاؤها وموت الجميع يؤلمها، ولا ينفك يحاصر تفكيرها في مسؤوليتها هي أو علاقتها بهذا الموت الحائم حولها. خاصةً مع السؤال الذي تقوله الأم ذات مرة وتفجّر كل ما يعتمل في داخل الاثنتين، حين تسألها عن أخيها التوأم بعد سنوات طويلة: "لماذا قتلت الولد؟".

هذه العلاقة المشوّهة بين البطلة والأم، ستحكي عنها "هدى حمد" كثيراً في روايتها، ستدور حولها، ستلتف، ستغوص فيها، تبتعد وتقترب منها، تهرب وتعود إليها، ثم في فقرة واحدة تصل بها إلى الذروة، ذروة مشاعرٍ تريد نقلها للقارئ، فتفعل ذلك بجملة واحدة، فنشعر وكأن كهرباء مستنا.

هرباً من كل الجمل التي تطاردها، هرباً من الذكريات والصور والمخاوف والعنف والذاكرة والجروح، ستختار أن ترمي بنفسها في البئر، إذ إن "هنا وحسب يمكن لسيلٍ من الجمل أن يموت"
لا أسماء في رواية "هدى حمد" الأخيرة "أسامينا"، فالأسماء تقتل وتصنع الحظ، لكنها في الجملة الأخيرة ستذكر اسماً وحيداً، في نهاية جد مؤثرة

"على الرغم من كل الجفاء، ما زلت أحتفظ لها بأشياء جيدة قامت بها من أجلي. لا أدري إن كنت أختلق الأمر، ولكن أرغب في تصديق ذلك. تشتري لي ملابسي الجديدة والأحذية، كل شيء تقريباً، وتترك الأشياء قرب سريري كما تترك أشياء مثيرة للتعجب على قبر توأمي. نعم تماماً هذا ما كان يحدث".

ما تظنه الراوية جيداً في علاقتها مع أمها، هو بالضبط أكثر ما يؤلم، أنها دائماً عاملتها كما لو أنها ميتة، كما لو أنها رحلت مع رحيل أخيها، ولذلك -ربما- أرادت أن تموت، كي تعاقب أمها. فجرّبت الانتحار أول مرة ولم تنجح، ثم جرّبته للمرة الثانية بعد وقت طويل فرمت نفسها في البئر.

تراوح الكاتبة بين أزمنة عدة، على الرغم من قصر الرواية، فهي تحكي عن طفولة بطلتها، وعن ماضي أمها قبل أن تولد هي حتى، ثم في قفزات زمنية تحكي عن الوقت القريب قبل حادثة الانتحار: عملها في نادي أيروبيك وحذرها الدائم وحرصها على أن تترك مسافة "المتر" بينها وبين من تدرّبهن، خوفها الشديد من الماء، لدرجة أنها تنظف نفسها باستخدام مناشف مبللة بالماء والصابون، علاقتها المتخيّلة مع الرجل ذي الشعر الأحمر الذي تراقبه من نافذة غرفتها، من دون أن تجرؤ على ما هو أبعد من ذلك.

كما تدمج الكاتبة الكوابيس والأحلام مع كل هذا، فتطالعنا بين بعض الفصول صفحات مكتوبة بخطٍّ غامق، تكتب فيها كوابيس بطلتها اللانهائية، وفيها تذهب إلى الفانتازيا والغرائبية، جاعلة من هذه الفصول القصيرة جمالاً مضافاً للرواية –على الرغم من قسوتها وعنفها- محمّلة إياها الكثير من الرموز والدلالات التي تساعد في فهم الحالة النفسية للشخصية، ودوافع ما تفعله وما ستفعله، وما سيقودها إلى الخيارات التي تختارها.

"أردت أن أخالف القوانين التي تفاهمنا عليها. أردت أن ألفّ يدي حول ذراعها. داهمتها وتعلقت بها، وما كدت ألتقي بعينيها حتى تشظّت أمي كمرآة، ثم تساقطت كقطع زجاج تالف، واحتضنت يدي الهواء في جزء من الثانية".

هرباً من كل الجمل التي تطاردها، هرباً من كل الكوابيس المرعبة، هرباً من الذكريات والصور والمخاوف والعنف والذاكرة والجروح، ستختار أن ترمي بنفسها في البئر، إذ إن "هنا وحسب يمكن لسيلٍ من الجمل أن يموت".

لا أسماء في رواية "هدى حمد" الأخيرة "أسامينا"، فالأسماء تقتل وتصنع الحظ، لكنها في الجملة الأخيرة ستذكر اسماً وحيداً، في نهاية جد مؤثرة، يبقى صداها يرنّ ويبقى الاسم عالقاً وحيداً مفرداً في أذهاننا بعد أن نغلق الرواية.

هدى حمد كاتبة عمانية، صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية، وأربع روايات: "الأشياء ليست في أماكنها" التي حازت عنها المركز الأول في مسابقة الشارقة للإبداع العربي، "التي تعدّ السلالم"، "سندريلات مسقط"، وأخيراً "أسامينا" (الناشر: دار الآداب/ بيروت، عدد الصفحات 136، الطبعة الأولى: 2019)، يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image