"إنه الحب إن كنت جاهله/ بحر تغير علينا سواحله/ داء عضال لا ذقته قاتل/ أمر عظيم لا شيء يماثله"؛ في حبّ آل البيت يعيش المصريون يومهم -حسب القول- مع عاطفة جياشة متجذرة في النفوس لا علاقة لها بالمذاهب أو الاتجاهات أو الآراء السياسية، غايتها ليس إلا قربى في حضرة الحبيب وآله.
"شيء لله يا آل البيت/نفحة يا أسيادنا/نظرة يا ست/مدد يا بنت النبي"، كلماتٌ تتردد في المقامات والأضرحة والمشاهد، تطوف على ألسنة الزائرين منهم مع التوسّل والتبرك والدعاء والمجاورة.
الزغاريد (ومفردها زغرودة)، والتي هي صوت الولولة، تصدر بالتحريك الجانبي للسان داخل الفم على أن يكون متتابعاً، هي لسان حال النساء داخل المقامات الطاهرة، سيدة المشهد عن جدارة، فعل إن صادف وحدث وكنتم من المواظبين على الزيارة فستكتشفون سحراً، له في أرواحكم ما للشوق في القلب.
وفقاً لآخر إحصائيات وزارة الثقافة المصرية، فإن عدد المقامات والأضرحة لما يسمى أولياء الله الصالحين وآل البيت يصل إلى ما يقارب 6 آلاف ضريح، وهو ما جعل البعض يطلق على مصر لقب "المحروسة" المشهور.
تجدر الإشارة إلى أن ظهور تلك المقامات والإضرحة يعود إلى عصر الدولة الفاطمية التي كان لها قصب السبق في بناء تلك الأضرحة، وتجديد القديم منها، والاهتمام بها تخليدًا لذكرى الأشخاص أصحاب السير الطيبة.
كنتُ كبطل فيلم سارق الفرح للمخرج داوود عبد السيد الذي تسلق الجبل لأجل قضاء حاجته التي جاء بها إلى سيده صاحب المقام أبي العلامات، ذقتُ المحبة مرارًا، وعرفت، واغترفت ما استطعت من المحبة التي رأيت
وهناك فرق واضح ومعلوم ما بين الضريح والمقام، فالضريح مبنى معماري يشيد على قبر أحد الأشخاص تخليدًا لذكراه أو كما في القاموس المحيط، هو: "القبر الموجود في مكان مُسيج أو بناء يبنى خصيصًا له، ويختلف المقام عنه من ناحية أنه ليس بالضرورة أن يكون المَقام مكان دفن أو قبر بل من الممكن أن يكون مكان إقامته في يوم من الأيام أو مكان ممارسة الطقوس الدينية كالصلاة كما هو في مقام إبراهيم داخل المسجد الحرام بمكة، أو كان قد مر عليه في يوم من الأيام، ومن ثم اشتهر هذا أو ذاع بين الناس على أنه أحد مقاماتهم فيشاد على هذا المكان بناءٌ أو مكان عبادة دينيٌّ لكي يزوره الناس."
ولأنها الملجأ والملاذ المفتوحة أبوابه أمام الناس من كلّ صوب وحدب من تلك الحياة الضاغطة الصارخة بمادياتها في وجوههم المتعبة، فإن الكثير من المواطنين يذهبون إليها للتبرّك بها والتوسّل إاتماسًا للسكينة والهدوء، وصلاح الحال والتوفيق في مجريات الأمور؛ فالروحانيات الصاعدة منها داخلهم غالباً ما تكون مُسكنًا مُجربًا جيد المفعول لما لها من ارتباطات شرطية وتراكمات ذهنية مرجعها أمور مختلطة بالقدسية والتصوف والعاطفة الداخلة في تكوين الشخصية المصرية.
إلا أن الكثير من أصحاب النفوس الضعيفة، يستغلّون ارتباط المصريين بآل البيت والأولياء الصالحين وأضرحتهم ومقاماتهم في جمع الأموال دون عناء منهم يذكر، بالإضافة إلى الترويج للخرافات والأساطير، ومنهم طوائف غالباً ما يطلق عليهم العامة لقب "المقاطيع"، أي المقطوع من كلّ شيء.
توجّهتُ منذ أيام مع إحدى العوائل الراغبة، المبتغية زيارة أضرحة ومقامات آل البيت والأولياء الصالحين بالقاهرة لأغراض شخصية، فالناس ما زالت تؤمن بكرامات وسخاء الأولياء الصالحين، أمر مغروس في النفوس، لا مناص منه، ولا فكاك.
في مدينة القاهرة، مدينة الألف مئذنة التي يعود تاريخ إنشائها إلى مراحل الفتوح والغزو الإسلامي لمصر، ثم إنشاء العباسيين لمدينة العسكر، فبناء ابن طولون لمدينة القطائع، ومع دخول الفاطميين مصرَ قادمين من المغرب، شرع القائد جوهر الصقلي في بناء العاصمة الجديدة وأطلق عليها اسمها الحالي ولازال
وفي مدينة القاهرة، مدينة الألف مئذنة التي يعود تاريخ إنشائها إلى مراحل الفتوح والغزو الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص عام 641م. وإنشائه مدينة الفسطاط، ثم إنشاء العباسيين لمدينة العسكر، فبناء ابن طولون لمدينة القطائع، ومع دخول الفاطميين مصرَ قادمين من المغرب، شرع القائد جوهر الصقلي في بناء العاصمة الجديدة للدولة بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في عام 969م. وأطلق عليها اسمها الحالي ولازال، وذلك وفق ما ذكر عبد الرحمن زكي في كتاب "بناة القاهرة في ألف عام"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وجدت طريق الأولياء أو شارع الأشراف كما يطلقون عليه، كونه يحوي أضرحة ومقابر أحفاد النبي من نسل الحسن والحسين، ومقامات عدد من الأولياء الصالحين، فمن حيّ الخليفة بمنطقة السيدة زينب وتحديدًا من مقام علي زين العابدين أو علي السجاد يبدأ الطريق، وينتهي عند ضريح السيدة نقيسة، نفيسة العلوم، ابنة الحسن الأنور بن زيد بن الحسن، حفيدة الرسول، مرورًا بضريح ومقام الست، أم العواجز، الرئيسة، صاحبة الشورى، السيدة زينب بنت علي أو زينب الصغرى كما يطلق عليها، ثم أضرحة كلٍّ من السيدة رقية ابنة الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق، والسيدة عاتكة ابنة نفيل العدوية زوجة عبد الله بن أبي بكر الذي كان واليًا على مصر، ثم لعُمر بن الخطاب، فالزبير ابن العوام، وكذلك إلى جوار مقامها يرى مقام السيد علي الجعفري بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، وهو شقيق السيدة عائشة صاحبة المسجد الشهير بالقاهرة، وبجوار مقامه يسكن ضريح السيدة سكينة بنت الامام الحسين، حفيد النبي، والتي نزلت مصر مع عمتها السيدة زينب بنت علي وبقية آل البيت بعد موقعة كربلاء.
أضرحة ومقامات عديدة، تأخذ بحالها وتاريخها ألبابَ الزائرين بمجرد الدخول من عتباتها، إلا أن لزينب مني مكانة كبرى، لا يضاهيها أحد، تذكرتُ معها عند الزيارة أحوال حياتي التي عشتُ في كنفها لمدة سنة كاملة، جاورتُها فيها، لا لرغبة في شيء، اللهم إلا سكينة وهدوء لروحي المضطربة.
كنتُ كبطل فيلم سارق الفرح 1995 للمخرج الكبير داوود عبد السيد الذي تسلق الجبل لأجل قضاء حاجته التي جاء بها إلى سيده صاحب المقام أبي العلامات، ذقتُ المحبة مرارًا، وعرفت، واغترفت ما استطعت من المحبة التي رأيت.
رأيتُ بعيني والتقطتُ بعدستي من القصص والحكايا الإنسانية التي شابتها الهموم والرغبة، فما بين سيدة أخذ بها الوجد وأخرى طلبتْ وتوسلت، وجدتُ أخرى ترفع وليدها لأجل الحصول على البركة له، وأخرى تزغرد فرحًا بالقدوم إلى المقام الطاهر
ففي المشهد الحسيني العامر، ختامًا للزيارة، وهو للإمام الحسين بن علي، والواقع بمسجده بحي الجمالية بالقاهرة القديمة، والمكتمل بناؤه في عهد الفاطميين في عام 1154م، المحتوي على رأسه التي يروي المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروفة بالخطط المقريزية، أن الفاطميين قرّروا حمل الرأس من عسقلان إلى القاهرة، وبنوا له مشهدًا كبيرًا هو القائم الآن في الحي الحسين في القاهرة الذي تمّ تسميته تنسيبًا له، وذكر ذلك أيمن فؤاد سيد، في كتابه "الدولة الفاطمية في مصر، تفسير جديد" الصادر عن مكتبة الأسرة، بالقاهرة.
رأيتُ بعيني والتقطتُ بعدستي من القصص والحكايا الإنسانية التي شابتها الهموم والرغبة، فما بين سيدة أخذ بها الوجد وأخرى طلبتْ وتوسلت، وجدتُ أخرى ترفع وليدها لأجل الحصول على البركة له، وأخرى تزغرد فرحًا بالقدوم إلى المقام الطاهر.
هذا غير الكثير في ركن الرجال خصوصًا الواقع في حضرة ضريح ومقام السيدة زينب، والذي يعتبره الكثيرون من أهمّ المزارات في العالم الإسلامي، ولأنها أمّ العواجز، توسّل عندها لله زائروها، ومدحها محبوها بأبيات تمايل معها وذهب كلُّ من رأى أضواء نورها.
بعد أن ذهب الفؤاد بما رأى أخذتُ الإذن من مرافقي لأجل الذهاب إلى مقامٍ على الشباك بمسجد الرفاعي، المنسوب إلى العارف بالله السيد أحمد الرفاعي المدفون بالعراق، والقائم مسجده العامر حاليًا بميدان صلاح الدين بحيّ الخليفة بجوار مسجد السلطان حسن بالقاهرة القديمة.
ويبدو أنني كنتُ سعيدَ الحظّ، حيث وجدتُ في زيارتي جمعًا من الرجال والنساء والأطفال معًا، أعمار لا تفرقها حواجز كما هو الحال في ضريح السيدة زينب والمشهد الحسيني، كانوا جالسين، يمدحون وينشدون طربًا في حب آل البيت والأولياء وصاحب المقام.
الشاهد في الأمر، هو الحبّ الجمّ الجامع لكلّ هؤلاء الناس الذين وجدتُ في زيارتي تلك من طبقات وشرائح عمرية مختلفة، المانحين بأحوالهم عطايا لا حدود لها، معها تفتّح وعيي وذهني أكثر، قبل أن أعود لأنغمس في وتيرة الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي