بدأ الرحالة والصحفي المصري أحمد بلال منذ منتصف شهر يونيو 2019 رحلةً حول العالم بدأتْ من دبي، ويشاركنا في سلسلة من المقالات، الآفاقَ التي يكتشفها خلال هذه الرحلة عبر قسم "رود تريب" في موقعنا.
ليس مستقرًا للحبّ فقط، فالقلب هو أيضًا مسكن الروح؛ وقلب دبي خورها، بل يمكن القول إنه قلبها وشريانها. يعرف العالمُ وجه دبي أبراجًا وناطحات سحاب ومولات تسوق ضخمة ومركز شهير للمال والأعمال، لكن خور دبي يبقى دومًا القلب والشريان، الذي يسري في جسد الإمارة بين ديرة وبرّ دبي، ليمنحها الحياة والروح، كما كان دومًا، ويجمع أيضًا بين العراقة والأصالة.
قبل اكتشاف النفط، كان خور دبي روح المدينة ومتنفسها. يسري في جسد صحراء الإمارة شريانًا، من الخليج فيخفف على أهلها لهيب شمسها. وكان الخور كذلك حياة الإمارة وأهلها، يجلسون على ضفتيه، في انتظار القوارب المحملة بالبضائع. ويعتمدون عليه كذلك في كسب رزقهم، عن طريق صيد المحار، وبيع اللؤلؤ الذي اشتهرت به دبي، وكان يمثل 95% من دخلها.
أثناء تخطيطي لرحلتي إلى الإمارات كمحطة أولى في جولة آسيوية طويلة، لم يشغل مكانًا في دبي بالي كما حدث مع الخور. أكثر ما يمتعني في السفر، هو التعرف على المدن والمعالم القديمة، بدونها لا أشعر أنني زرت الدولة، حتى لو أقمت على أفخم شواطئها، أو في أجمل أبراجها وناطحات سحابها. المدن والمعالم القديمة هي روح الدول، لذلك كنت أنتظر جدًا هذه الرحلة البحرية في شريان دبي.
إلى جانب الأصالة والتراث، فإن هناك جانب آخر لزيارة خور دبي يهم المسافرين من ذوي الميزانيات المحدودة مثلي، هو أن تكلفة تذكرة القارب الخشبي، أو العبرة، كما يطلقون عليه هنا، لا تتعدى درهم واحد (ربع دولار)، لتكون بذلك أرخص رحلة يمكنك القيام بها في دبي، بل دعني أقول لك، لتكون أرخص شيء تقريبًا في إمارة المال والأعمال، ولكي تكون قادرًا على تصور القيمة، دعني أخبرك أن بثمن ساندوتش شاورما واحد في دبي يمكنك القيام بـ 8: 12 رحلة بين ضفتي الخور بالقارب.
قبل القيام بالرحلة، قررت التجول على ضفة الخور الذي يمتد لمسافة 15 كيلو متر في قلب الإمارة. أقف الآن على شاطئ الخور من ناحية ديرة، لوهلة ستشعر أن الزمن عاد بك إلى الوراء. سفن خشبية قديمة على الطراز العربي، تذكرك بقصص البحارة والقراصنة التي نشاهدها في الأفلام ونقرأ عنها في القصص. والحقيقة أن الإماراتيين أهل بحر، عرفوه غواصون يبحثون عن اللؤلؤ، وصيادون، وصناع سفن، وتجار يركبون الموج لسواحل الدول القريبة ليبيعون ويشترون.
على كل حال، إلى جانب السفن القديمة التي يتميز معظمها بدرجات اللون الأزرق المختلفة، تقف الشاحنات، وأطنان من البضائع التي يتم تحميلها (أو تفريغها). تقصد هذه السفن (وتأتي) سواحل العديد من الدول القريبة من الإمارات، إلا أن السواحل الإيرانية تحتفظ لنفسها بنصيب الأسد من هذه التجارة. صحيح أن الإمارات مهتمة بالحفاظ على هذه السفن التجارية بشكلها التراثي القديم، رغم وجود السفن الضخمة وتطور وسائل الشحن والتفريغ، إلا أن التجار أيضًا يفضلونها، فسعر الشحن عليها يقل بحوالي 20% عن أسعار الشحن في السفن الحديثة.
قبل اكتشاف النفط، كان خور دبي روح المدينة ومتنفسها، وحياة الإمارة وأهلها، يجلسون على ضفتيه ينتظرون قوارب البضائع
رحلة الخور
تقف القوارب الخشبية، أو العبرات كما يسمونها في دبي، يرفرف علم الإمارات فوق كل منها، وتحمل المظلة التي تحمي ركابها من أشعة الشمس اسم دبي. عمل القوارب منظم جدًا، لكل منها مكانه ورقمه ودوره، وبينما ينتظر قائد القارب ذو الملامح الهندية اكتمال عدد قاربه، تمخر الخور قوارب أخرى جيئة وذهابًا بين ضفتيه، حاملة أكثر من 40 ألف راكب كل يوم، يصلون في أيام الإجازات إلى 60 ألف.
على ممشى صغير يصل إلى مترين قريبًا داخل الخور "سرت"، حتى وصلت القارب الخشبي، لتبدأ الرحلة. يحمل القارب 20 شخصًا أو يزيد قليلًا، والمكان المفضل فيه هو المقدمة إذا كنت من هواة التصوير.
الجميع يجلس الآن على حافة هذا المستطيل المرتفع قليلًا بطول القارب، وما أن يتحرك حتى ترتفع الأيدي بالكاميرات والتليفونات المحمولة، لالتقاط الصور والسيلفي.
يبتعد القارب عن ضفة ويقترب من أخرى، وأبتعد معه عن واقع الأبراج الشاهقة في ديرة، وأقترب من المدينة القديمة في بر دبي، تحملني مياه الخور بأمواجها الهادئة، تداعب القارب ومن حمل، تتوزع النظرات بين ضفة تبتعد وأخرى تقترب، وقبل أن أصلها أصل بخيالي إلى هؤلاء الذي كانوا يجلسون على ضفتي الخور ينتظرون البضائع الواردة من هنا وهناك، وأعجب جدًا بأصالة الإماراتيين الذين يتذكرون هذه الأيام ويعتزون بها لدرجة أنهم حافظوا على القوارب كما هي، ويستخدمونها اليوم كمرفق نقل ومعلم سياحي هام.
على جانبي سوق "بر دبي"، يقف الباعة ذوي الخلفيات الثقافية المختلفة، هنود وباكستانيون وإيرانيون، تنعكس ثقافتهم على بضائعهم، فالشال الكشميري يجاور تماثيل بوذا الهندية مع الزعفران الإيراني
دبي القديمة
يرسو القارب، ولكل قارب مرساه، قبل أن تطأ قدمك ضفة بر دبي، يلفت نظرك البيوت القديمة وفن الأرابيسك في نوافذها. أنا الآن في سوق بر دبي القديم، يشبه إلى حد ما شارع الخان الخليلي في مصر، إلا أنه أكثر اتساعًا، السوق مسقوف، والأرضية بالحجر الأسود، والسلع المعروضة في معظمها تراثية، إلا أن الذهب والملابس والتوابل والعطور يتربعون على عرش بضائع سوق بر دبي القديم.
على جانبي السوق، يقف الباعة ذوي الخلفيات الثقافية المختلفة، هنود وباكستانيون وإيرانيون، تنعكس ثقافتهم على بضائعهم، فالشال الكشميري يجاور تماثيل بوذا الهندية مع الزعفران الإيراني، إلى جانب بعض المنتجات التي تشير إلى دبي، والثقافة الإماراتية.
بينما تسير في أروقة السوق القديم، تتسلل رائحة البخور الشرقي إلى أنفك، فيما تريح عينيك الألوان المختلفة سواء في التوابل أو الأقمشة، وعلى الجانبين تعرض التحف والملابس والأواني المزخرفة، ليكتمل المشهد وكأنه لوحة فنية شرقية.
الكورنيش والمطاعم العائمة
استمتعت برحلة العودة بالقارب الخشبي على مياه خور دبي من برها إلى ديرة مساءً، إلا أنني فوجئت أن الرحلة لم تنته بعد. كورنيش الخور رحلة أخرى في حد ذاتها، يقصده المواطنون والمقيمون للاستمتاع بإطلالته على خور دبي، يريح عينيك بلونه الأخضر مع لون مياه الخور الزرقاء، لم أكن وحيدًا ولن تكون، فأينما تولي وجهك فثم وجوه تحمل ملامح قوميات مختلفة، أتت من كل مكان للاستمتاع بليل هادئ على ضفاف الخور.
الساعة الآن تتجاوز الواحدة ليلًا، إلا أن كثيرين أبوا إلا أن يستمتعوا بهذا المكان حتى هذا التوقيت، وفي أمان تام.
لن تكتمل رحلة الخور إلا بتناول العشاء على إحدى هذه السفن الخشبية ذات الطراز التراثي العربي، في جولة بحرية بخور دبي قد تستمر الساعتين، ولكل سفينة منها برنامجها، ومتوسط سعر الوجبة للفرد الواحد حوالي 100 درهم إماراتي (27 دولار أمريكي). أخبرتني صديقة مقيمة بالإمارات أن للخور جمال خاص في شهر رمضان، حيث تبحر هذه السفن وقت الإفطار في الخور، لتتناول طعامك في هذه الأجواء الممتعة.
نسيت أن أخبركم أن زيارة حديقة الخور أمر لا يجب أن يفوتكم، سواء كنت تريد قضاء وقت رومانسي أو حتى حفل شواء، فهذا هو المكان المناسب تمامًا. مساحات خضراء واسعة، وأماكن لعب مخصصة للأطفال، إلى جانب "دبي دولفيناريوم"، حيث تستمتع بأجمل عروض الدلافين، وكذلك تلفريك الخور، الذي يمكنك من مشاهدة الخور وقواربه وسفنه من على ارتفاع 30 مترًا.
وللحقيقة، يبدو أن لخور دبي مكانة خاصة في قلوب الإماراتيين وخاصة حكومة دبي، حيث قررت افتتاح برج خور دبي، الذي يجري بنائه حاليًا في 2020، بتكلفة تصل إلى مليار دولار. وهو البرج الذي سيكسر الرقم القياسي لبرج خليفة كأطول برج في العالم.
مكانة خور دبي في قلوب الإماراتيين تدل على مكانته كقلب وشريان لإمارة الأرقام القياسية، ورحلته هي الأرخص فيها، فقط درهم واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...