شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قوافل الجمال من السودان إلى القاهرة... رحلة الصبر و

قوافل الجمال من السودان إلى القاهرة... رحلة الصبر و"التجارة الطاهرة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 17 أغسطس 201901:38 ص

تمتلئ الأسواق بالجمال ولحومها، خاصة مع اقتراب الأعياد والمناسبات، لكنّ قبل كلّ ذلك تبدأ رحلة طويلة وشاقّة من أقاصي الجنوب إلى بقية محافظات مصر، السوق الأكثر تداولًا للإبل.

راعي الإبل بسوق الجمال في مدينة الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي  

عبر طرق قاحلة في الصّحراء تتحرّك قوافل الجمال من مراعي السودان طيلة 12 يومًا، تُساق بريًا لمسافات طويلة، وتمر بعدَّة مدن متباعدة، ثم بالحدود حتى الدخول إلى مدينة الشلاتين المصرية، في رحلة تُعد من الثوابت التاريخية بين البلدين منذ مئات السنين.

حافظت الشلاتين على مكانتها لسنوات طويلة كإحدى أهمّ مناطق تجارة الإبل في مصر، ومركزها الأساسي. تتوافد القوافل، تجمُّعات كبيرة هنا وهناك حول الطعام والشراب، تركض الجمال، تعلو أصواتها، يلاحظها مجموعة من الرعاة في حركة دؤوبة، وأدوار منظمة.

الجمال بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي 

يستيقظ علي (23 عامًا) في الخامسة من فجر كلّ يوم، يرتدي زيّه الشلاتيني، جلباب أبيض واسع، ومعطف بلا أكمام يسمّونه "صديري" لونه أسود. يستقبل إبل التجَّار، ويعمل على رعايتها، مهنة اعتاد عليها منذ طفولته.

يرتبط عمل أغلب أهالي مثلث حلايب وشلاتين بالرعي داخل الوديان أو التنقيب عن الذهب في الجبال، أعمال شاقَّة لا تكون إلا في بيئة جافَّة، شمسها عمودية طوال الوقت، لذا تحتاج لمجهود كبير، وتعوّد منذ الصغر لتعملها.

مثل الكثير من أقرانه، تَرَك علي المدرسة قبل أن يُنهي  الابتدائية، التعليم الأساسي، ليعيش مع والده تحت الشمس، ووسط الإبل، يرعاها، ويشرب من ألبانها حتى اشتدّ واستقام عوده، وكعادة أسرته وأقاربه تزوج مع بلوغ عامه العشرين، أنجب بعدها ولدًا أسماه "كرَّار"، يعمل طوال الأسبوع من أجله: "لازم يتعلم، آه ورثت رعي الجمال أبًا عن جد بس ابني لازم يكون له حال أفضل".

تدخل الجمال مصر بأوراق حكومية "محضر"، مُثبَت فيها عدد الرؤوس وحالتها الصحية، إضافة لاسم التاجر، ليتولى أمرها  علي وزملائه، يضعون أمامها الطعام والشراب، يوزعون أمامهم قوالب التبن والحشائش، ويراقبونها تحت الشمس حتى تُجهَّز للشحن والتوزيع.

علي وزميله ينقلون الحشائش للإبل- تصوير: أحمد فتحي

في الشتاء تكون المراعي طبيعية، وينتشر اللون الأخضر في الصحراء بسبب الأمطار،  يقول علي لرصيف22:"الأرض بتطلّع نبات رطب لوحدها بيكون فيه مياه كتيرة، بنطلق البهايم في الشلاتين كلها، تاكل من خيرها وتشرب من تجمعات المطر".

الجمال تأكل الحشائش والتبن بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي

درب الأربعين

منذ عدة عقود كانت قوافل الإبل تتحرك في طريق تاريخي يربط بين مصر والسودان، يُسمَّى "درب الأربعين"، نسبة إلى الرحلة التي كانت تستغرق 40 يومًا بوجود كبار التجار، وسط أهازيج، وأناشيد تراثية يردّدها الرّعاة.

ظلَّت الجمال حتى وقت قريب الوسيلة الوحيدة لنقل الأهالي من مثلث حلايب وشلاتين إلى محافظات صعيد مصري، كانوا ينتظرون مواعيد القوافل المتجهة إلى أسوان لتنقلهم في رحلة تستغرق نحو 6 أيام، يقضونها ما بين الاستراحات والتحركات والوجهات التي تقف عندها القوافل.

تجمعات الإبل بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي 

المحجر

بالكاد أنهى عيسى (27 عاماً) المرحلة الابتدائية، جرَّب العمل في أكثر من مجال، وحينما بلغ 15 عامًا استقر على رعي الإبل.

ظروف عيسى تشبه زميله علي، أنجب ولدين "محمد ومختار"، أدخل الكبير مدرسة الشلاتين الابتدائية، والصغير يذهب للكُتَّاب في انتظار أن يُلحق بأخيه.

عيسى داخل محجر الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي 

يقول عيسى لرصيف22 إنَّ الإبل تظلّ في السوق من 15 إلى 20 يوماً، يعيشها ما بين الرعي والتأكد من سلامتها الصحية، وتدخل خلالها "المحجر"، وتبدأ إجراءات الحجر الصحي بأخذ عينات الدم لفحصها.

تأتي الرؤوس من السودان وفي آذانها قطع بلاستيكية مكتوب عليها أرقام وحروف إنجليزية، وبعد التأكد من الكشف وسلامتها يُختم على فخذها الأيمن بواسطة مكواة حديدية، "الجمل يمشي من هنا نضيف ما فيه خدش"، يؤكّد عيسى.

الإبل داخل محجر الشلاتين- تصوير أحمد فتحي 

تأخير نتائج الفحوصات البيطرية من أكثر العقبات التي تواجه الرعاة بشكل عام، خاصَّة التجَّار، طوال فترة انتظار النتائج، والبقاء في المحجر مدة قد تصل إلى 10 أيام، وذلك يعني توفير طعام إضافي، ونقل كمية مياه أكبر من محطة الشلاتين للتحلية قرب شاطئ البحر الأحمر، ممّا يعود عليهم في النهاية بزيادة في التكلفة والمصروفات.

قوافل الإبل تتحرك في طريق تاريخي يربط بين مصر والسودان، يُسمَّى "درب الأربعين"، نسبة إلى الرحلة التي كانت تستغرق 40 يومًا بوجود كبار التجار، وسط أهازيج، وأناشيد تراثية يردّدها الرّعاة

تجمع الإبل حول أحواض المياه- تصوير أحمد فتحي 

شحن وتوزيع

تتفاوت أسعار الإبل حسب العمر وكمية اللحم، ويزداد الطلب على الجمال الصغيرة، ويتراوح سعرها بين 15 و 20 ألف جنيه  (بين 900 و 1200 دولار تقريباً) للرأس الواحدة، ويُعرف عمر الإبل عن طريق عدد أسنانها، أمَّا عدد الأنياب فيشير إلى التقدم في العمر، وتكون أسعارها حينئذ بين 20 و 25 ألف جنيه (بين ألف وألف ومائتي دولار) ، يختلف الأمر بالنسبة للناقة التي تحمل جملًا أو التي تُدرَّ لبنًا، فيكون لها أسعار أخرى، ووضع آخر.

يطلق رعاة الشلاتين على الجمل الذكر اسم "أوكام"، والناقة تُسمّى "توكام"، وذلك في اللغة البجاوية التي تتحدث بها أشهر القبائل المنتشرة في جنوب شرق مصر وشمال شرق السودان، والمتعارف عليه بين الرعاة أنَّ الجمل الكبير يسمَّى "ناب"، أمَّا صغير السن يطلقون عليه "قاعود"، وتكون لديه فرص أكبر في زيادة النمو واللحم.

الإبل الصغيرة بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي 

بانتهاء التفاوض والاتفاق على الأسعار تبدأ مهمة أخرى للرعاة، وهي تحميل الجمال على العربات، عملية تتكرر يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع، لتبدأ "رحلة الصبر"، ونقلها حيث وجهة التاجر، سواء لأسوان أو محافظات الوجه القبلي أو سوق برقاش بالجيزة.

مجموعة من التجار بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي 

علي وعيسى لم يزورا القاهرة من قبل، لكن كل منهما يرى أنَّ الحياة في العاصمة سريعة، ولها شكل واحد، ورغم ازدحامها، وسرعة الأحداث فيها فإنَّ  تفكير الشباب بالزواج، وتكوين أسرة، وتحمّل المسئولية يبدأ متأخرًا.

يتقاضى كلّ منهما نحو 120 جنيًها كأجرة يومية مقابل عملهما، يذهبان إلى البيت جوار السوق مع الغروب، ويواصلان العمل في اليوم التالي.

أحد الرعاة يتجول بين الإبل- تصوير: أحمد فتحي

"برقاش" أكبر الأسواق

تنطلق شحنات الإبل بعد الخروج من الشلاتين إلى وجهاتها التالية، يذهب جزء إلى مدينة "دراو" بمحافظة أسوان، وهي من أشهر وأكبر أسواق تجارة الجمال في مصر، إضافة إلى سوق محافظة سوهاج التي يقصدها تجَّار، وفلاحو الوجه القبلي.

إحدى الحمولات الخفيفة المنقولة من سوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي

شمال غرب محافظة الجيزة يقع سوق "برقاش"، تُنصَب المزادات في كل ّركن، وترتفع أصوات التجَّار، مشهد يتكرّر يوم الجمعة من كل أسبوع، ويصل لذروته قبل حلول عيد الأضحى.

بجوار بضعة جمال يقف مصطفى أبو سعد (33 عامًا) جاء من مدينة "فرشوط" بمحافظة قنا، يعمل في تجارة الإبل بعد خبرة راكمها منذ العاشرة من عمره، ورغم حصوله على مؤهل متوسّط، فإنه يُفضِّل العمل في مهنة أبيه وأجداده.

يحكي أبو سعد تاريخ السوق الذي كان مقرّه في إمبابة طيلة 40 عامًا، ثمَّ بعدها نُقل للبراجيل، وظلّ فيها لأكثر من 35 عامًا، ومنذ 25 عامًا تمَّ نقله إلى "برقاش" حتى الآن، مشيرًا إلى أنَّه أكبر سوق لتجارة الإبل في مصر، وذلك لكبر مساحته، وتعدّد الحظائر، وتنوّع سلالات الجمال فيها، أكثرها السوداني، ثم الصومالي، والبلدي الذي يأتي من الوجه القبلي.


"تجارة طاهرة"

يضاف للجمل الواحد نحو 1500 جنيه (حوالي 85 دولار) على ثمنه الأصلي، تكاليف الجمارك عند المعبر والنقل من الشلاتين إلى برقاش في رحلة تستغرق من 3 إلى 5 أيام، إضافة إلى استفادة عدة مهن أخرى من هذه التجارة كالسائقين، وأصحاب السيارات، ورعاة يحرسون السوق ليلًا، والسماسرة والتجار والجزَّارين.

يدخل السوق في الأيام العادية من ألفين إلى ثلاثة آلاف جمل كل أسبوع، وفي المواسم يتضاعف العدد ليصل إلى نحو 5 آلاف.

تتعدد الأنواع لكن الأفضل لحمًا، والأغلى ثمناً، هو الجمل المغربي، ثم البلدي، وهو الذي يأتي من السودان، ويتمّ علفه، وتسمينه بالحقول المصرية، وبعدهم يأتي لحم الجمل السوداني، وكما يقولون: "تجارة طاهرة.. أفضل لحم وأحلى لبن تاخده من الإبل".


يقول  أبو سعد إنهم يواجهون صعوبة أحيانًا في تحريك الجمال، لذا يستخدمون العصا في توجيهها، "السوداني طبعه هادي، والبلدي بربيه على ايدي، وبوجّهه، أمَّا الصومالي صعب في التعامل، ولازم الحذر معاه لأنه غشيم".

"السوداني طبعه هادي، والبلدي باربِّيه على ايدي، وبوجّهه، أمَّا الصومالي صعب في التعامل، ولازم الحذر معاه لأنه غشيم" أبو سعد عن سوق الجمال في القاهرة.

آفة تهدِّد نشاط السوق

يشير مصطفى إلى أن حركة البيع والشراء مستقرّة في السوق، ورغم زيادة أسعار البنزين، والنقل فإنَّ الأمر لم يكن له تأثيرًا ملحوظًا على أسعار الرؤوس واللحوم.

هناك عامل يهدِّد نشاط السوق، فالجزّارون يبيعون نفس نوع اللحم بأسعار مختلفة، "في جزار بيبيع الكيلو بـ120، وواحد تاني بيبيع بـ100، لو باعها بما يرضي الله بـ90  جنيه هايبقى كسبان فيها".

بهذه الأسعار المرتفعة يعزف كثيرون عن شراء اللحوم، ما ينعكس على سحب البهائم الحية خارجها، فتركد حركة أسواق الإبل، يختتم مصطفى كلامه: "لو في رقابة كله هايبيع زي بعضه، والفقير هياكل، والجزارين هايكسبوا"..

إبل سوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي


داخل المحجر- تصوير: أحمد فتحي

تجمعات الإبل بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي

تجمعات الإبل بسوق الشلاتين- تصوير: أحمد فتحي


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image