بدأ الرحّالة والصحفي المصري أحمد بلال منذ منتصف شهر يونيو 2019، رحلةً حول العالم بدأتْ من دبي، ويشاركنا في سلسلةٍ من المقالات، الآفاقَ والصورَ التي يكتشفها خلال هذه الرحلة عبرَ قسم "رود تريب" في موقعنا.
قديماً قال عالم التاريخ اليوناني، هيرودوت: "مصر هبة النيل"، ويؤمن المصريون أن من يشرب من ماء نهر النيل حتمًا سيعود إليه. والنيل في مصر، هو الحياة وسرُّها؛ هو البداية والخلود؛ هو من منح قبلةَ الحياة لمن لجأوا إلى ضفّتيه قبل آلاف السنوات، فجعل منهم شعبًا وأمة، وجعلوا منه إلهًا (حابي)، واشترطوا للعبور إلى حياة الخلود في قوانين ماعت، ألا يكون الشخص قد لوّث مياهَه التي ترتبط في حياتهم بالعديد من المناسبات، مثل عيد شمّ النسيم على ضفافه، لذا يعيش المصري مسكونًا ومفتونًا بالنيل والأنهار، ويسافر كذلك.
وإذا كانت مصر هبة النيل، فإن بانكوك هبة نهر تشاو فرايا بامتياز. ليس شريان الحياة فيها الآن فحسب، بل هو من منحها قبلة الحياة حتى وُجدت، فلولاه ما استوطن التايلانديون هذه المنطقة، ولولاه لما كانت لهم عاصمة فيها.
في القرن الخامس عشر، بدأ التايلانديون في الاستيطان على ضفّتي النهر في المنطقة المعروفة اليوم باسم "بانكوك". بالطبع لم تكن العاصمة في ذلك التوقيت، وكان مركز الحكم في "أيوتايا"، إلا أن الملك تاكسين، أمر بنقل العاصمة إلى المنطقة التي تمّ استيطانها حول تشاو فرايا، والتي عرفت باسم بانكوك، بعد احتلال البورميين للعاصمة أيوتايا.
برنامج سياحي في تشاو فرايا
على إحدى ضفتي نهر تشاو فرايا في العاصمة التايلاندية بانكوك، وأنا واقف في انتظار العبارة التي سأنتقل بها إلى سوق وانغ لانغ، وأفكر في مياه النهر الجارية، والأسماك الكبيرة التي تقفز بالقرب من ضفافه، فوجئتُ برجل الأمن ينبّهني إلى تجاوزي المنطقةَ الآمنة، وهي المنطقة التي تسبق الخطّ الأصفر على المرسى الحديدي، والتي لا يجوز لأحد تجاوزها قبل رسو القارب. وفيما كنت منشغلاً بالتّفكير في هذا القارب الذي يرسو ويعتليه العلمَ البرتقاليّ، كان رجل الأمن يهرول نحو رجلٍ مسنّ يقف بعكّازه على ظهر القارب، ليساعدَه في النّزول.
زرتُ العديد من الأسواق في العاصمة التايلاندية بانكوك، إلا أنّ زيارة سوق وانغ لانغ، كانت على رأس برنامجي في هذه الرحلة؛ فهو يختلف عن معظم أسواق العاصمة بانكوك، لكونه سوقاً محلياً، البطل الرئيسي فيه هو المواطن التايلاندي، وليس السيّاح. حتى وجود بعض الأجانب في السوق، الهدف الأول منه ليس التسوّق، بقدر ما هو مشاهدة والتعرّف على كيف تدور الحياة في الأسواق المحلية في تايلاند، وكيف يتسوّق المواطن التايلاندي، وما هي أهم المنتجات المحلية التي يحرص على شرائها بعيدًا عن تلك التي تكتظّ بها الأسواق السياحية.
