هل سبق أن رأيت مجموعة من الملثمين يمسكون بجيتارٍ إلكتروني؟ ملثمون بلا سلاح، سلاحهم الموسيقى، يسبحون في صحراء أفريقيا يغنون للوطن والغربة، نعم: ملثمون بدون بنادق ولكن سلاحهم الموسيقى.
تيناريوين أو "Tinariwen" هم مجموعة موسيقية من طوارق أزواد وتعتبر طليعة الفرق الموسيقية التى استطاعت تطوير البلوز الأفريقي باستخدام آلات عصرية مثل الجيتار الإلكتروني، وكلمة تيناريوين تعني في لغة الطوارق، التماشيك، "الصحارى" والمفردتينيري، أي الصحراء.
كنت جالساً في غرفتي في إحدى ليالي الصيف قبل عامين وإذا بصوت جيتار إلكتروني يخترق قلبي من أوّل لحظة، توالت التساؤلات عن ذلك الصوت؟ ما هذا؟ من هؤلاء وكيف يفعلون ذلك بالموسيقى؟ كان الصوت يأتي من غرفة خالي - كعادته عندما يستمع للموسيقى بصوت ليس خافتاً - سألته من هؤلاء فأخبرني أنهم مجموعة من طوارق مالي، وذلك النوع يسمى البلوز الأفريقي. من هنا كان اللقاء الأول مع هذا العالم الذي لا ينفك يأسرني ، منذ ذلك الحين وهؤلاء الملثمون يرافقونني في حياتي كل يوموكل ساعة.
تاريخ الثورة والتهجير
استقلت مالي في العام 1960 عن الاستعمار الفرنسي وتوّلت الحكومة الوطنية زمام الأمور في البلاد برئاسة موديبوكيتا. تعرض الطوارق منذ ذلك الحين للكثير من المحن والأزمات إذ بدت الأمور وكأن فرنسا قد رحلت ليأتي استعمار على شكل آخر. راح جنود السلطة الجديدة ينهبون الخيام ويسرقون أموال الناس ومواشيهم، فكان لا بدّ للطوارق من الثورة للتخلص من طغيان الحكومة الوطنية الجديدة، إذ كان ذلك في العام 1962 حينما اشتعلت ثورة كيدال التى قوبلت بوحشية مفرطة من قبل الجيش المالي ولم تنتهِ الأمور إلا بمساعدات خارجية من قبل حكومات المغرب والجزائر من خلال تسليم عدد من قيادات ورجال الثورة للحكومة المالية. "في 63 قد ذهب، ولكنه سوف يعود، تلك الأيام قد ذهبت وتركت آثارها، قتلوا الأسطورة القديمة، والطفل لتوه قد وُلد، انقضوا على المراعي وقضوا على الماشية، فى عام 63 قد ذهب، ولكنه سوف يعود"، أغنية Soixante Trois. هكذا ينتحب ابراهيم آغ الحبيب -المؤسس الأوّل للفرقة - على والده الذي أعدمته السلطات المالية في عام 1963 جراء المشاركة في الثورة، إبراهيم الذي وُلد قبل إعدام والده بثلاث سنوات وفي نفس العام الذي حصلت فيه مالي على الاستقلال. لم يجد الطوارق حلاً إلّا الهروب من الأزمات الاقتصادية والسياسية في مالي حيث آثروا الهجرة إلى الجزائر وليبيا، وكانت المحطة الأولى من نصيب الجزائر إذ هاجر ابراهيم آغ الحبيب إلى "تامنراست" جنوبي البلاد، وهناك التقى بحسن آغ تهامي الذي سيكوّن معه ومع عبدالله الحسينين النواة الأولى لفرقة تيناريوين. شهدت مدينة تامنراست اللقاء الأوّل لإبراهيم الحبيب مع آلة الجيتار التي عشقها من المرة الأولى ليتعلم العزف عليها على يد أحد الأصدقاء في المدينة. الهجرة الثانية كانت إلى ليبيا تحت حكم القذافي، حيث الوعد بالتسليح والتدريب، ذلك الوعد الذي سيتحوّل فيما بعد إلى ميليشيات تحت سلطة القذافي وهناك التقى إبراهيم آغ الحبيب بعبدالله الحسينين لأول مرة في عام 1986. اندلعت الثورة مرة أخرى وعادوا إلى مالي وشاركوا في القتال ضد القوات الحكومية قبل أن يتم التوصل إلى اتفاقية سلام بين الحركات الطوارقية والحكومة المحلية، رافق ذلك مجازر ارتكبت في حق المدنيين الطوارق. بعد ذلك تفرغ الثلاثي وآخرون من أعضاء الفرقة إلى الموسيقى إذ لم تكن آلة الجيتار منتشرة أو معروفة في أوساط الطوارق، ولكن كان لأعضاء الفرقة بالغ الأثر في انتشار تلك الآلة، لكن ظل تأثير محدود داخل مالي إلى أن كان ذلك اليوم الذي وُجد فيه فريق "لوجو" الفرنسي في العاصمة المالية لحضور أحد المهرجانات الموسيقية وحدث أن لفتت تيناريوين انتباههم ليسافر إثنان من أعضاء الفرقة إلى فرنسا للمشاركة في عرض موسيقي مع فريق "لوجو" . من واقع الحرب الأهلية عرفت تيناريوين الطريق إلى العالمية، ذلك الطريق الذي لم يكن بتلك السهولة التي يتوقعها المتابع من بعيد. سجّل الفريق أول ألبومين في عام 1983 وتلاه آخر إبان العودة إلى مالي، وقد كان العام 2001 شاهداً على أوّل إنتاج خارج حدود القارة الأفريقية من خلال ألبوم "راديو تيسداس".هل تفهم شيئاً من الكلمات؟
لا نحتاج إلى ترجمة تماشيك "لغة الطوارق" إلى الإنجليزية أو العربية حتى نستطيع الاستيعاب، أو وصول الإحساس المراد من أغاني تيناروين. أغنية "Tamatant Tilay" (الموت هنا) هي ترنيمة معركة يمكنك سماع الخوف وشهوة الدم بين أوتار الجيتار وأن تلتقط ذلك من خلال صوت الحسن التهامي. تشتهر مالي بالكثير من أساطير عزف الجيتار، أمثال بوبكر تراوري والراحل علي فاركه توريه إلا أن "تيناروين" استطاعت أن تخلق نوعاً من المؤثرات تمتزج فيها المقاييس القديمة للموسيقى العربية والأفريقية مع البلوز الأفريقي الأمريكي بصوت أكثر شراسة وحدّة، يمكنك أن تطلق عليهم بلوزاً افريقياً إن أردت، ولكن حين تتحرى الدقة فهم اوركسترا متكاملة من عازفي الجيتارات.لم يجد الطوارق حلاً إلّا الهروب من الأزمات الاقتصادية والسياسية في مالي حيث آثروا الهجرة إلى الجزائر وليبيا، وكانت الهجرة الأولى من نصيب الجزائر إذ هاجر ابراهيم آغ الحبيب إلى "تامنراست" جنوبي البلاد، وهناك التقى بحسن آغ تهامي الذي سيكوّن معه ومع عبدالله الحسينين النواة الأولى لفرقة تيناريوين.
الهجرة الثانية كانت إلى ليبيا تحت حكم القذافي، حيث الوعد بالتسليح والتدريب، ذلك الوعد الذي سيتحوّل فيما بعد إلى ميليشيات تحت سلطة القذافي وهناك التقى إبراهيم آغ الحبيب بعبدالله الحسينين لأول مرة في عام 1986.
