"كي لا ألفت انتباه أعضاء تنظيم داعش، كنت أضرب المطرقة بلطف"، يروي النحات الموصلي قيس إبراهيم مصطفى.
مصطفى، 61 عاماً، بدأ ممارسة النحت منذ عام 1974، وتميّز بأعماله المصنوعة من الخشب والمطرزة بمسامير معدنية، وينوي الدخول إلى موسوعة غينيس كأول فنان يستخدم المسامير بأعداد كبيرة جداً في أعماله.
النحات قيس إبراهيم مصطفى بجوار عمل فني أنجزه خلال فترة سيطرة داعش على الموصل ـ تصوير: أزهر الربيعي
نحت تحت الأرض
في منزله الخاص في مدينة الموصل غرفة صغيرة تحت الأرض يقول لرصيف22 إنه كان ينجز كل أعماله داخلها. "كنت أواصل تشكيل القطع الفنية والمنحوتات في هذه الغرفة، كي لا يصل إليها داعش، أو يسمع الأصوات التي تصدرها أدواتي مثل المطرقة"، يقول ويضيف: "كان داعش يزور بيتي بين فترة وأخرى للتأكد من عدم وجود أي أعمال فنية تجسد هيئة الإنسان، وكي لا يراها داعش، كنت أدفنها في حديقة المنزل".
برغم القمع والتضييق الذي كان يواجهه الفنانون من قبل تنظيم داعش منذ دخوله مدينة الموصل في يونيو 2014، إلا أن مصطفى تمكّن من إنتاج عشرات المنحوتات بمساعدة ابنه عمر، وهو فنان كذلك.
يقول مصطفى: "كنت مقتنعاً بأن داعش سيغادر المدينة يوماً ما، وعندما تحررت الموصل في يوليو 2017، أخرجت كل أعمالي وشاركت بها في معارض فنية كنتاج فني أنجزته خلال فترة سيطرة داعش على المدينة. إنها أعمال تحمل ذكريات مأساوية وويلات الظروف الصعبة التي لا يمكن نسيانها".
عمل فني للنحات قيس إبراهيم مصطفى يستخدم فيه عدداً كبيراً من المسامير ـ تصوير: أزهر الربيعي
المتحمس بطبيعته، مصطفى، استثمر أحلامه وجهده بعد تحرير مدينته في العمل على إحياء الحركة الثقافية فيها. أواخر عام 2017، قرر أن يضع نصباً فنياً على شكل امرأه، على أبواب الموصل القديمة، يمثل التنوع الثقافي في العراق، ولكنه تفاجأ بقرار أصدره محافظ الموصل السابق نوفل العاكوب يمنعه من ذلك بدعوى أن النصب يغضب المواطنين المحافظين.
على تلك الحادثة، يعلّق مصطفى بالقول "إن هزيمة داعش لا تعني هزيمة أفكاره المتطرفة".
بعض أعمال قيس إبراهيم مصطفى - تصوير: أزهر الربيعي
ويكمل حديثه وهو يحمل بيده واحداً من أعماله ويقول: "لم أعرض أعمالي التي أنجزتها خلال فترة سيطرة داعش للبيع، فهي أعمال لا تقدر بثمن، لأنها تحمل ذكريات الظروف التي عشتها آنذاك".
ويضيف: "كنت أول فنان في مدينة الموصل يظهر في برنامج ‘إبداع وحكاية’ التلفزيوني والذي يبث من قلب مدينة الموصل، كانت العائلة والأصدقاء سعداء برؤيتي على التلفاز في أول لقاء أجريه بعد تحرير المدينة من التنظيم".
عبد الرحمن الدليمي يرسم على ضفاف نهر دجلة ـ تصوير: أزهر الربيعي
"إبداع وحكاية"
"إبداع وحكاية" برنامج تلفزيوني يعدّه ويقدّمه الإعلامي والرسام الموصلّي عبد الرحمن الدليمي، 24 عاماً، ويتناول مواضيع فنية وثقافية وموسيقية.
ساهم الدليمي في إعادة الفن إلى مدينة الموصل، بعد أن كان محظوراً إبان سيطرة داعش عليها، ويستضيف في برنامجه عدداً من فناني ومثقفي الموصل ليتحدثوا عن تجاربهم.
الدليمي الذي يلقبه الناس بـ"دافنتشي الموصل" لموهبته الكبيرة في الرسم، قال لرصيف22 "إن أفضل طريقة أحارب بها فكر داعش هي الرسم"، وأضاف: "استخدمت الرسم أيضاً للأخذ بثأر أخي المذبوح نحراً على يد تنظيم داعش عام 2015، بعد أن ألقوا عليه القبض بتهمة أنه يريد الهرب خارج مدينة الموصل ولكنه في الحقيقة كان ذاهباً ليجلب الدواء لوالدتي المريضة".
عبد الرحمن الدليمي على ضفاف نهر دجلة مقابلة الموصل القديمة ـ تصوير: أزهر الربيعي
برأيه، "الفن فطرة في الإنسان ولا يمكن لداعش أو أي قوى أخرى منع الفن والإبداع".
"كنت أخبئ اللوحات بين الأفرشة، خشية أن يراها أفراد تنظيم داعش. كنت أرسم اللوحات الفنية التي تخلو من صور الإنسان، فهي ممنوعة لدى داعش منعاً باتاً"
"كنت أواصل تشكيل القطع الفنية والمنحوتات في غرفة تحت الأرض، كي لا يصل إليها داعش، أو يسمع الأصوات التي تصدرها أدواتي مثل المطرقة. وكي لا يعثر على أعمالي التي تجسد هيئة الإنسان كنت أدفنها في حديقة المنزل"
يشير الدليمي إلى أن برنامجه عرّف أبناء الموصل أكثر على فناني مدينهم ورموزها الثقافية، كما "شجع الشباب على الالتحاق بالمعاهد والكليات الفنية بعدما كان تنظيم داعش قد أغلقها".
عبد الرحمن الدليمي ـ تصوير: أزهر الربيعي
وعن أول حلقة قدّمها بعد تحرير الموصل، قال: "كانت لحظات صعبة، وكان لا يزال هناك وجود خفي لتنظيم داعش، وكانت عائلتي قلقة جداً من ظهوري على شاشة التلفاز، ولكن إيماني بأن الفن رسالة يجب إيصالها إلى كل العالم، جعلني أكمل مسيرتي حتى اليوم".
في مقهى القنطرة ـ تصوير: أزهر الربيعي
مقهى القنطرة
الآن، في الموصل، يُعتبر مقهى القنطرة الثقافي مكاناً يجتمع فيه الموصليون ويهدف إلى نشر الفن والسلام والتعايش المجتمعي، ومحاربة الأفكار المتطرفة، ويصفه رواده بأنه "بادرة أمل" تعيد إليهم الحياة الفنية والثقافية التي حرموا منها طوال سيطرة داعش على مدينتهم.
يحمل المقهى شعار "المكان يتسع للجميع" في إشارة إلى أن الجميع مرحب بهم في هذا المكان.
يقول مؤسس المقهى ومديره، الشاب صالح إلياس لرصيف22: "افتتحنا هذا المقهى سنة 2018، وهو مشروع يهدف إلى الترويج للثقافة المتنوعة الموجودة في محافظة نينوى. وإضافة إلى ذلك، يُعَدّ جسراً ثقافياً يربط الموصل بباقي مدن العراق الأخرى".
ويضيف: "بعد عام 2016، بدأت الحركة الثقافية بالانتعاش شيئاً فشيئاً، وتأسست مراكز ومقاهٍ ثقافية تحتضن فعاليات متنوعة بين إلقاء الشعر والغناء والرسم يقيمها شباب الموصل".
الدرج المؤدي الى مقهى القنطرة، حيث علقت صور شخصيات ورموز مدينة الموصل ـ تصوير: أزهر الربيعي
"بعد تحرير المدينة من تنظيم داعش، كان لدينا مجال واسع من الحرية لتأسيس هذا المقهى الذي ينظم فعاليات ثقافية نرى وجودها في الموصل ضرورياً"، تابع إلياس مشيراً إلى أن "رواد هذا المكان ليسوا فقط من المثقفين أو الفنانين بل بينهم رجال دين أحبوا المكان، ويترددون عليه بين الحين والآخر".
اختار الدليمي مقهى القنطرة مكاناً لتصوير حلقة من برنامجه التلفزيوني، الذي استضاف فيه ناطق عزيز، 72 عاماً، وهو أستاذ الرسم في كلية الفنون في جامعة الموصل.
بعد انتهاء التصوير التقى رصيف22 عزيز. تحدث عن تجربته وقال: "كنت أخبئ اللوحات بين الأفرشة، خشية أن يراها أفراد تنظيم داعش. كنت أرسم اللوحات الفنية التي تخلو من صور الإنسان، فهي ممنوعة لدى داعش منعاً باتاً".
يبدي عزيز سعادته لرؤية شباب من الموصل "يساهمون في عودة الفن"، في إشارة إلى ما يقوم به الدليمي.
ناطق عزيز حاملاً لوحته التي جسد فيها كل الأماكن الجميلة في الموصل ـ تصوير: أزهر الربيعي
كان عزيز شاهد عيان على الجرائم التي ارتكبها داعش بحق الفن، والتي بقيت محفورة في الذاكرة. "دمر داعش العديد من القطع الفنية، والآثار والمخطوطات، وأنهى الثقافة، كما قتل الإنسان. حقاً إن داعش وباء خطير جداً وليس لديه أي قيم اجتماعية"، يقول.
ويضيف: "الكثير من الفنانين غادروا مدينة الموصل، ومنهم مَن هاجر خارج البلاد، بعد أن أغلق تنظيم داعش كل المعاهد وكليات الفنون الجميلة، في مسعى لإنهاء الفن في المدينة".
نفض الغبار
يستمر فنانو الموصل في فترة ما بعد التحرير في إقامة مهرجانات فنية تهدف إلى إحياء الفن. أحد هؤلاء الفنان مروان طارق، وهو فنان تشكيلي.
يتحدث طارق لرصيف22 عن مساهمته في العروض الفنية داخل متحف التاريخ الحضاري في الموصل والذي يجمع إرث المدينة الحضاري والتاريخي على مر العصور، ويقول: "كان المتحف يحتوي على عدد كبير من تماثيل ومنحوتات الحضارات التي قامت على أرض مدينة الموصل، كلها سرقها وحطمها تنظيم داعش. أقمنا مهرجاناً باسم ‘العودة إلى الموصل، صراع من أجل الحياة’ يهدف إلى إرسال رسالة إلى العالم مفادها أن مدينة الموصل مدينة سلام وفن".
اتخذ داعش فور دخوله إلى الموصل من المراكز التعليمية والثقافية والفنية مقارّ له، وحوّلها إلى أماكن لتصنيع الأسلحة والعبوات الناسفة والمتفجرات، ودمر جميع الأجهزة التعليمية وحرق آلاف الكتب والمخطوطات التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين والمجموعة في مكتبة جامعة الموصل.
كذلك، ألغى دروس التاريخ والفلسفة والرياضيات والفن والأدب، ووضع مكانها دروس التربية الإسلامية واللياقة البدنية ودروساً للأطفال تعلمهم الرمي والقتال.
على الرصيف المقابل لجامعة الموصل، يقام أسبوعياً كل يوم جمعة، مهرجان "رصيف الكتب". يجتمع المثقفون والفنانون وبائعو الكتب على هذا الرصيف، الذي صار يُعتبر رمزاً ثقافياً بمبادرة من شباب من مدينة الموصل تهدف إلى النهوض مجدداً بالحركة الثقافية وتشجيع الناس على القراءة واقتناء ما يحتاجونه من كتب متنوعة كانت محظورة في زمن داعش.
في زاوية أخرى من هذا الشارع، يجلس شباب يعزفون المقطوعات الموسيقية، وآخرون يلقون الشعر، وبعضهم يرسم وسط أجواء تغمرها البهجة والبسمة على وجوه الحاضرين.
ويبقى الموصليون من فنانين وغيرهم، يتمنون عودة الحياة إلى مدينتهم كما كانت عليه، وعودة الفن والثقافة لاستعادة الموصل التي عرفها العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...