"الأمازون تحترق" هكذا عنونت وسائل الإعلام الخبر خلال الأسابيع الماضية، حرائق استمرت لأيام طويلة قضت على مساحاتٍ شاسعة من غابات الأمازون، المهمّة للغاية للنظام البيئي في كوكب الأرض، والتي تحتوي على ملايين الأنواع الحيّة، معظمها غير معروف للإنسان. لكنّه خبر خاطئ، أو يجدر بي القول، إنّ صياغة الخبر خاطئة. غابات الأمازون لا تحترق. غابات الأمازون المطرية يتم إحراقها بشكل مقصود لأسباب اقتصادية.
الحرائق الطبيعية جزء من النظام البيئي، كل سنة تشتعل حرائق في غابات الأمازون وفي غاباتٍ أخرى حول العالم، لكن حرائق هذا العام هي حرائق مفتعلة غير طبيعية. تتردّد الأخبار بشكلٍ متواتر عن قيام مزارعين بافتعال هذه الحرائق من أجل تحويل الغابات إلى أراضٍ زراعية ومراعٍ للماشية، فالأمازون البرازيلية هي أكبر مصدر عالمي للماشية، وعندما نحكي عن الماشية والمزارعين لا نقصد تلك الصورة الرومانسية لمزارعٍ يملك بعض الأبقار والأغنام، بل نحكي عن شركات كبيرة عابرة للقارات تساهم في الاقتصاد العالمي وتؤثر به سلباً وإيجاباً. بالطبع، اقتصادياً، قيمة غابات الأمازون المطرية تكاد تكون معدومة وهي على حالها هذه كغاباتٍ مطرية، في حال قورنت بحالتها لو تحولت إلى أراضٍ زراعية ومراعٍ للماشية.
لماذا حدث ما حدث في البرازيل بالتحديد؟ لأن الرئيس الجديد جايير بولسونارو، أو ترامب البرازيل، حين تولى زمام السلطة قلّص اهتمام الحكومة البرازيلية بحماية الأمازون، في مقابل دعم مشاريع تنموية لها آثار مدمرة على البيئة، مثل إيجاد مساحات جديدة للمراعي تدفع الاقتصاد البرازيلي نحو الأمام، وإقامة سدود مائية وطرقات سريعة، فشجّعت الحكومة الجديدة الممارسات غير القانونية، من قطع للأشجار والزراعة غير المنظمة إضافة إلى تخفيض عمليات التفتيش والتخفيف من الضوابط القانونية، وتجاهل عمليات الاستيلاء غير المشروع على الأراضي، حيث يتم اقتطاع جزء من الغابات وحرقها ومن ثمّ تعشيبها وبيعها لأصحاب المواشي.
ما قام به الرئيس البرازيلي هو ما سبق حدوثه في كثير من دول العالم، في أمريكا مثلاً تقلّصت مساحات الغابات خلال الخمسين سنة الأخيرة إلى نسبة لا تكاد تذكر مقارنة بما كانت عليه سابقاً، وذلك يعود على الأرجح، إضافة إلى الأسباب الاقتصادية والرغبة في الربح السريع الكثير، إلى ميلٍ إنساني بالشعور بالتفوق ورغبة البشر بجلب "حضارتهم" وأسلوبهم المتفوق في الحياة إلى هذه "الأدغال المتخلفة"، فيتم فتح طرقات سريعة وبناء جسور ومدن على حساب الحياة الطبيعية، ما يؤدي إلى القضاء على ملايين الحيوانات والنباتات من أجل جلب "حضارة" الإنسان إلى هذا المكان "المتخلف".
مثلاً، قام الرئيس البرازيلي في بداية شهر آب/ أغسطس بطرد رئيس المعهد الوطني للفضاء والأبحاث، لأنه قال إن نسبة التصحّر ازدادت في البرازيل بنسبة 40% مقارنة بالعام السابق. وفي مثال آخر، قال الرئيس البرازيلي إن سبب الحرائق الأخيرة مفتعل، وقد افتعلتها منظمات بيئية من أجل جعله يظهر بصورة سيئة. هكذا مثال، لا يقارن إلا بما قالته بثينة شعبان، مستشارة القصر الجمهوري السوري الإعلامية، سنة 2013، إن المعارضة السورية قصفت نفسها بنفسها بالكيماوي حتى يظهر النظام السوري بصورة سيئة.
لماذا حدث ما حدث في البرازيل بالتحديد؟ لأن الرئيس الجديد جايير بولسونارو، أو ترامب البرازيل، حين تولى زمام السلطة قلّص اهتمام الحكومة البرازيلية بحماية الأمازون
ما تقدمه الأمازون لكوكب الأرض كبير، فهي تنتج الأوكسجين وتحافظ على التنوع الحيوي وتقدم المسكن لمئات الآلاف من السكان الأصليين والعاملين في المنطقة، إضافة إلى إنتاجها الغزير للأمطار في منطقة أمريكا الجنوبية والوسطى وحتى الشمالية، فضلاً عن حفاظها على معدلات الحرارة المعتدلة في أمريكا الجنوبية بشكل عام، وفي البرازيل بشكل خاص. تذكر بعض التقارير أنه لولا غابات الأمازون المطرية لكانت درجات الحرارة في البرازيل أعلى من درجات الحرارة في منطقة الخليج العربي، بسبب استقبال البرازيل لأشعة شمس أكبر من تلك التي تستقبلها بلدان الخليج العربي.
ما تقدمه غابات الأمازون هو لمصلحة جميع سكان الأرض، لكن اليمين البرازيلي، بما فيهم الرئيس بولسونارو، لا يقبلون بـ"أشياء" كهذه، إذ أن البرازيل لا تحصل على أجرٍ مقابل ذلك، لأن "ما تنتجه الأمة البرازيلية يجب أن يبقى للأمة". المضحك المبكي هنا هو عدم قبول أولئك اليمينيين للسكان الأصليين المقيمين في غابات الأمازون، كجزءٍ أساسي من الشعب البرازيلي، فمثلما أُثبت في أماكن كثيرة في العالم: إن الوطنية والفاشية والعنصرية يمشون يداً بيد.
من وجهة النظر اليمينية هذه، فإن أي اهتمام عالمي بما يحدث في البرازيل، ومنها الاهتمام بالحرائق الأخيرة، هو تهديد لـ"الأمة البرازيلية" وتدخّل في شؤونها الداخلية.
ما قام به الرئيس البرازيلي هو ما سبق حدوثه في كثير من دول العالم، بتقليص مساحات الغابات، وذلك يعود على الأرجح، إضافة إلى الأسباب الاقتصادية والرغبة في الربح الكثير، إلى ميلٍ إنساني بالشعور بالتفوق ورغبة البشر بجلب "حضارتهم" إلى هذه "الأدغال المتخلفة"
المسؤولية تقع على عاتقنا جميعاً، وهذا لا جدال فيه، لكن ومع حملات التوعية الشعبية يجب أن يكون هناك حملات ضغط أكبر على الحكومات كي تخفّف صناعاتها غير المجدية (صناعة الأسلحة التي تقتلنا مثلاً) وأن تلتزم بمعايير بيئية موجودة وواضحة في صناعاتها الأخرى
مبالغات وأخطاء عن الأمازون
لا شك أن ما حدث في غابات الأمازون من حرائق هو كارثة بكل ما تعنية كلمة كارثة من معنى، إذ بلغت حرائق الغابات المطرية الأخيرة مستويات قياسية، بزيادةٍ تفوق حرائق العام الماضي بنسبة 83%، وقد شكّلت هذه الحرائق صدمةً عالمية، فانتشرت أخبار هذه الحرائق كسيلٍ احتلَّ قنوات الأخبار والمواقع الإلكترونية والصحف اليومية ومواقع التواصل الاجتماعي، مزيحةً أخبار الكوارث الأخرى التي تحدث كل يوم في بقاع مختلفة من العالم. ترافقت هذه الأخبار مع معلوماتٍ مغلوطةٍ وصور مركبة للحرائق، وكأن الأخبار الكاذبة تفيد هذه القضية والمبالغة في الموت تزيد من صعوبة الموت.