من واقع الحرب الأهلية عرفت تيناريوين الطريق إلى العالمية، ذلك الطريق الذي لم يكن بتلك السهولة التي يتوقعها المتابع من بعيد. سجّل الفريق أول ألبومين في عام 1983 وتلاه آخر إبان العودة إلى مالي، وقد كان العام 2001 شاهداً على أوّل إنتاج خارج حدود القارة الأفريقية من خلال ألبوم "راديو تيسداس".
المحاربون يحملون الجيتارات
جلسات الشاي، الرمال الناعمة، الجمال تحت لهيب الشمس الساطعة والشعراء المحاربون: تيناروين ذلك الخيال الأفريقي الذي ظهر للحياة والذي لا يمكن لأحد أن يغض الطرف عنه سواء، فمن الصعب أن تصم أذنيك عن هؤلاء المحاربين بالموسيقى. يبدو أن إبراهيم آغ الحبيب وكأنه قائد ثورة موسيقية أو بطل جيتار خارق، فحينما ترى الغلاف الرئيسي لألبوم "أمان إيمان"، يبدو عندها وكأنه لا يعزف الجيتار بل يغني بطريقة متقطعة تشبه طلقات الرصاص، تلك الطريقة التي للغرابة في كثير من الأحيان ترسل إليك الرقة والعذوبة والحنين الجارف إلى الحبّ والوطن المفقودين. تبدو للوهلة الأولى أن تضخيم المأساة والألم هو السمة البارزة في أغنيات تيناريوين. بالإضافة إلى ذلك فالفرقة تطلق كلمات تعبّر عن الرعوية مثل: "العراء والترحال والفراغ".لا يمكن للمرأة أن تغيب عن المشهد
إذا رأيت فتاة ذات بشرة متفتحة وبذلك الوجه المزدهر تخرج من خيمتها مرتديةً تلك الملابس التي أعرفها جيداً، فلا تملك روحي شيئاً إلا أن تتحرك نحوها ترغب في الحديث معها، فهي لن تخفى عني أي شيء رأته عينها". هكذا تسمع في أغنية "Talyat" في الألبوم الأخير، إذ تستطيع أن تميز جيداً ذلك الصوت النسائي في أغنيات تيناريوين وعروضهم على المسارح العالمية، تستمتع وتتأثر بتلك الفتاة، التي هي صاحبة الزغاريد الشهيرة، إنها مينا واليت عمر، العضو النسائي الوحيد في الفرقة، تراها مرة تتموّج مع الموسيقى وحيناً آخر تطلق الزغاريد الأفريقية الشهيرة. يتحدث روبرت بلانت عن اكتشافه ليتناريوين، يقول: "شعرت بأني كنت أبحث عنها طوال حياتي، تيناريوين؟ إن هذا الاكتشاف أشبه بعيد الغطاس، حينما انفتحت أبواب السماء التي قالت: "هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به". يشبه بلانت اكتشافه لتيناريون بظهور المسيح العلني للبشر، بينما يعتبر الكثير من النقاد أن تيناريوين هي عودة حقيقية إلى جذور البلوز. بظهور تيناريوين على الساحة الأفريقية وانتشار صيتها في المسارح العالمية ، علينا أن ننظر بعمق إلى هذه التجربة الإنسانية والموسيقية الفريدة، وذلك المجد الذي تحقق وما زال ينمو من واقع الحرب الأهلية. بتتبع مسار تيناريوين، لمست كيف يمكن للإنسان ألا ينسى محيطه الطبيعي الأوّل، وفي نفس الوقت ألا ينغمس في العالم الأوسع كلياً، بل كيف يمكن للموهبة والقدرة على الإبداع أن تجمعا بين العالميْن؛ الأول والأوسع. فلقد استطاع عبدالله وإبراهيم وحسن ورفاقهم أن يجعلوا الكثيرين من حول العالم، بمختلف الخلفيات الاجتماعية والثقافية واللغوية، أن ينصتوا جيداً إلى هذا الصوت الآتي من صحراء أفريقيا، تلك القارة التى لن تنضب أبداً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...