مثل جميع البشر الذين شاهدوا مقطع الفيديو المسيء، حيث يقوم أحد الشباب الإنجليزي بضرب آخر سوري أصغر سنًا بقسوة ودون أي ردة فعل من الضحية، أوجعني الصمت السوري أكثر بكثير من الغضب الإنجليزي، وبعدما انقشع المشهد برمته من أمامي وقفت أتساءل هل من الممكن أن يحدث ذلك في موطني مصر؟ هل يُمكن أن أُشاهد يومًا ما تنمرًا قاسيًا مغلفًا بالعنف البدني بنفس تلك الدرجة في شارعنا؟
الإجابة البسيطة التي سيخبرك بها أي سوري يعيش في مصر، أنه لا يُمكن حدوث ذلك معه، ثم سيتبعها بعبارات عن طيبة المصريين و"جدعنتهم"، هو صادق بالطبع في قول إن الاعتداء الجسدي بسبب جنسيته السورية أمر مُستبعد، ولكنه فشل في تحديد الأسباب الصحيحة والتي لا تمت بصلة للطيبة والجدعنة، ولكي نعرف السبب الحقيقي علينا أولًا الحديث عن وضع السوريين في مصر خطوة خطوة منذ البداية في 2012 مع أول أفواج اللجوء القادمة إلى القاهرة.
السوريون من مُنافسين الأمس لتميمة النجاح اليوم
قابل المصريون فكرة لجوء السوريين إلى بلادهم بمنتهى اللُطف، وكان يكفي أن يقول أحدهم إنه سوري ليتلقى معاملة مميزة للغاية، خاصة مع تلك المشاعر الثورية التي كانت تملأ الشارع المصري والتي رأت في بشار الأسد مبارك جديدًا يجب أن يسقط، التأدب والعطف اللذان حظي بهما السوريون في مصر -شعبيًا- أخذا في النقصان في فترة حكم الإخوان وحتى رحيلهم وبعد ذلك بسنة ربما، والسبب هنا لم يكن يخص السوريين أنفسهم، ولكن تبني الرئيس المعزول محمد مرسي لخطاب الجهاد في سوريا رافقه تدني في شعبيته وتدني في نظرة المصري للسوري، سرعان ما اختفت حينما ضربت مصر الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتي احتاجت لعملية إصلاح اقتصادي موجع على الجميع بلا استثناء، جعلت المصريين يصبون تركيزهم على قضايا المأكل والمسكن والزواج عوضًا عن القضايا الوطنية وهو الأمر المتوقع.
وكما عاش المصريون تلك الفترات القريبة في محاولات التأقلم مع مصر ما بعد الثورة، كان على الطرف المجاور ما يقرب من نصف مليون سوري يتحسسون أيضًا الطريق الوعرة في محاولة إقامة حياة جديدة في بلاد غريبة عليهم، وإن كانت قريبة، وبعد فترة قليلة وقف المصريون ينفضون غبار التعب والإرهاق من مغبة التأثيرات السياسية المحيطة بهم، ثم ألقوا نظرة على أحوال الطرف الآخر السوري فإذا بالشوارع قد تكدست بالنجاحات السورية على هيئة حوانيت، اشتهرت في معظمها بتقديم الطعام المحلي السوري وأصبحت البديل رقم واحد للمطاعم العالمية والبراندات الشهيرة في مصر.
المشاريع الغذائية السورية التي شهدت نجاحًا باهرًا لم تكن النقطة المُضيئة الوحيدة في حياة السوريين بمصر، ولكن كل ما هو سوري أصبح مرغوبًا للغاية من حرفيين ومعارض أثاث وأطباء حتى، على الرغم من عدم تفوق السوريين على المصريين في معظم تلك المجالات، فقد جرت العادة هنا أن الأثاث القادم من "دمياط" لا يقارن بهذا القادم من أوروبا، والأطباء معظمهم لا يحمل الأوراق الكافية للعمل في هذا المجال المُعقد، ورغم ذلك تركتهم الدولة يزاولون مهنة الطب دون تضييق فعلي وترجمة تلك الجملة هي "عدم تفعيل القانون".
إذًا أيًا كان ما يخطط السوري للقيام به في طريق البحث عن لقمة عيش، فقد يبدو هذا سهلًا في مصر، حتى أن بعض المصريين بدأوا في استغلال براند لفظ "سوري" لإنجاح أعمالهم الخاصة، فمع لافتة تحمل أي اسم يلحق به كلمة "سوري"، وتقديم نفس المأكولات السورية التي تعلم المصريون بعضها، يُمكنك ضمان نجاح مشروعك بكل تأكيد، ودون أن تتكلف عناء شراكة مواطن سوري حتى، وإن لم تنجح لأسباب خرافية فيُمكنك أن تتعلم بضع ألفاظ سورية تمارس عن طريقها التسول من المارة وهذا تحديدًا ما قد يوفر لك تقريبًا من 200 إلى 300 جنيه مصري يوميًا أي ما يبلغ قيمته رقمًا بين 11 و17 دولارًا.
ويجب أن أقف هنا لأقول بكل أمانة، أن ما لقيه السوريون كان نتاج عملهم وكفاحهم وتخطيطهم الناجح لحياة كريمة في المنفى، فلا العطف ولا التسول كانا عاملًا حيويًا في تلك المعادلة، ولكن ربما بعض التسهيلات الحكومية والتقبل الشعبي، وهذا بالضبط ما قالت لي صديقة سورية إنه كان سبب ندم البعض على الرحيل من مصر إلى بلاد أخرى عربية وأوروبية وحديثهم معها عن تمنيات العودة مُجددًا إلى مصر.
الصديقة السورية قالت أيضًا إنه وفقًا لأحوالها الخاصة، فمصر تأتي في المرتبة الثانية بعد كندا بالنسبة لها، وبالطبع لا يُمكن تعميم ذلك الرأي الذي قد لا يوافقها فيه الكثيرون، ولكنها أكدت لي أنه على الأقل فمصر هي الخيار الأفضل عربيًا، وأن أي معاناة يخوضها السوريون هنا هي جزء من معاناة الشعب المصري ذاته ولا يُمكن اعتبارها أعباء إضافية بسبب جنسيتهم مثلًا.
وأقتبس عنها قولها في بعض ملامح تجربتها للعيش في مصر: "بتقدر تقول ما في عنصرية ابدًا أو موجودة بس بنسبة قليلة كتير بالمقارنة مع البلدان العربية مو الأجنبية يعني نسبة لا تذكر"، أما عن استغلال المصريين للسمعة السورية فهي تقول: "ما تعتبر مشكلة لو هو عم يقدم شيء بنفس الجودة، لأن بصراحة بآخر فترة المصري صار يمدح بشغل السوريين ويذم بشغل ابن بلده وناسي تفاوت الأسعار بين السلع المصرية والسورية وممكن يدخل على محل سوري بضاعته أقل جودة من بضاعة المصري ويشتري من عنده وهو مبسوط من غير ما ينتبه انه البضاعة سيئة لان مزروع براسه انه السوري غير".
يجب أن أقف هنا لأقول بكل أمانة، أن ما لقيه السوريون كان نتاج عملهم وكفاحهم وتخطيطهم الناجح لحياة كريمة في المنفى، فلا العطف ولا التسول كانا عاملًا حيويًا في تلك المعادلة، ولكن ربما بعض التسهيلات الحكومية والتقبل الشعبي.
بعض المصريين بدأوا في استغلال براند لفظ "سوري" لإنجاح أعمالهم الخاصة، فمع لافتة تحمل أي اسم يلحق به كلمة "سوري"، وتقديم نفس المأكولات السورية التي تعلم المصريون بعضها، يُمكنك ضمان نجاح مشروعك.
وبعد فترة قليلة وقف المصريون ينفضون غبار التعب والإرهاق من مغبة التأثيرات السياسية المحيطة بهم، ثم ألقوا نظرة على أحوال الطرف الآخر السوري فإذا بالشوارع قد تكدست بالنجاحات السورية.
مربط الفرس في المصريين أم في السوريين أنفسهم؟!
في النهاية كنت أود أن أقول إن كل ما سبق يحمل لي كمصري مشاعر من الفخر والاعتزاز بقدرة الشعب المصري على تقبل اللاجئين في بلادنا، ولكن على النقيض، فإن مِلف معاناة اللاجئين السودانيين في مصر يضرب تلك الفكرة في مقتل، ولا أتحدث هنا عن الرسميات والأوراق وفرص العمل ولكني أقصد العنصرية التي يتعرض لها المواطن السوداني بسبب لون بشرته السمراء، من تنمر وسخرية يصلان أحيانًا كثيرة إلى العنف البدني، حتى أنك يُمكنك سماع صدى جملة "بلاش نأكل هنا.. ده مطعم سوداني" في شوارع فيصل بالجيزة، ولن أتعجب مُطلقًا إذا ما تم تداول مقطع فيديو مشابهًا لمقطع الشاب الإنجليزي وهو يعتدي على شاب سوري، ولكن تلك المرة لمصري يفعل هذا مع مواطن سوداني، لذا فعلى ما يبدو أن الميزة لا تقبع في كونك مصريًا أو مجرد لاجيء هنا، بل أن تكون سوريًا يعيش في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...