"في التاسعة من عمري وبينما أمشي في حديقة المدرسة، نادتني المعلمة فاطمة إلى قاعة الموسيقا، كانت في القاعة طفلةٌ جميلة تقف فاردةً يدها اليمنى، أماما ولدٌ أدار ظهره وعلاماتُ التجهّم باديةٌ عليه، المعلمة قالت لي: جريتلي تبوس إيد سعاد؟ أجبتها: "نعم أبوس إيد سعاد"، فردّت المعلمة: سعاد هي الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث واِنت الخديوي اسماعيل والمناسبة افتتاح قناة السويس.. ومن يومها ما بطلتش أبوس إيد سعاد".
حديثٌ للفنان حسن الجريتلي عن أول مشهد مسرحي نفذّه عندما كان في الصف الثالث الابتدائي، ليبدأ معه رحلةً فنية لم تتوقف حتى اللحظة، كانت أهم إنجازاتها "فرقة الورشة"، أسسها عام 1987 فأصبحت مصنعاً للنجوم، وقودُه موهبةٌ ومخزونٌ لا ينضب من فنون التراث المصري، كالغناء، الحكي، خيال الظل، التحطيب. أطلقت الورشة أسماءَ لمعت في فضاء الفن ودعموا صورة الورشة عبر العقود الماضية، منهم عبلة كامل، أحمد كمال، سيد رجب، عارفة عبد الرسول.
أين وصلنا
للتو عاد ابن الواحد والسبعين عاماً من مهرجان أفينيون المسرحي في فرنسا كانت ثيمتُه الأساسية موضوع الهجرة واللجوء، يحدّثنا عن شراكة بين فرقة الورشة وبين "المسرح القومي لاستراسبورغ" في فرنسا، يقوم على ذات الفكرة لتدريب عدد من الشبان المصريين والتبادل الثقافي بين البلدين.
في وقتٍ يبدأ العملَ مع الجيل الرابع لفرقة الورشة، شبابٌ قدِمُوا من بيئات ثقافية مختلفة ليتعلموا فنون المسرح، ويصقلوا مواهبهم مع الوقت والمِران. عن أجيال الورشة الأخيرة يقول الجريتلي "جيل الورشة ما بعد ثورة يناير، أكثرُ التزاماً، هم غير مهووسين بوهم الشهرة، يشعرون بأن الفن منطقتهم الوحيدة التي يستطيعون من خلالها اتخاذ القرارات وتحديد المواقف بحرية".
لا توجد معاييرُ محددة للالتحاق بالورشة، بحسب الجريتلي "ينضم إلينا الشباب حاملين بعض الموهبة، وعبر اللقاءات والتدريبات اليومية تحصل عملية تلاقح للأفكار والمعلومات، فتحقق الورشة المرجوَّ منها" لطالما كان هدف الفرقة –كما اسمها- التعاون والتبادل بعيداً عن مفهوم التلقين، مؤكداً أنه ليس مدرِّباً بل "أنا مكتشف المواهب التي تحمل جوهر الفن، أعثر عليها ثم أنحت بها كي يخرُج مابها من جمال بالاعتماد على عنصر الزمن".
التدريب على المسرح الشامل أحدُ ركائز فرقة الورشة منذ تأسيسها، قماشةُ هذا التدريب التراث والثقافة الشعبية "لا يوجد شيء من نتاج خيال الشعب المصري، أو ما يسمى الثقافة الشعبية العامة إلا وعملنا عليه، التحطيب -رقص العصا- كافة أنواع الغناء والنواح والعديد، والنكتة وأغاني الحب الفرعونية وغير ذلك " يقول حسن الجريتلي مؤكداً أن الحكي كان المحور "المصريون لديهم فن واحد هو الحكي، هم يشعرون بالحياة عندما يحولون يومياتهم غير المستساغة إلى مادة مستساغة لأجل التواصل مع الآخرين، التواصل الذي يشكل القيمة الرئيسية للحياة عندهم. شهرزاد كانت تحكي كي تعيش ونحن نحكي كي نشعر بالحياة".
من أعمال الورشة التي اتكأت على الحكي، موال حسن ونعيمة والسيرة والهلالية وغيرها من الحكايات الشعبية التي يعتبرها الجريتلي ثروةً يجب العمل عليها وليس فقط التطرق إليها بشكل زخرفي "عبر تاريخ الورشة نهلنا من التراث سواء على مستوى المادة أو الروح أو بناء العمل المسرحي ذاته. التراث هو بالنسبة لنا هو تناقل النار وليس عبادة الرماد، التراث هو النار المتقدة". كذلك تهتم الورشة بتجديد أدواتها كالجسد والمساحة والسينوغرافية.
كان خيال الظل أحدُ الفنون الذي قدمته الورشة أيضاً بداية انطلاقها، كما في مسرحية "داير داير" التي عُرضت بين عامي 1983 و1992، بحسب النقاد اعتُبرت من أهم المسرحيات العربية في القرن العشرين إلى جانب مسرحية "غزير الليل" 1994، المستوحاة من السيرة الهلالية التي كانت منهلاً لأعمال الورشة بين عامي 1994 و2002.
