ربما ينظر البعض إلى القضايا المطروحة عبر قنوات السوشيال ميديا المختلفة نظرة لامبالاة، وهكذا لن يتعب كثيراً قبل أن يقوم بمشاركة منشورٍ ما، أو ترك تعليقٍ مُسيء، بما أن الأمر في النهاية لا يتعدّى شاشة حاسوبه والعالم الافتراضي القابع خلفه.
لكن بعد سنوات من انتشار استخدام قنوات السوشيال ميديا بين جميع الفئات في الدول، وكذلك اهتمام الحكومات بما يدور على تلك الصفحات وهذه المجموعات وغيرها، فلا مفر من انتقال الأعراض الجانبية للسوشيال ميديا إلى أرض الواقع، وكلما كبر حجم التفاعل بالإعجاب أو الغضب، كلما أصبح الواقع في مرمى النيران أكثر.
في مصر، الأمر يختلف إلى حدٍّ ما على ما يبدو من تجارب عديدة، سوف أسرد منها تجربتين حدثتا خلال أقل من أسبوع، أثبت رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيهما قدرتهم على تحقيق أكبر ضررٍ ممكن في وقت قصير للغاية، وبدون بذل عناء البحث عن الحقيقة، أو دراسة جوانب الموضوع المطروح بدقة، أو بالحد الأدنى من الاهتمام على الأقل.
التجربة الأولى بدأت شعلتها بصورةٍ متداولة لرجل يؤدي صلاة عيد الأضحى جالساً على مقعد دراجته، وتلى ذلك آلاف التعليقات المُسيئة التي اتهمت الرجل بازدراء الدين الإسلامي مثلاً! مجرّد صورة لا تحكي أي شيء كانت كفيلة بجلب اللعنات والشتائم لشخص لم يجمعه بالمصوّر أو برواد مواقع التواصل الاجتماعي أي أرضٍ مشتركة، وبالطبع لا يملك حق الرد بنفس مقدار انتشار الصورة.
حقيقة، لا يعنيني أبداً لماذا اضطرّ الرجل لأداء الصلاة بتلك الوضعية، وإن كان يعنيكم ذلك فالسبب هو مرضه الذي يمنعه من الجلوس على الأرض، أو أداء الركعة كاملة، ولكن في كل الأحوال، إن إطلاق الأحكام دون تحققٍ مُسبق هو خطر جمّ، وذلك لأن لا أحد يستطيع ضمان ردِّ فعلِ متشدّدٍ ما قد يعرف طريق الرجل، وربما يُقرر اتخاذ موقف، وخطر لأن كمية الشتائم ستؤثر حتماً نفسياً على الشخص المعني وعلى أقاربه، حتى أن تلك الواقعة تحديداً دفعت الرجل إلى تسجيل مقطع فيديو يشرح فيه تفاصيل مرضه (وهو غير مطالب بذلك)، ثم اختتم حديثه برسالةٍ قصيرة إلى من تطاول عليه دون علم بمرضه وهي: "حسبي الله ونعم الوكيل".
التجربة الثانية هي الأكبر من حيث الضرر والتفاعل… فقد تمَّ هدم مشروع تجاري بسبب جملة واحدة تلفظ بها صاحبه واحتملت العديد من المعاني. فالواقعة هي عن أحد السوريين المتواجدين في مصر، والذي يمتلك مطعماً في الإسكندرية، وقاده حظه للوقوع كفريسة السوشيال ميديا التي حكمت وفقاً لمقطع فيديو لا يتعدّى الـ 30 ثانية، يظهر فيه صاحب المطعم أثناء وقوعه في مشادةٍ كلامية مع سيدةٍ مصرية، ويطلب منها أن تُنهي معه النقاش قائلًا: "نادي لي رجل أتكلم معاه"، تلك الجملة بين الأقواس "قلبت مصر" رأساً على عقب، وبدأت حملات "تسخين الموقف" لإثبات أن مصر "بها رجال" يستطيعون استرجاع حق السيدة المصرية التي اعترضت على تنظيف أدوات المطعم أسفل نافذتها.