يؤمن المصريون أن من يشرب من ماء نهر النيل حتمًا سيعود إليه. والنيل في مصر، هو الحياة وسرُّها؛ هو من منح قبلةَ الحياة لمن لجأوا إلى ضفّتيه قبل آلاف السنوات، فجعل منهم شعبًا وأمة، وجعلوا منه إلهًا، لذا يعيش المصري مسكونًا ومفتونًا بالنّيل والأنهار، ويسافر كذلك
بدأتْ رحلتي بالقارب إلى سوق وانغ لانغ من رصيف راتشاونغز النهري. لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة تقريبًا، مررتُ خلالها من 4 محطات على ضفّتي تشاو فرايا، حتى وصلتُ إلى رصيف بران نوك، أو رصيف رقم 10، حيث السوق، فيما لم تزد التكلفة عن 15 بات (نصف دولار)، هي ثمن تذكرة القارب.
ما أن خرجتُ من المرسى حتّى ابتلعتني شوارع السوق الضيقة المتشابكة التي ذكّرتني بسوق خان الخليلي في مصر. يتنوع العارضون ما بين محلّات صغيرة وعربات أصغر، والمنتَج الذي يتربّع على عرش بضائع وانغ لانغ هو الملابس بأشكالها وألوانها المختلفة والمبهجة.
لا تشغلوا بالكم كثيرًا بموقعكم على الخريطة، تجوّلوا في السوق فقط، ثمّ يمكنكم العودة لأيّ محلّ تريدون، بأخذ كارت منه، والسؤال عن عنوانه عندما تقرّرون العودة.
بعد جولة تسوّق في وانغ لانغ، يمكنكم أخذ استراحة صغيرة وقوفًا على إحدى عربات الطعام أو المسليات في شوارع السوق، لتحظوا بوجبة فواكه استوائية رائعة، أو بعض المكسرات، أو أجنحة الدجاج، وحتى الحلويات المصنوعة على شكل مخللات بصل وزيتون وغيرها.
فيما كنت أقوم بهذه الاستراحة سمعت صوت موسيقى يتعالى في إشارة على اقتراب مصدرها، وإذ بمجموعة أشخاص يرتدون زيًا أزرق، ويعزفون، بينما يمسكون بأطباق ذهبية يوجّهونها نحو الأشخاص في السّوق طالبين التبرّع منهم.
ما أن خرجتُ من المرسى حتّى ابتلعتني شوارع السوق الضيقة المتشابكة التي ذكّرتني بسوق خان الخليلي في مصر. يتنوع العارضون ما بين محلّات صغيرة وعربات أصغر، والمنتَج الذي يتربّع على عرش بضائع وانغ لانغ هو الملابس بأشكالها وألوانها المختلفة
صحيح أنني أسافر ونهر النيل مني محلّ الشريان، إلا أنني لم أقرّر، أو لأكن أكثر دقّة وأقول إنني لم أعرف الانتقال في بانكوك بقوارب نهر تشاو فرايا، حتى سألتُ أحدهم في رحلة سابقة عن الطريقة المثلى للذهاب إلى القصر الكبير (غراند بالاس). كان وقت الذروة، فنصحني الرّجُلُ بالذّهاب بقارب، الأمر الذي لن يحتاج مني سوى أكثر من 15 دقيقة، فيما سأحتاج أكثر من ساعة ونصف للذّهاب إلى الموقع ذاته بالتاكسي، هذا إلى جانب تكلفة التاكسي العالية في هذا التوقيت تحديدًا. حينها قرّرت التجربة، ومنذ ذاك الحين أحسست بألفة مع الأمر.
سواء كنتم من بلاد الأنهار أو الصحاري، فالحقّ أقول لكم، إن الجولة السياحية في بانكوك باستخدام القوارب في نهر تشاو فرايا، ستكون واحدة من أجمل الجولات التي ستقومون بها. وصحيح أن الوصول لكافّة الأماكن السياحية في بانكوك قد لا يكون متاحًا عبر نهر تشاو فرايا، إلا أن الكثير منها، بل وأشهرها على الإطلاق، يقع بالقرب منه.
القارب ذو العلم البرتقالي
على ضفتي نهر تشاو فرايا، ينتشر أكثر من 30 مرسى، شمال وجنوب المرسى الرئيسي، الذي يُدعى ساثورن، ويقع بالقرب من محطّة القطار المعلّق الشهيرة، تاكسين. وعلى كلّ مرسى تنتشر القوارب، ولكن ليست كلُّ القوارب سواء، فلكلٍّ منها علمٌ يحدّد خطّ سيره، وكذلك أسعاره؛ أعلام زرقاء وخضراء وصفراء وبرتقالية. وأيًا كان القارب الذي ستقرّرون استقلاله، يجب أن تسألوا إن كان القارب سيتوجّه إلى محطتكم أم لا.
شخصيًا، أفضّل القارب ذا العلم البرتقالي. هو قارب رخيص، أو لنقُلْ أرخص من ذي العلم الأزرق، ورغم أنّ سعره لا يختلف كثيرًا عن القوارب ذات الأعلام الخضراء والصفراء، حيث تتراوح سعر تذكرته بين 15: 20 بات (نصف دولار)، إلا أنه يتميّز بأن خطَّ سيرِه، يشمل معظم الأماكن السياحية في بانكوك، ويتحرّك كلّ 10 أو 20 دقيقة، من السادسة صباحًا إلى السابعة مساءً.
من أجمل الرّحلات السياحية التي يمكنكم القيام بها عبر نهر تشاو فرايا، زيارة معبد وات آرون. الرحلة لن تتجاوز 15 دقيقة، و15 بات (نصف دولار) من مرسى ساثورن المركزي. زرت وات آرون قبل ذلك، لكنني كنت وصلت إليه بالتاكسي، إلا أن زيارته هذه المرّة عبر القارب كانت مختلفة بشكل كبير، فالنّهر ووقوع المعبد على ضفافه مباشرة، يسمح لكم بالاستمتاع بمشاهدة أبراجه التي يطغى عليها اللون الأبيض، وكذلك بقية مبانيه، من بعيد، وكذلك الاستمتاع بالاقتراب منها، واكتشافها، حتى قبل أن تطأ أقدامكم الضفّة الأخرى للنهر، وتحديدًا رصيف وات آرون.
أماكن سياحية على ضفاف تشاو فرايا
بعد أن تستمتع بجولتِك في معبد الفجر وات آرون، سيكون الوقت مناسبًا تمامًا لزيارة معبد وات بو، وهو الآخر من أشهر معابد بانكوك. لن تحتاج سوى قارب ينقلك إلى الضفة الأخرى من نهر تشاو فرايا، بـ4 بات فقط، وتحديدًا إلى رصيف ثا تين، الذي ستخرجون منه إلى شارع ماها رات، حيث وات بو، والذي يعدّ هو الآخر من أكبر المعابد في بانكوك، ويتميّز بتمثال بوذا المتّكئ الشهير، والذي يصل طوله إلى 46 مترًا، والتمثال بالكامل مغطّى بالذهب.
على بعد 5 دقائق سيرًا على الأقدام من معبد وات بو، يمكنكم زيارة متحف سيام. وهو يقع في مبنى تاريخي أصفر اللون، ويضمّ العديد من القاعات التي تستطيع خلال جولتك فيها التعرّف أكثر على الشخصية التايلاندية، وتاريخ الشعب التايلاندي، كذلك العلاقات الثقافية بي تايلاند وجيرانها.
غراند بالاس أو القصر الكبير، هو درّة التاج السياحي في العاصمة بانكوك، ومقرّ ملوك تايلاند، وتحفة معمارية لا يمكن أن تكتملَ تجربةُ السفر إلى تايلاند دون زيارته، ويمكن الوصول إليه أيضًا عبر مرسى ثا تشانج، أو رصيف رقم 9، الذي يمكن الوصول من خلاله أيضًا إلى معبد وات فرا كايو ومعبد وات ماهاثات.
أينما كان موقعكم الآن، توجّهوا إلى أقرب مرسى، واحجزوا تذكرة جديدة للتوجّه إلى الرصيف رقم 6، حيث الجسر التذكاري المعدني بلونه الأخضر المميز، والذي يمرّ من فوق نهر تشاو فرايا، وهو جسر تاريخي يعود تاريخه إلى عام 1932. والحقيقة أنني أنصحكم بزيارته في وقت الغروب، لكي تستمتعوا بانعكاس أشعّة الشمس البرتقالية والحمراء على صفحة مياه تشاو فرايا.
ورغم متعة الألوان في هذا المشهد، إلا أن الموقع مازال يخفي الكثير من الألوان المبهجة. اذهبوا فورًا إلى سوق الزّهور، الموجود في نفس المكان، والمفتوح على مدار اليوم إلى جوار الجسر. لا تنسوا زيارته، والاستمتاع بزهوره ذات الألوان المبهجة، فـ"لكل لون معنى ومغنى"، كما تغنّى الفنان المصري العظيم، محمد فوزي.
يفصل مرسى راتشاونغز، الذي يمكنكم الوصول إليه من أيّ مرسى آخر، بين شريان الحياة في بانكوك، تشاو فرايا، وشريان الحياة في أهمّ أحيائها وأكثرها حيوية، شارع يوارات، قلب الحي الصينيّ في العاصمة التايلاندية، وهي جولة لا ينبغي لكم أن تضيّعوها، خاصة في المساء. ستشعرون أنكم انتقلتم إلى الصين، حيث اللغة والثقافة والعادات والتقاليد الصينية تسيطر على المكان، وكذلك يمكنكم تجربة أكل الشارع في يوارات، إذا كنتم ترغبون في تجربة المطبخ الصيني.
إذا ذهبتم هذا المساء إلى الحيّ الصيني في بانكوك عبر نهر تشاو فرايا، فإن الذهاب في مساء آخر عبر نفس النّهر، وبالتحديد من خلال مرسى فرا أرثيت، أو رصيف رقم 13، إلى شارع خاو سان، هو فرض عين في شرع الرحالة؛ فالشّارع الأكثر متعة وبهجة، والذي يُعدّ قبلة الرحالة من كل أنحاء العالم، لن تكتمل رحلتك إلى تايلاند كلّها، وليست فقط بانكوك، دون زيارته.
شارع خاو سان، الممتلئ بالهوستيلز والفنادق الرخيصة والمكاتب السياحية والبارات والمطاعم ومراكز المساج والتاتو، هو سبيكة المسافرين والرحالة باختلاف جنسياتهم وثقافاتهم وأعراقهم وأديانهم ولغاتهم، أتوا من كل حدب وصوب، ليجتمعوا هنا سعداء، يغنون، يرقصون، يتشاركون قصصَ رحلاتهم، وينظّمون الرّحلات المقبلة سويًا.
نهر تشاو فرايا، هو شريان الحياة بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى في بانكوك، يقصده التايلانديون في أوقات الذروة وغيرها للانتقال إلى وجهاتهم المختلفة، ويقصده السيّاحُ للانتقال إلى الوجهات السياحية المتنوعة، ويستخدمه المواطنون كذلك في شحن البضائع، وتمخر مياهه السفنُ السياحية التي يمكنكم الاستمتاع بجولة سياحية فاخرة فيها للمرور على الأماكن السياحية المختلفة، أو تناول العشاء أو الغداء على متنها مع الاستمتاع ببرنامج موسيقي لمدة ساعتين أو يزيد، وبالطبع تتفاوت الأسعار حسب فخامة كلِّ سفينة، وكذلك حسب البرنامج الذي يتمّ تقديمه، ووقت العرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...