"بعد 32 عاماً صعوباتُ البقاء تزداد، فالاستقلال كفرٌ في بلاد كبلادنا، يجب أن نكون جزءاً من الرائج وإلا فلن تتوقف الحرب ضدنا" يقول حسن الجريتلي عن التحديات التي تواجه الورشة في ظل ضيق مساحات الاستقلال الفني في مصر، مشيراً إلى أن الورشة أكثرُ فرقة مسرحية مصرية مثّلت مصرَ خارجاً، وأكثرُ من دعم الفنون المستقلة "تجربتنا شرّعت الأبواب لفرق كثيرة تشجعت ومشت على نهجنا، دعمنا وساعدنا الكثير من المشاريع المستقلة التي أخذت الشجاعة من مثابرتنا واستمراريتنا.
نحن نشكّل هيكلاً صغيراً داخل مجتمع غارق بالكثير من المشاكل، وإقامةُ جسم صحي داخل آخر متهالك أمرٌ غاية في الصعوبة، فالمجتمع سيرخي ثقله علينا، الأمر الذي يجعل طريقنا أصعب، خاصة في ظل غياب التمويل".
رغم ذلك لم يفقد مدير الورشة وأعضاؤها الأمل، فلا يزال في جعبتهم العديد من الخطط والمشاريع كي يقدموها، إيماناً منهم بأهمية الفنون والثقافة في إحداث التغيير حتى لو بعد حين.
لا يوجد شيء من نتاج خيال الشعب المصري، أو ما يسمى الثقافة الشعبية العامة إلا وعملت عليه فرقة الورشة، التحطيب، كافة أنواع الغناء والنواح والعديد، والنكتة وأغاني الحب الفرعونية وغير ذلك
خطواتٌ ومشاريع عديدة تنتظر فرقة الورشة، أحدها عن السيرة الهلالية، إعادة صياغة الجزئين الأول والثاني بفتح مساحات داخلَ السيرة تعني مجتمعاتنا العربية كالرحيل والهجرة والتعصب والحنين
قبل الورشة
يعود بنا حسن الجريتلي إلى نشأته التي عززت اهتماماته الفنية، الأم اسكتلندية، والوالد مصريٌ عمل مفوضاً بالأمم المتحدة، ويتكلم 5 لغات، لم يرُق له أن يرقص ابنَه الباليه لكن دعم موهبتَه المسرحية. درسَ الجريتلي المسرحَ في جامعة بريستول في انكلترا، في وقت الإجازات كان يعمل في المسرح الفرنسي، ليستقرَّ في فرنسا بعد تخرجه، ويعمل في المركز المسرحي القومي لإقليم الليموزا من 1972 إلى 1982، لم يجد نفسه بالتمثيل، فعمل نائب مدير فرقة مسرحية قامت على فكرة اللامركزية، تقديم العروض في قرى ومدارس الإقليم، والذهاب للجمهور بدلاً من انتظاره، كذلك فك وتركيب العروض، بمعنى تقديم العروض الكلاسيكية بلغة مسرحية تناسب الجمهور المُخاطَب. كلُّ ذلك شكّل بذرةً لبناء فرقة الورشة فيما بعد.
عن تلك الفترة يحدثنا الجريتلي "خلال عملي في فرنسا كنت أعود بانتظام إلى مصر، أتابع الحركة الفنية والمسرحية، وعندما امتلكت الصَّنعة التي سافرت لأجلها، بدأ قرار العودة يتشكَّل، عززه الحنين للوطن". قبل رجوعه إلى مصر عام 1982 درس الجريتلي ماجستير بالسينما في جامعة السوربون، ليعود ويعمل مع مخرجين منهم يوسف شاهين ويسري نصرالله، كما عمل مع فنانين كأمينة رزق وسميحة أيوب وداليدا وعبد العزيز مخيون.
خلال ذلك الوقت انتشر ما يسمى "مسرح الشارع" القائم على جعل المسرح قريباً من الناس، كان يقدمه عددٌ من الشباب منهم أحمد كمال وعبلة كامل سيد رجب ومنحة البطراوي، نفذَّ الجريتلي معهم العديد من العروض، كانت نصوصاً أوربية قام بتمصيرها وعرضها، منها "العشيق" و"نوبة صحيان" و"الخادم الأخرس".
بعد تقديمهم عرض "يموت المعلم" المأخوذة عن نصّ نمساوي، خلال فعالية في معهد غوته، اقترح حسن الجريتلي أن يستمرَّ عرض المسرحية تحت مسمَّى يجمع الأعضاء بفرقة ستحيا بعد ذلك لأكثر من 3 عقود وتتوالى عليها الأجيال. أطلَقَ عليها اسم "الورشة" تيمناً بورشة سيارات كائنة تحت بيته، لطالما جذبه فيها شكلُ العمل القائم على التكامل والتواصل بعيداً عن التراتبية، الأمر الذي ترجمه في الورشة خلال رحلتها المستمرة حتى اللحظة.
رغم التحديات التي تعيشها الورشة كما جميع الفرق المستقلة في مصر، لاتزال –كما قيل عنها- "مصنعا للنجوم" ومكاناً يفرد مساحته الأكبر لنحت المواهب وتطويرها. خطواتٌ ومشاريع عديدة تنتظر الفرقة، أحدها عن السيرة الهلالية، إعادة صياغة الجزئين الأول والثاني بفتح مساحات داخلَ السيرة تعني مجتمعاتنا العربية كالرحيل والهجرة والتعصب والحنين. تزامناً مع ذلك، تستمر فنون أخرى كالتحطيب، يضم الجيلَ السادس من كافة الأعمار، يقدم عروضه في أنحاء مصر والعالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين