بعد اندلاع الثورات العربية، برزت روايات عديدة في البلدان العربية تتناول هذه الثورات، بعضها أخذ طابعاً توثيقياً ذهب نحو تسجيل الأحداث ومجرياتها، وبعضها الآخر اقترب مما جرى دون مباشرة إذ اكتفى بجعله خلفية زمانية ومكانية تدور فيها الأحداث. وربما تكون ليبيا هي البلد الذي وصلنا منه أقل عدد من الروايات التي تعنى بالثورة.
في روايتها الأولى "عايدون" تقترب الكاتبة الليبية "كوثر الجهمي" من الثورة الليبية، وما حصل بعد مقتل القذافي، من خلال حكاية عائلة ممن يطلق عليهم الناس هناك: "عايدون"، إذ إن سكان البلد الذين لم يخرجوا منه يسمّون من عادوا إلى ليبيا بعد أن عاشوا سنوات خارجها بهذا الاسم، في نوع من الاستعلاء عليهم، وفي إشارة إلى أن هؤلاء مشكوك بصفاء عرقهم.
"نعم، أنا من العائدين الذين هاجروا لأسباب متعلقة بالاحتلال الإيطالي، ثم عادوا بعد عودة الوطن إلى أبنائه، ولكن المعنى بالنسبة إليهم لم يقتصر على هذا المفهوم، لقد رأوا في الهجرة خيانة، والعودة طمعاً فيما ليس لنا حق به بعد أن خذلناه! لقد ربطوا مفهوم الوطنية بالبقاء في الوطن، رغم أن الواشين أيام الطليان، هم ليبيون بقوا في أرض الوطن ولم يرحلوا عنه، لا هم ولا ذريتهم. وهم من خذله حق خذلانه، ومن قدمه قرباناً مراراً وتكراراً إلى الفاشيستي".
تنقسم الرواية إلى أربع أقسام، الأول منها وهو الأصغر يروى على لسان "وفاء" جارة العائلة، وهي تروي ما ترويه بعد شهور من اختفاء صديقتها ووالدتها، الذي ترافق مع اختفاء تمثال "الحسناء وغزالة" الذي سميت كل منهما على اسمه. وأما الأقسام الثلاثة الباقية فتروى على لسان الشخصيتين الرئيستين، ويجري أولها يوم الاختفاء وثانيها قبله وثالثها بعده، لنكتشف شيئاً فشيئاً سبب هذا الاختفاء الغامض ومجرياته.
هكذا، نتعرف إلى شخصية الأم "غزالة"، وهي إعلامية متحررة، فقد زوجها في حرب تشاد، فرجعت هي وابنتها "حسناء" إلى بيت والدها "مصطفى الكريتلي"، وهناك كبرت الفتاة الصغيرة إلى أن أصبحت شابة، وورثت تحرر أمها وتمردها. غير أن هذا التمرد سيجلب عليها الويلات، إذ ستتلقى تهديدات عديدة بسبب الانتقادات التي توجهها للكتائب المسيطرة على البلاد بعد الثورة.
تحكي "الجهمي" في روايتها عن الأوضاع في ليبيا بعد سقوط القذافي، وكيف تحوّلت إلى ساحة صراعات، بين جماعات مسلحة مختلفة، كل منها يحاول فرض نفوذه، ويرى في من ينتقده خائناً للثورة ورموزها، وهو بالضرورة من أزلام النظام السابق. هكذا تصبح "حسناء" عرضة لتهديدات من قبل أحد الكتائب التي تنتقدها، ثم عرضة للاختطاف بعد ذلك.
"ينتابنا جميعاً شعور بأنكم نسيتم أهداف الصورة التي ضحيتم من أجلها حسب زعمكم. معظم مؤيدي الثورة يعتقدون يقيناً أن كتائبكم ما هي إلا كتائب القذافي متنكرة بزي جديد وشعارات جديدة (...) الناس الذين كفروا بها هم أولئك الذين شاهدوا بأعينهم خراب مقدرات بلادهم. هم أولئك الذين لم يرتضوا أن تنتقم قبائل من قبائل ومدن من مدن بسبب ضغائن متوارثة لقرون تحت رداء الثورة والأزلام!".
في روايتها الأولى "عايدون" تقترب الكاتبة الليبية "كوثر الجهمي" من الثورة الليبية، وما حصل بعد مقتل القذافي، من خلال حكاية عائلة ممن يطلق عليهم الناس هناك: "عايدون"
لماذا تتلقى بطلة رواية "عايدون" تهديدات من قبل الكتائب المسلحة، وما الذي سيحصل بعد اختطافها؟ من هم الـ"عايدون" في ليبيا؟ وما سبب هذه التسمية التي تطلق عليهم؟ أسئلة تجيب عنها رواية "عايدون" لكوثر الجهمي
الرواية الفائزة بالدورة الأولى من جائزة "مي غصوب للرواية"، تطرح موضوعاً مهماً قلما قرأنا عنه.
تعطي الرواية فرصةً للجد "مصطفى الكريتلي" ليحكي هو أيضاً قصته، من خلال تقنية "الرسالة"، إذ يترك رسالةً لابنته ويوصيها بألا تقرأها إلا بعد موته، ثم تقع هذه الرسالة بيد حفيدته بعد ذلك. وفيها يروي عن والده الذي هرب من جزيرة كريت وأتى إلى ليبيا واستقر فيها، كما يحكي عن الاحتلال الإيطالي للبلد والنضال ضده، وكيف أنه بسبب قتله لإيطالي اضطر للهرب إلى دمشق، وظلَّ هناك لسنوات قبل أن يعود إلى وطنه برفقة زوجته وابنته، فعانوا من وصمة "عايدون" التي لاحقتهم مثل لعنة. كما يكشف في رسالته تلك أحد الأسرار التي أخفاها عن ابنته والمتعلقة بزوجها، وهي ستقوم أيضاً بإخفائها عن ابنتها بعد قراءة الرسالة، وهذا ما سيؤثر في علاقة الاثنتين بعد أن تقع الأوراق في يد "حسناء" بالمصادفة وتقرأ ما فيها.
ما يمكن أن نقوله في مديح هذه الرواية التي فازت بجائزة "مي غصوب للرواية" في دورتها الأولى 2019، والتي تنظمها دار الساقي وتشرف عليها، أنها تقدّم لنا صورة عن المجتمع الليبي، وعن الوضع هناك الآن بعد الثورة، دون أن تنحاز لطرف أو فريق، وهي من الروايات القليلة التي وصلتنا عن هذه الثورة كما أسلفنا.
ولكن، ربما يمكننا أن نأخذ عليها بعض النقاط أيضاً، فالكاتبة التي اختارت أن تكتب روايتها بتقنية تعدد الأصوات لم تستطع أن تخلق لكل صوت منها بصمته الخاصة، فكانت الفصول المكتوبة على لسان "حسناء" تحمل الصوت نفسه للفصول المكتوبة على لسان "غزالة" أو غيرها، وما يمكن الاستدلال به على تغيّر الشخصية الراوية إضافة للاسم المسجل أول الفصل، هو مواقف كل منهما المتباينة، والأحداث التي تجري مع كل شخصية. يضاف إلى ذلك، أن الرواية استنفدت ما تريد قوله باكراً، فجاءت بعض الفصول وبخاصة في القسم الأخير زائدة، وتكرار لما سبق وأن قيل في الرواية.
كوثر الجهمي كاتبة ليبية. حاصلة على بكالوريوس في الهندسة المدنية. وهي كاتبة ومحررة في منصة "فاصلة" للكتاب الليبيين. و"عايدون" هي روايتها الأولى. الناشر: دار الساقي/ بيروت. عدد الصفحات: 176. الطبعة الأولى: 2019
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...