هل كان يقصد الرجل السوري ذلك؟، طبعاً لا، هو الآخر قام بتسجيل مقطع فيديو يشرح فيه سبب طلبه من السيدة أن "تنادي له رجل"، إذ قال أن المشادة الكلامية بدأت في التطوّر، وأنه لا يستطيع ردّ السباب لسيدة مهما حدث، لذا طلب الحديث مع رجل بدلاً منها.
هل خالف الرجل القانون؟ بالطبع فعل، فاستخدام مساحة خارج إطار المطعم الخاص به لأعمال التنظيف والشواء لا يجوز، وبالتأكيد سيترك أثراً غير جيد على سكان تلك المنطقة، لكن الأمر لم يكن يستحق إطلاقاً إزالة مطعمه بالكامل، بدلاً من تغريمه لقاء المخالفات المرتكبة (والتي بالمناسبة يرتكبها المصريون طوال الوقت)، لكن تداول السوشيال ميديا للموقف أدى إلى تضخيم الأثر، فانقلب الأمر من مجرّد مشادةٍ ومخالفة إلى "لاجئ سوري يتعدّى على سيدة مصرية ويُشكّك في رجولة المصريين"، وهكذا أنصفت السوشيال ميديا السيدة، وأودت بمشروع الرجل ومعه عشرات فرص العمل داخل المطعم، والتي كان يستفيد منها المصريون والسوريون على حد سواء.
هل خالف الرجل القانون؟ نعم، لاستخدامه مساحة خارج إطار المطعم الخاص به لأعمال التنظيف والشواء أمر لا يجوز، وبالتأكيد سيترك أثراً غير جيد على سكان تلك المنطقة، لكن هذا لم يكن يستحق إطلاقاً إزالة مطعمه بالكامل، بدلاً من تغريمه لقاء المخالفات المرتكبة
تداول السوشيال ميديا للموقف أدى إلى تضخيم الأثر، فانقلب الأمر من مجرّد مشادةٍ ومخالفة إلى "لاجئ سوري يتعدّى على سيدة مصرية ويُشكّك في رجولة المصريين"، وهكذا أودت بمشروع الرجل ومعه عشرات فرص العمل، والتي كان يستفيد منها المصريون والسوريون
ما الذي يدفع أحدهم لتبني قضية لا يعرف عنها القدر الكافي من المعلومات؟ البحث عن الشهرة أحد الأسباب بالطبع، حينما يكون هذا الشخص هو مصدر القصة أو الصورة، شيء آخر قد يساعد الناس على اتخاذ تلك المواقف المتسرّعة، والمشاركة في حملةٍ هجوميةٍ جماعية، وهو الإحباط من إحداث تغيير على أرض الواقع تجاه السلبيات التي يعيشونها، وطبعاً تعويض إحساسهم بالتقصير في واجباتهم الدينية ما يجعلهم ينهشون من يقع فريسة توثيق هذا التقصير، مثل هذا الرجل الذي قام بأداء صلاة العيد راكباً دراجته، ظناً بأنه يستهين بفروض دينهم، لذا فالانتفاض الإلكتروني سيُعد خياراً مُرضياً لهم، خاصة وأن الأمور لا تتعلّق بالسياسة، وإنما في أغلب الأحيان تطال الهجمات شخصياتٍ عادية، مواطن آخر أو فنان أو لاعب كرة أو شاب سوري خرج من ويلات الحرب يبحث عن لقمة عيشه.
والسؤال أخيراً، هل يُمكن الحكم على الأمور بصورة ثابتة أو بمقطع فيديو مدته 30 ثانية فقط؟ أعتقد أن سلاح السوشيال ميديا في مصر أصبح قصفاً عشوائياً، ولا عزاء للهدف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...