مثلاً انتشر هذا الخبر انتشار النار في الهشيم، حتى أن موقع رصيف22 ذكر الخبر اعتماداً على مصادر عالمية، يقول الخبر مثلما نشره موقع رصيف22: "غابات الأمازون غالباً ما يشار إليها باسم "رئتي كوكب الأرض"، ويرجع ذلك إلى أنها تنتج قرابة 20% من الأوكسجين الموجود في الغلاف الجوي للأرض".
في الحقيقة، هذه معلومة مغلوطة، إن أكثر منتج للأكسجين في العالم هي العوالق البحرية، إذا تنتج ما يقارب نصف الأوكسجين الموجود في الأرض، بينما لا تنتج غابات الأمازون أكثر من 6% من الأوكسجين، وذلك لأن إنتاج الأوكسجين من نمو النباتات يقابله التحلّل الناجم عن موت النباتات. كما أن الأوكسجين الموجود في الغلاف الجوي هو تراكم لإنتاج ملايين السنين من الأوكسجين، ولن تؤدي خسارة غابات الأمازون إلى تقلص في مستويات الأوكسجين على الفور، لذلك فالقول إن حرائق غابات الأمازون المطرية هي تهديد لكميات الأوكسجين الموجودة في الأرض هي مبالغة غير دقيقة علمياً.
الذنب والمسؤولية
انتشرت منذ أيام تغريدة لشاب مصري يقول فيها ما معناه، ما الذي تريدونه من شابٍ معدمٍ عاطلٍ عن العمل، في دولة من دول العالم الثالث لا توفر له أبسط متطلبات الحياة؟ لماذا تجعلونه يشعر بالذنب لأن حرائق حدثت في الأمازون؟
صحيح أن "المشكلة الوحيدة التي تواجه البشر، كلهم، في كل أصقاع الأرض، هي المشكلة البيئية، عاجلاً أم آجلاً على كل فردٍ منا أن يواجه هذه المشكلة" وصحيح أن طريقة حياتنا الاستهلاكية يجب أن تتغير الآن وفوراً من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة طبيعية وحيوية على الأرض، لكن من ناحية أخرى، ما ذنب شخص يعيش في السودان أو سوريا أو اليمن أو مصر أو بنغلادش أو الهند أو إفريقيا الوسطى، في كل هذه التغيرات البيئية؟
ما ذنب أولئك الناس في انسحاب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ وعدم التزام الدول الكبيرة بالتزاماتها البيئية؟ ما ذنب أولئك الناس عندما يستهلك مواطن أوروبي ماءً في يوم واحد، يكاد يكفي قرية كاملة في ريف مصر مثلاً لأسبوع كامل؟ ما ذنبنا، وذنب استهلاكنا الفردي الذي يكاد يكون معدوماً مقارنة بما تستهلك منشأة نووية واحدة؟ أكاد أجزم أن ما استهلكته طوال حياتي أنا وجيراني وأصدقائي وعائلتي من ماء، أقل بكثير مما استهلكته تجربة روسية النووية الأخيرة.
المسؤولية تقع على عاتقنا جميعاً، وهذا لا جدال فيه، لكن ومع حملات التوعية الشعبية يجب أن يكون هناك حملات ضغط أكبر على الحكومات كي تخفّف صناعاتها غير المجدية (صناعة الأسلحة التي تقتلنا مثلاً) وأن تلتزم بمعايير بيئية موجودة وواضحة في صناعاتها الأخرى. علينا أن نخفّف استهلاكنا، وعلى المُصنّعين والشركات الكبرى أن يخففوا صناعتهم، والأهم من كل شيء ألا نترك دكتاتوريين مثل بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، لحكمنا وإبعادنا عن قضايا عالمية مثل القضية البيئية، وألا نسمح ليمينيين أغبياء، مثل دونالد ترامب وجايير بولسونارو، أن يتحكّموا بهوائنا ومائنا وبيئتنا المحيطة بنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...